الحكومة الفلسطينية... والحاجة ألى الوضوح
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يستمر الوضع الفلسطيني في التدهور، علماً بأنّه كان مهمّاً التخلص من الحكومة الفلسطينية الحالية التي شكلّتها "حماس" أثر فوزها في الأنتخابات التشريعية الأخيرة. كان من حقّ "حماس" تجربة حظّها مع الحكم وممارسة مسؤولية السلطة. وقد تبيّن أنها غير صالحة لذلك لسبب في غاية البساطة أنّها أرادت تحدي العالم في ظروف في غاية الدقة والخطورة على الصعيدين الأقليمي والعربي. والأكيد أنّه لو لم يدرك جناح "حماس" في الداخل أن الأسرة الدولية ترفض فك الحصار الظالم الذي يتعرّض له الشعب الفلسطيني وستتابع الضغط على الفلسطينيين عموماً، لما كانت قبلت بأستبدال الحكومة الحالية. نعم أنّه حصار ظالم، ولكن ما العمل مع حركة تصرّ على تشكيل حكومة وأتباع سياسة معيّنة تريد فرضها على عالم لا يقبل بمثل هذا التوجّه.
أتخّذ رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية السيّد محمود عبّاس (أبو مازن) موقفاً عاقلاً عندما أعاد تكليف السيّد أسماعيل هنيّة تشكيل الحكومة التي يتوقّع أن تضمّ هذه المرّة أن تضم شخصيّات تمثّل المكوّنات االسياسية المختلفة...هذا أذا أمكن تشكيل حكومة. في النهاية لا يستطيع رئيس السلطة الوطنيّة الفلسطينية التهرّب من أن أكثرية أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني رشّحت هنية لمنصب رئيس الوزراء. أنّه واقع لا يستطيع تجاوزه على الرغم من أنّ عودة قيادي من "حماس" ألى رئاسة الحكومة لا يبشّر بالخير في غياب القدرة لدى قيادة الحركة التي تعاني من أنقسامات داخلية وتجاذبات شديدة، خصوصاً بين الداخل والخارج، على أتخاذ قرار واضح في شأن الأستراتيجيّة السياسية الواجب أعتمادها. كذلك كانت الرئاسة الفلسطينية مدركة للمخاطر التي يمكن أن تنجم عن تشكيل حكومة من أجل تشكيل حكومة ومتابعة قول الكلام غير المفهوم الذي لا معنى له من نوع تلك التصريحات التي تعني الشيء وعكسه . أنّها تصريحات لا تستهدف سوى أقناع "حماس" جمهورها بأنّها لا تزال تريد تحرير فلسطين من البحر ألى النهر ومن النهر ألى البحر لا فارق، فيما عدد لا بأس به من نوّابها ووزرائها في السجون الأسرائيلية. ولأنّ الرئاسة تدرك هذه المخاطر، جمّدت عملية تشكيل الحكومة موقّتاً في أنتظار معرفة ما الذي تريده "حماس" فعلاً وهل تستطيع أتخاذ قرار واضح وحاسم في شأن ما تريده، أم الطلوب سماع موقف من هذا المسؤول "الحماسي" أو ذاك ثم سماع نقسضه من مسؤول آخر في الداخل أو في الخارج.
ما يبدو ملحّاً على الصعيد الفلسطيني يتجاوز بكثير حكومة الوحدة الوطنية التي يُخشى في حال تشكيلها في ظروف يشوبها الغموض أن تُكرّس حال الشلل التي أدّت حتى الآن ألى تدهور الأوضاع الفلسطينية بشكل لا مثيل له. يتمثّل الأمر الملحّ في هذه المرحلة الدقيقة التي تمرّ فيها القضيّة العربية الأمّ في أيجاد برنامج سياسي معقول ومقبول من العالم تنتهجه الحكومة الفلسطينية. الأكيد أن الأسرة الدوليّة لم تقاطع الحكومة الفلسطينية الحالية لأنّها حكومة "حماس". لقد قاطع العالم الحكومة الفلسطينية وقطع رغيف الخبز عن الشعب الفلسطيني لأنّ الحكومة الفلسطينية برئاسة أسماعيل هنيّة رفضت ألتزام الأتفاقات الموقعة بين الجانبين الفلسطيني والأسرائيلي بما في ذلك وجود أعتراف متبادل بين الجانبين. أكثر من ذلك، أطلقت هذه الحكومة شعارات تدرك جيّداً أنّها غير قابلة للتنفيذ حتى في الأحلام. لم تفهم حكومة هنيّة المستقيلة أن الحكومة الأسرائيلية أعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية بموجب أتفاق أوسلو الموقع قبل ثلاث عشرة سنة بالتمام والكمال، ومنظمة التحرير أعترفت في المقابل بأسرائيل.
ثمة من سيقول أن المسألة مرتبطة بمنظمة التحرير وليس بالحكومة الفلسطينية. يمكن أن يكون هذا الكلام صحيحاً لو لم تكن الحكومة الفلسطينية منبثقة عن أنتخابات حرّة أُجريت بموجب أتفاق أوسلو. وثمّة من سيقول أن أسرائيل لا تحترم الأتفاقات الموقعة، لماذا أذا على الجانب الفلسطيني أحترامها؟ هذا صحيح ألى حدّ كبير وأسرائيل لم تمارس سوى أرهاب الدولة خصوصاً منذ قتل متطرف أسرائيلي يدعى ييغال عمير رئيس الوزراء الأسرائيلي أسحق رابين الذي وقّع أتفاق أوسلو مع الشهيد ياسرعرفات الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، رحمه الله، في حديقة البيت الأبيض في الثالث عشر من أيلول - سبتمبر 1993 . لكنّ المشكلة تكمن في أنّ للشعب الفلسطيني مصلحة في أحترام الأتفاقات الموقّعة لأنّ لا مفر من ذلك، أقلّه من أجل أن يدرك العالم من هو القاتل ومن هو الضحيّة. المؤسف أن السياسة التي أتبعتها "حماس" حتى الآن ساهمت ألى حدّ كبير في جعل القاتل الضحيّة والضحية القاتل. أضافة ألى ذلك لا يمكن تجاهل أن العالم ظالم وأنّ لا بدّ من التعاطي معه على هذا الأساس في ضوء عدم القدرة على تغييره. في النهاية، أن الجيش الأسرائيلي يقصف يومياً الفلسطينيين ويقتل النساء والأطفال وليس الجيش الفلسطيني هو الذي يطوّق حيفا وتل أبيب. كل ما تفعله "حماس" ومن لفّ لفها أنها تساعد أسرائيل في أيجاد غطاء للأرهاب الذي تمارسه. أكثر من ذلك، تلعب "حماس" بكلّ أسف دور تحويل الشعب الفلسطيني وقوداً في معارك وصراعات ذات طابع أقليمي خدمة للمحور الأيراني- السوري الذي لا مانع لديه في أفناء الشعب الفلسطيني كلّه ومعه الشعب اللبناني من أجل التفاوض مع الولايات المتحدة والأسرة الدولية من موقع قوّة.
لا أهمية للحكومة الفلسطينية ألاّ أذا أستطاعت فك العزلة السياسية المضروبة عليها وفك الحصار المضروب على الشعب الفلسطيني. كلّ ما عدا ذلك دوران في حلقة مفرغة ومضيعة للوقت ليس ألاّ. لا داعي للأحتماء بمنظمة التحرير الفلسطينية والقول أن المنظمة تستطيع التفاوض مع أسرائيل وتستطيع الأعلان عن أنّها ستحترم الأتفاقات الموقّعة. المطلوب بكلّ بساطة حكومة فلسطينية تقدّم برنامجاً سياسياً واضحاً مبنيّاً على أستراتيجية تأخذ في الأعتبار موازين القوى الأقليمية والدولية من جهة ووجود رغبة دولية في التوصّل ألى حل في فلسطين من جهة أخرى.
ما يبدو واضحاً أن العالم بات يدرك أن السياسة الأسرائيلية القائمة على فكرة أنّ لا وجود لشريك فلسطيني يمكن التفاوض معه سياسة مفلسة. أتبع أرييل شارون هذه السياسة وتمسّك بها خليفته أيهود أولمرت وكانت النتيجة فشلاً تلو الفشل. لكنّ المشكلة أن عذابات الشعب الفلسطيني زادت مع كلّ فشل أسرائيلي. الآن، ثمة تحول في الرأي العام العالمي وداخل أسرائيل نفسها في أتجاه العودة ألى طاولة المفاوضات. واجب الفلسطينيين تشكيل حكومة برئاسة أسماعيل هنيّة أو غيره والأعلان بالفم الملآن أن هناك شريكاً فلسطينياً يمكن التفاوض معه وأن هناك أصراراً على هذا الموقف وتمسّكاً به مهما فعل الأسرائيلي ومهما مارس من أرهاب. هناك شعب يريد الحياة، شعب يحق له التمتّع بحقوقه حتى لو كان ذلك على جزء فقط من أرضه التاريخية، شعب يعترف أخيراً بأن الشعارات لن تقوده ألى أي مكان بأستثناء ألى أستخدامه وقوداً في معارك الآخرين. هل تشكّل حكومة فلسطينية لها معنى، أي حكومة تتعاطى مع الواقع ولا تعيش في الأوهام؟ ذلك هو السؤال الكبير. كلّ ما عدا ذلك سيؤدي ألى مراوحة القضية مكانها وأستمرار الضغوط على الجانب الفلسطيني وهي ضغوط يدفع ثمنها للأسف الشديد المواطن الفلسطيني... فيما العالم يتفرّج على المأساة ويضع الحق على أصحاب الحق ويلومهم!
يبقى في النهاية أنّ هناك من يعتبر أنّ "حماس" غير قادرة على أتخاذ موقف واضح وحاسم من موضوع التسوية. قد يكون ذلك صحيحاً ولكن ما قد يكون صحيحاً أيضاً أن الحركة أوقفت العمليّات الأنتحارية في أسرائيل عندما أدركت أن لا مصلحة لها في ذلك وأنّ الهدف المنشود منها تحقق وهو يتمثّل في تدمير السلطة الوطنية الفلسطينية ووضع ياسر عرفات في الأقامة الجبرية. من يدري، ربما تجد "حماس" أخيراً أن لديها مصلحة في الوضوح. كم من الكوارث ستحلّ بالشعب الفلسطيني قبل الوصول ألى مرحلة تعتمد فيها "حماس" الوضوح ولا شيء غير الوضوح؟ وضوح يأخذ في الأعتبار ما يدور في العالم والمنطقة والتوازنات القائمة فيهما بعيداً عن أيّ نوع من الأوهام.