مشايخنا في الفاتيكان!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
قبل ثلث قرن تقريباً، وبالتحديد، يوم 24 تشرين الأول 1974م حطت الطائرة بمجموعة من كبار (علمائنا) آنذاك، في مطار روما في اتجاههم إلى (دولة الفاتيكان)، من أجل لقاء البابا بولس السادس، والتباحث معه بشأن الحوار الإسلامي المسيحي. كان الوفد مكوناً من: الشيخ محمد الحركان، الشيخ محمد بن جبير، الشيخ عبدالعزيز المسند، الشيخ راشد بن خنين، الشيخ محمد المبارك، الدكتور محمد عبده يماني، وآخرين.
أول ما لفت نظري وأنا أقرأ تقريراً صحفياً نشرته (المجلة العربية) عن تلك الزيارة المتحضرة، هي لحظة الاستقبال. كان يقف في استقبال المشايخ في مطار روما الكاردينال (بينا دولي) رئيس الأمانة البابوية لغير المسيحيين، (الذي عانق المشايخ، وكانت تلوح على وجوههم مظاهر السرور العارم)!
هذا ليس حلماً أيها السادة، وإنما أنقله لكم بالنص عن العدد الثاني للمجلة العربية، الصادر في آب 1975م .. وهذا التقرير الصحفي يحتوي على الكلمات المتبادلة ، بين المشايخ ورجال الدين المسيحي، بشأن (التسامح) والتقارب بين الأديان، والتي كانت في منتهى التحضر والمسؤولية، قبل أن يتقدم إلى الأمام (المتشددون) سواء منا أو منهم، وهو ما يشير إليه التعليق (غير المسؤول) الذي جاء على لسان بابا الفاتيكان الجديد (بنديكت السادس عشر) في تصريحه (العدائي) الأخير من جهة، ومن جهة أخرى، وكردة فعل، تلك الدعوات التي يطلقها البعض داعية (للمقاطعة)؛ مثل هذه الممارسات هي بكل المقاييس تأجيج للصراع، وتغذية للتباعد، وإلهابٌ لعواطف الدهماء، الأمر الذي سيرسخ الكراهية والبغضاء، والتي يسعى العقلاء من الطرفين إلى تطويقها، إنقاذا للعالم من تبعاتها الخطيرة.
ولكيلا تغيب تلك الأيام النادرة والمباركة والمتحضرة في غياهب النسيان، دعوني أنقل لكم بعض فعاليات لقاء أولئك (العلماء) مع رجال الدين المسيحيين آنذاك.
يقول التقرير : (وفي صباح يوم الجمعة 25 تشرين الأول، عقدت في الفاتيكان جلستان، اشترك فيهما الوفد السعودي ووفد من رجال الفاتيكان، وكان موضوع الحوار (الثقافة، كوسيلة لتكامل الإنسانية، ومساهمة المسلمين والنصارى في توطيد السلام وفي احترام حقوق الإنسان) . وقد تحدث الشيخ محمد الحركان، رحمه الله، (الذي كان آنذاك وزير العدل، وعضو هيئة كبار العلماء، ورئيس الوفد)، وقرأ بحثاً مسهباً - وزعت نسخ منه مطبوعة على الحاضرين - وهو بحث جليل أبرز فيه عناية الإسلام بالعلم، وخصائص الحقوق الثقافية في الإسلام، ثم قارن ذلك بالحقوق الثقافية في المواثيق الدولية، وكشفَ عن مآخذه على هذه المواثيق، وبين تفوق الحقوق الإسلامية في هذا المجال).
وعن استقبال البابا للوفد في اليوم التالي يتحدث التقرير بإسهاب عن الحفاوة والتقدير التي قوبلَ بها الوفد من قبل البابا والعاملين معه. وقد جاء في الكلمة الترحيبية التي ألقاها البابا على الوفد عند لقائه : (يسرنا أن نعرف عزمكم وتصميمكم على جعل هذه اللقاءات الثقافية والمناظرات الروحية تنتهي إلى إنجازات عملية لخير كل الناس، سواء أكانوا مؤمنين مثلنا، أو غير مؤمنين) . وفي جواب الشيخ محمد الحركان، على كلمة البابا قال : (يا صاحب القداسة، كنا سعدنا بالدعوة التي وجهها الفاتيكان إلى وفدنا لإقامة ندوات حول حقوق الإنسان في الإسلام والمسيحية . وضاعف سرورنا الاستقبال الحار الذي قابلنا به، المتولون في الفاتيكان). كما جاء في الكلمة : ( إننا نشعر جميعاً في عصر المادية المكتسحة الظالمة بحاجتنا الملحة إلى تأدية الشهادة لله العلي القدير، الرحمن الرحيم، الذي يحيطنا بفضله وكرمه) . ويواصل الشيخ الحركان رحمه الله في كلمته : (وكم سرنا إشارة قداستكم إلى التطور الحسن في العلاقات بين العالمين المسيحي والإسلامي ، إثر تجمع الفاتيكان الثاني. ويطيب لنا، نحن أيضاً، أن نشير إلى حادثين جليلين، سنتحدث عنهما في ندوتنا، وهما : فرحة المسلمين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بانتصار الروم النصارى على الوثنيين، وعهد الخليفة عمر بن الخطاب للنصارى في القدس) .. ثم قدّم إلى قداسة البابا - كما يقول التقرير - سجادة عجمية صغيرة، كان يحملها أحد مستخدميه، وقال إنها هدية رمزية، بل تذكرة بهذا اللقاء (الحلو)!.. فشكر البابا للوزير عاطفته، وأهدى إليه نسخة نادرة من الكتاب المقدس، ثم وزع على الحاضرين أوسمة تذكارية للسلام عليها صورة (حمامة)!
وبعد أن انتهيت من قراءة التقرير، أخذتني أحلامي الوردية بعيداً، وتخيّـلت - مجرد خيال - أن مجموعة من (كبار) علمائنا اليوم،عندما تفوه البابا بما تفوه به تجاه الإسلام والرسول الأمين، سافروا إلى الفاتيكان، كما فعل أسلافهم، وطلبوا لقاء (البابا)، وشرحوا له وجهاً لوجه، كيف أن فهمه للإسلام هو فهم خاطئ، وأنه سكبَ الزيت على نار الكراهية بين المسلمين والمسيحيين، التي لن تؤججَ إلا الإرهاب، ولن يستفيدَ منها إلا الإرهابيون، وأهدوه في نهاية اللقاء (نسخة) أنيقة في طباعتها من المصحف المترجم!
سادتي .. كم سيكون لهذه المبادرة التي صممها (خيالي) على مستوى العالم مُرحبين ومُعجبين ومُصفقين؛ وما أحوج الإسلام هذه الأيام إلى مثل هذه المبادرات، بعد أن أساء سمعته الإرهابيون، بدلاً من ممارسات الغوغاء، واحتجاجات المزايدين.
إلى اللقاء.
* يُنشر في إيلاف بالتزامن مع جريدة الجزيرة السعودية