خيرُ أمّةٍ وأشرارُها
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
الكاتب الأرجنتيني بورخيس، ساحرُ القصة، يضعنا في إحدى حكاياته، الغرائبية، أمام حالةٍ شبيهةٍ رمزياً بما نعايشه اليوم، كمسلمين، من توتر وغضب وسخط، إثرَ تصريح بابا الفاتيكان، المعروف. ففي تلك القصة، يتواجه ملكان عظيمان، من زمن ما، على ما يبدو أنها معضلة فكرية. كان أحدهما، بحسب الحكاية، قد دعا ندّه لزيارته في مملكته، ليفاجئه من ثمّ بحديقة متشعبة الممرات ويتوجّب على المرء معرفة مخرجها الوحيد. يضيع المضيفُ في مغامض هذه المتاهة، محاولاً عبثا الاهتداء لمخرج منها. بعد زمن، ليس بالطويل أو القصير، نجد ذلك المليك المضيف نفسه، وقد أضحى ضيفاً لدى الملك الآخر. هذا الأخير، يبدو أنه إستشعرَ العارَ لفشله، الموصوف آنفاً في حلّ لغز تلك المتاهة، فيدبّر لضيفه مكيدة شريرة. يأخذه إلى أعماق الصحراء ويدعه هناك وحيداً ليجابه مصيره، مشيراً له نحو الأفق اللا نهائي: هيَ ذي متاهتي، الموعودة! هكذا إذاً ينتقم مليكنا، البدوي، من ندّه ذاكَ، الملك المتحضّر. هكذا مقارنة، ربما لم تخطر لكاتبنا الأرجنتيني؛ إلا أنّ تأويلنا لقصته منطلقة أساساً من عبرتها: عقليتنا الرافضة لتحكيم العقل وإعماله، سواءً بسواء أكان الأمر متعلقاً بمعضلة فكرية مع الآخر، أو باجتهادٍ فقهيّ مع أهل الدين الواحد. فلا بأسَ علينا ولا تثريبَ بعدئذٍ، للاحتكام إلى السبيل الوحيد، الذي نجيده ونعملُ به: الإحتجاج والمكابرة، وصولاً إلى العنف والعدوانية.
وبما أننا ما فتئنا في حديث الملوك وأندادهم، فلنقلْ والحالة هذه، أنّ أولي الأمر منا؛ من حكامنا المسلمين، همُ المسؤولون، قبل غيرهم، عما يحدث لأمتنا من "هزات أرضية" بين الفينة وأختها؛ مبعثها دائماً وأبداً إختلافاتُ العقائد السماوية ـ ولا نقولُ، خلافاتها. إختلافاتٌ، لم يجر في مآزقها وإشكالاتها، من جهتنا تحديداً، أيّ تحكيم للفكر أو إحتكام للعقل، إلا ما ندر. كأنما هيَ ليلة القدْر، بالنسبة لحاكمنا؛ هذه المشكلات، المفتعلة، التي تعصف كلّ دورة زمنية بعالم الإسلام؛ من "آيات شيطانية"، إلى محاضرات باباوية، مروراً برسوماتٍ كاريكاتورية: فرصة تلو الاخرى ، لحاكمنا الحكيم، الماليء الأرض عدلاً، كيما يُظهر لرعيته، المرفهة، غيرته على دينها الحنيف منافحاً عنه برسائل الإحتجاج وخطب السخط وسحب السفراء ووو. كأنما هيَ مسابقة أوليمبية، بالنسبة لحاكمنا نفسه؛ هذه المزاودة الإيمانية على أحزاب المعارضة، المُدلسة، أو تنظيمات المجاهدة، المنافقة، فيما يخصّ تلك المشكلات، الموسومة. ليتماهى هكذا خطابُ الحاكم، المعتدل، بخطاب أولئك الأشرار المتطرفين؛ فلا تجدُ الأمة، بينهما، من فرق كبير، فتنقادُ بسهولة إلى شباك مصيدات بعض القنوات الإعلامية، المعروفة بأساليبها في تأجيج الفتن الدينية والمذهبية والعرقية، واللعب بنارها.
تعويلنا على الحاكم هنا، لا يعفي مثقفنا من مسؤوليته. هذا المثقف ، المتواري عن الأنظار في كلّ خطبٍ، خطير، مرتبطٍ بالمسائل الدينية؛ أو المتقدّم في خضمّها صفوفَ الرعاع والجهلة والمتزمتين، ليكون صوتهم الفصيح في هذه الصحيفة أو تلك الفضائية، محرضاً مكفراً مخوناً. كلا النموذجان، الموصوفان، لمثقفنا المغوار، بسلبيته أو دوغمائيته على السواء، هما للحقّ آفة أمتنا ومبتلاها. إن عدم إعتراف مثقفنا هذا، بالآخر المختلِف ضمن مجتمعه دينياً ومذهبياً وأثنياً، يُحيل إلى بديهية خطابه المأزوم، الموجّه إلى خارج مجتمعه، وخصوصاً الغرب؛ الخطابُ المشحون بدلالات تاريخية، عشوائية، مبتدهة بالحروب الصليبية والكولونيالية ومنتهية بالتدخلات الإمبريالية. فكل أزمة داخلية ، في وجهة نظر مثقفنا، إن هيَ إلا إحدى واردات الخارج، المشغول دوماً بحبك مؤامراته ضدنا. فشرور الإستبداد؛ الإرهاب؛ التطرف؛ المجازر الجماعية؛ المقابر الجماعية؛ السلاح الكيماوي؛ التطهير العرقي؛ الأنفال والجنجاويد.. الخ: تلكَ جميعاً، بالنسبة للمثقف العربي، مجرد عناوين فرعية للعنوان العريض؛ "المؤامرة على أمتنا العربية والإسلامية"!.. هكذا يصير الخارج، ممثلاً بالمجتمع الدولي، كما لو أنه الرأس المدبر للمؤامرة، فيما المكونات المجتمعية، المستضعَفة، للأمة المجيدة، هيَ أدواتها: فكل طاغية غاشم، في هذه الحالة، هوَ القائدُ الحارسُ لمصالح أمتنا، والمؤهلُ لردّ تلك المؤامرة، الموهومة، وبالتالي لإبادة أدواتها، المفترضين. لم نخرج عن موضوعنا، إذاً. لأنّ رهانَ المثقف العربي على " نظرية المؤامرة "، في حله وترحاله، سيجعله دوماً في خسران مبين أمام قناعاته وضميره؛ ومن ثمّ السقوط المريع فكرياً وأخلاقياً. وليسمح لي القاريء هنا، إيرادَ مثل واحدٍ في هذا الإتجاه: لقد دبّ فينا الأمل، نحن الذين نقيم في خارج الوطن، حينما تناهى إلينا خبرَ تأسيس فضائية جديدة، ناطقة بالعربية، مدعومة من "الإتحاد الأوروبي". بيْدَ أنّ أملنا هذا، سرعان ما خيّبته برامج فضائيتنا وأساليب معديها وأفكارهم. فإذا بضيوف الحوارات على شاكلة أئمة التطرف والإرهاب ومنظري القومية الفاشية وأضرابهم؛ وكأنما عالم الإغتراب قد خلى إلا منهم، رجالاً ونساء. ووفقاً لنظرية المؤامرة، الموصوفة، ما وجدت تلك الفضائية حرجاً، في أول جلسة من محاكمة الأنفال، لا أن تتجاهلها وحسب، بل وأيضاً أن تعرض لمشاهديها برنامجاً خاصاً عن مجزرة دير ياسين؛ وكأنما تقول لهم : هي ذي المقتلة، الحقة، بحقنا نحن العرب والمسلمين، وكل ما عداها إن هوَ إلا زورٌ وكذبٌ وإفتراءٌ لا يخدمُ، "في هذا الوقت، بالذات"، سوى أعداء الأمة!.. فلا غروَ إذاً، ان تطالعنا فضائيتنا الأوروبية هذه، بخصوص تصريح الحبر الفاتيكاني الأعظم ، بتحليلاتٍ وتنظيرات ما أنزل بمثلها إلا من "تورا بورا"، مجترة من مثيلاتها في ذات الفضائيات العربيات؛ وهي الفضائية المتنورة ـ كذا، التي أسستها أموال الغربيين من أجل أن تكون بديلاً مفترضاً، معتدلاً وعقلانياً.