الشيخة أم نايف تعود إلى سوريا..!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
برزت صورتان في المجتمع السوري قبيل رحيل الانتداب الفرنسي، وبعد عراك مرير بقيت إحداهما معلقة على جدار الذاكرة السورية، بإرادة أغلبية المجتمع السوري، المتسامحة، ريفا ومدينة.
الصورة الأولى. في المجلد الأول من مذكرات السياسي السوري الراحل أكرم الحوراني حديث عن طفولته ودراسته الابتدائية. يقول في نص تحت عنوان (أيام كئيبة عند الشيخة): " لم يكن في حماه في أواخر العهد العثماني سوى مدرسة إعدادية واحدة لا تتجاوز صفوفها الصف السابع إلى جانب مدرسة أو مدرستين ابتدائيتين لم تكونا تقبلان من الأطفال من هم في مثل سني، ولم يكن ثمة رياض للأطفال فأرسلني أهلي إلى كتّاب "الشيخة أم نايف" القريب من منزلنا لأتعلم القرآن، ولا تزال صورة ذلك الكتّاب الكئيب المقيت ماثلة في ذهني، فقد كنت أحشر مع عشرات الأطفال الصغار في غرفة ضيقة جالسين على الحصير ومع كل منا كيسه القماشي الصغير الذي يضم طعام الغداء وجزء عم".
ويتابع :" كان أهلنا يتصورون أن الشيخة أم نايف تعلمنا القرآن بعصاها وقسوتها وإرهابها، على أنها رحمها الله كانت فوق كل ذلك تشغلنا بتنقية حبوب الحمص لأن زوجها كان حمصانيا.. لذلك كنت أكره الشيخة وأكره الذهاب إليها لكن أهلي كانوا يرغمونني على المواظبة، وكثيرا ما كان الناس الجياع يخطفون كيسي وما فيه من طعام وأنا في طريقي إلى الشيخة، فقد كانت المجاعة تجتاح المدينة خلال الحرب العالمية الأولى، ولا أزال أذكر أنني شاهدت في الطريق امرأة تقطع اللحم من جيفة متفسخة وحولها أطفالها الصغار يتضورون جوعا ويبكون".
وأما الصورة الثانية، فيمكن أن نكتشفها من كلام الحوراني في المجلد الأول أيضا، عندما يتحدث عن شيخ من مدينة حماة، أصدر الصحف، وكان متطورا في تفكيره ومتسامحا ومعتدلا. يقول متحدثا في البداية عن الحركة الشعبية ضد الفرنسيين :".. في الوقت الذي كانت فيه قيادة الحركة الشعبية التقدمية بيد فريق من العلماء "رجال الدين" أمثال الشيخ عبد القادر عدي، والد رفيقنا الاستاذ علي عدي، والشيخ حسن رزق، والشيخ أحمد الصابوني والشيخ سعيد الجابي الذي حارب الافكار الدينية الخرافية.."
ثم يتحدث عن الشيخ الحموي قائلا :" كان الشيخ حسن رزق صديقا لوالدي، ولا زلنا نحتفظ باللوحة التي كتبها بخط يده الجميل وشعره البديع يهنئه فيها بولادة أخي الأكبر محيي الدين، على الطريقة القديمة في حساب تاريخ الولادة بالأحرف الأبجدية، وقد اطلعت على اعداد جريدة "الانسانية" التي كان يصدرها في حماه قبل الحرب العالمية الأولى. ولا زلت مندهشا لمستوى تلك المقالات التي كان يكتبها بفكر ديمقراطي تقدمي إنساني... وفي هذه الجريدة مقالات جيدة عن "تعليم البنات" والدعوة له، والتبشير بالتطور والنشوء والارتقاء وعرض للنظريات الحديثة بصدد تكون الأرض..".
ومنذ الاستقلال، تمسك المجتمع السوري بالصورة الثانية، ولولا ذلك لكان البرلمان السوري خضع لقلة من رجال الدين الذين طالبوا بتكفير الشاعر نزار قباني في الخمسينيات من القرن المنصرم بعد قصديته " خبز وحشيش وقمر". لكن فيما يبدو أن العراك سيعود مرة أخرى بين الصورتين، خاصة بعد الحوادث الإرهابية التي حصلت مؤخرا في سوريا، والتي تتزامن مع ظواهر في الشوارع السورية تشير إلى توجه عدد من الشباب السوري إلى عالم التطرّف، وهذا ما يعكسه الزي الذين يرتدونه، وهو زي تقليدي يفضل المتطرفون ارتداءه، فضلا عن الاهتمام بخطب أو كتيبات تبدأ بكلام طيب وتنتهي بالدعوات للقتل!
شوارع مكتظة , "بسطات" ثابتة أو متحركة لبيع الخضار والفواكه أو الأشرطة الغنائية، من مارسيل خليفة حتى فيروز وعلي الديك، وكذلك أشرطة المقرئ الشيخ الراحل عبد الباسط عبد الصمد في صوته العذب والرائع وهو يقرأ القرآن. حتى هنا الأمور تجري بخير. لكن ما يحصل الآن أن ثمة خطبا وأشرطة صارت تنافس أغاني مارسيل وفيروز وصوت عبد الباسط.. وبعض هذه الأشرطة والكتيبات التي تحتوي خطبا يمكن أن تنتهي بقارئها أو مستمعها إلى ما انتهت إليه حال أربعة شباب سوريين قرروا تفجير السفارة الأمريكية منذ أيام..
لقد كان مخططهم السفارة الأمريكية في العملية التي استبسل فيها عناصر الأمن السوريين وأفشلوها. ولكن من يعلم عن مخططاتهم القادمة؟ ربما يبدأ التدخل في حياة السوريين ومحاولة فرض طريقة عيش على الشباب، وأقصد النساء بشكل خاص والاعتداء على فتيات لا يلبسن كما يريدون، أو مهاجمة مصالح حكومية..؟
إن الآراء التي تقول بأن النظام يحتضن هؤلاء المتطرفين تفتقر للمنطق والحيادية في التعامل مع ما يجري في سوريا، وهذه تبقى اتهامات بلا أدلة، وما كانت الحكومة الأمريكية- والتي هي على عداء تام مع نظام سوريا- لتشكر الحكومة السورية على إحباط هذ العملية لو كان لديها أدنى شك أن "الحكومة تحتضن هؤلاء"- كما يزعم بعض المعارضين للنظام.
وقبل توجيه هذه الاتهامات يجب معرفة واقع البؤر الاسلامية في سوريا، وبشكل خاص السرية منها. وإذا كانت وسائل الاعلام تتناول دائما تنظيم "جند الشام"، فثمة حركات أخرى أكثر خطورة على سوريا، وهي حركات تكفّر الآخر مهما كان - حكومة أو شعبا- وتسعى لبث الذعر في كل مكان، مثل التوحيد والجهاد أو ما يسمى "تنظيم القاعدة بجناحه السوري"، ولكن حتى الآن لم نسمع عن عمليات لهذا التنظيم، وربما تكون العملية الأخيرة من تخطيط هذا التنظيم وتنفيذه.
وبالعودة إلى التغير اللافت في سوريا من حيث انتشار بعض الأشرطة والكتيبات التي تؤثر على الجيل الشاب وتدفعه للتطرف والتقوقع والانغلاق، وبعد ذلك الانفجار ضد البلد، فثمة من يقف وراءه من متطرفين يشبهون "الشيخة أم نايف"، التي اكتشف السياسي السوري الراحل أكرم الحوراني أنها لا تعلّم الطلاب قراءة القرآن كما هو شائع وإنما تجبرهم على العمل في "تنقية حبوب الحمّص". وهؤلاء يعملون بشكل سري وخطير عبر أخطر وسيلة وهي استغلال الشباب السوري، لضرب البلد وأهل والبلد وحكومة البلد ومصالحه إلى أن يحققوا مرادهم في أن تصبح سوريا كلها تعمل "في تنقية الحمّص"! .
صحيح أن التاريخ أثبت أن المجتمع السوري هو مجتمع متسامح، والتعايش الديني الموجود في سوريا مثال يحتذى، ولكن يجب أن تقوم الحكومة السورية بإجراءات وقائية وعاجلة ضد كل من يحاول بث أفكار الانغلاق والرعب والقتل في أذهان جيل سوري برئ، بداية بمنع أي كتيبات أو خطب أو أشرطة فيها كلمة واحدة متطرفة وليس انتهاء بتأمين فرص العمل لهؤلاء الشباب وإنعاش حياتهم حتى لا يقعوا فريسة لأي تنظيم أو جهة خارجية..
دمشق جميلة بقهوة الصباح والناس العاديين وبسطات الفجل والخس والفلافل وأصوات مارسيل وفيروز وتجويد عبد الباسط الذي يدخل القلب، ولا مخافة على جمالها واستقرارها إلا من الأشرطة والكتيبات والجماعات التكفيرية التي تكفّر الآخر.