كتَّاب إيلاف

لا.. للدولة الفلسطينية المستحيلة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

-1-

لا يفجعنَّ أحدٌ من القوم لكلمة "لا" العريضة في عنوان هذا المقال. فنحن العرب أمة اللاءات قديماً وحديثاً. ولم تكن لاءات الخرطوم الست المشهورة بعد هزيمة 1967 هي اللاءات الوحيدة الشهيرة في التاريخ العربي قديماً وحديثاً.

ولكن لاء اليوم تأتي لاءً ايجابية وليس سلبية في ظني. وهي تأتي بعد أكثر من نصف قرن على انتظار النَعَم للدولة الفلسطينية، ولكن هذه النَعَم لم تأتِ حتى الآن ويبدو أنها لن تأتي ابداً ما دامت القيادات الفلسطينية على هذا النحو من الانانية والتفريط وحب الذات والتمسك بالكراسي والقبض على المراسي. ولا أدري ماذا يفيد السياسي من اليمين أو من اليسار فيما لو خسر وطنه وكسب كرسيه.

-2-

عشتُ أكثر من ثلاثين عاماً، وأنا أحلم بقيام الدولة الفلسطينية.

حلمتُ بقيام هذه الدولة من خلال خطب وعنتريات الحاج أمين الحسيني، وأحمد الشقيري، وياسر عرفات، وأحمد ياسين، وخالد مشعل، وباقي القادة الفلسطينيين.

وحلمتُ بقيام هذه الدولة من خلال شعر هارون هاشم رشيد، ومحمود درويش، وسميح القاسم، وعز الدين المتاصرة، وغيرهم من "شعراء النكبة".

وحلمتُ بقيام هذه الدولة من خلال روايات اميل حبيبي، وغسان كنفاني، وإبراهيم نصر الله ، وغيرهم.

وحلمتُ بقيام هذه الدولة من خلال قرارات الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، وتصريحات الزعماء الأوروبيين والرؤساء الأمريكيين، وخطابات أعضاء الكونجرس.

وحلمتُ بقيام هذه الدولة من خلال تصريحات وخطب ووعود الزعماء العرب، الذين اتخذوا من فلسطين ودولتها وقضيتها مطية يمتطونها للوصول إلى الكراسي، والقبض على المراسي.

وحلمتُ بقيام هذه الدولة من خلال سيولٍ لا تنتهي ولا تتوقف كالطوفان الكاسح من المقالات، والتعليقات، والتحليلات السياسية، لليمين، واليسار، والوسط العربي.

حلمتُ بكل هذا، ولكن لا شيء تحقق، بعد أن بلغتُ من العمر عتياً. فكان عليَّ أن أقول كلمتي في هذا الشأن، وأمشي.

-3-
يبدو أننا معشر المثقفين العرب، وخاصة الليبراليين منهم الذين يعيشون في الغرب، ويرون الصور العربية - أياً كانت هذه الصور - بشكل أوضح، وأكثر جلاءً، ومن زوايا مختلفة، وليس من زاوية واحدة، رغم أننا نُتهم بأننا نرى المشهد العربي من زاوية استعمارية استخباراتية عميلة، مُزنَّرة بالدولارات الخضراء اليانعة، وملطخة بدماء الشهداء العرب المسلمين الأبرياء الذين راحوا ضحية الاحتلال الإسرائيلي والأمريكي، والمؤامرات الغربية على العرب والمسلمين. ويبدو أن كل مثقف عربي يعيش في الغرب، ويرى ما لا يراه المثقفون العرب داخل الوطن العربي، هو عميل للغرب في عُرف من هم "كُتاّب لكل زمان ومكان"، ومدموغ على قفاه بالدمغة الاستعمارية المعروفة في الأدبيات السياسية العربية. ولكن لا بأس، فصورة العرب والمسلمين من بعيد، تظل أكثر جلاءً، والرؤية تبقى أكثر وضوحاً، حين تكون حرية النظر والرؤية أكثر اتساعاً.

ومن الصور العربية الواضحة لدينا، الصورة الفلسطينية الحالية، كما هي الصورة الفلسطينية السابقة، منذ سنوات طويلة. فالصورة الفلسطينية في الماضي والحاضر، كانت تتسم دائماً بالانتصارات والانجازات البلاغية. في حين أن لا شيء تحقق واقعياً من هذه الانتصارات والانجازات على الأرض. ومنذ اليوم الأول الذي أصبحت فيه منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني عام 1988، وأعلن الراحل الملك حسين عن فك الارتباط القانوني والإداري بين الأردن والضفة الغربية، كما أعلن المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في الجزائر عن قيام دولة فلسطينية مستقلة على الورق، في غزة والضفة الغربية معترفاً ضمنياً بإسرائيل، والاخفاقات الفلسطينية تتوالى الواحدة تلو الأخرى. فبعد اعلان الفلسطينيين قيام الدولة الفلسطينية على الورق، وفي المهرجانات الخطابية فقط، فرح الفلسطينيون بدولة الورق هذه، منذ عام 1988 ، ولم تتعدَ هذه الدولة الورق والخطابات منذ ذلك التاريخ وحتى الآن. فكانت دولة الورق ودولة البلاغة في الوقت ذاته. ودولة البلاغة هذه مثلها كمثل انتصارات العرب البلاغية. تأتي دائماً محفوفة ومطرّزة بالكرامة، والشهامة، والعزة، والفداء، والتضحيات، والشرف، والبطولة، والإقدام، وطلب الشهادة، وتمريغ أنف العدو بالتراب.. الخ. فمن عادة العرب عموماً أن يفرحوا بالنصر، ولو كان هذا النصر على ورق أو حتى على خازوق. ولا يعترفوا بالهزيمة. ويطلقون على الهزيمة المنكرة "نكسة"؛ أي هزيمة هامشية مؤقتة غير معتادة، وغير متوقعة؛ أي أننا كنا منتصرين بالضرورة، ولكنا انتكسنا على غير ما نعلم ونتوقع، لسبب لا يعلمه إلا الله وحده!

-4-

لماذا "لا" الآن للدولة الفلسطينية المستحيلة؟

وهل هي بداية "مؤامرة جديدة" على القضية الفلسطينية، بعد سلسلة "المؤامرات" الاستعمارية، التي حَفِلَ بها سجل القضية الفلسطينية منذ نصف قرن ويزيد، خاصة بعد أن اقتربت ساعة اقامة هذه الدولة من خلال هذه الصورة المضيئة من الانضباط والنظام والشفافية والعقلانية والواقعية للشعب والقيادة الفلسطينية أمام العالم، وفي الأوساط السياسية في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وبعد أن أثبتت الدولة الفلسطينية القائمة الآن، والحكومة الفلسطينية الحاكمة منذ ستة أشهر ويزيد بأنها أهل، وأي أهل، لدولة حرة مستقلة، سوف يتسابق العالم على الاعتراف بها، لكي تصبح الدولة الـ 193 العضو في هيئة الأمم المتحدة، وتأخذ مكانها بين الأمم الصاعدة؟!

لا.. هذه ليست أيها السادة، بداية مؤامرة من مؤامرات الخيال العربي المريض، بل هي حقيقة تفرضها الوقائع السياسية في الماضي والحاضر. وهذه الوقائع تبين أن الزعماء الفلسطينيين والشعب الفلسطيني غير قادر على استيعاب معنى الدولة، ومعنى أن يأخذ ويطالب، كما اقترح عليها الرئيس بورقيبة عام 1965. ومعنى أن يلجأ إلى النضال السلمي، بعد أن تغيرت معادلات القضية الفلسطينية السياسية تغيراً تاماً منذ نصف قرن ويزيد، ودخلت عليها عوامل سياسية وعسكرية وثقافية مختلفة، ولم تعد القضية الفلسطينية هي القضية الفلسطينية عام 1948، أو عام 1967، أو عام 1973، أو عام 1979، أو عام 1982، أو عام 1993، أو ما تلته من أعوام، قلبت الموازين السياسية في هذه القضية. ورغم هذا، ما زالت الزعامات الفلسطينية من اليمين واليسار والوسط، تعتبر القضية الفلسطينية هي قضية 1948، وأنها في (الفريزر) السياسي ، منذ ذلك التاريخ حتى الآن. ولم يعِ الزعماء الفلسطينيون حتى الآن، أن القضية الفلسطينية لم تعد قضية فلسطينية محلية كما كانت 1948، وإنما أصبحت قضية أممية مُعولمة، تهم العالم أجمع. وما لم يتفق العالم كله بكفّاره ومؤمنيه، بعادليه وظلمته، بمحبيه وباغضيه للعرب وللفلسطينيين، على طريقة حلها قبل أن يتفق الفلسطينيون أنفسهم، فلن تجد هذه القضية طريقها إلى الحل.

و "لا" الآن للدولة الفلسطينية المستحيلة، بعد أن بقي الفلسطينيون يعيشون في المخيمات عيشة الحيوانات القذرة وهم ينتظرون بناء الوطن والعيش تحت سقفه، في حين كان زعماء هذا الشعب يعيشون في فيلاتهم الفخمة، ويأكلون بمعالق من ذهب وفضة.

و"لا" الآن للدولة الفلسطينية المستحيلة، تأتي بعد محاولة هذا الترقيع المخزي والمزيف للحكومة الفلسطينية بحيث يكون رئيس الوزراء من لا يعترف باسرائيل، وتكون وزيرة الخارجية من تعترف باسرائيل. وبحيث يكون رئيس الوزراء منبوذاً من المجتمع الدولي، ووزيرة الخارجية مرحبة بها.

فما هذه السَلَطَة البائتة، السيئة الطَعم، التي أدركتها العفونة؟

وكيف تقوم دولة محترمة، تريد اعتراف العالم بها، بهذه الخِرق البالية؟

-5-

إليكم بعض هذه الحلول التي طُرحت في الماضي على الزعامات الفلسطينية، ولكن هذه الزعامات رفضتها، مفضلةً الثمن على الوطن. ولكن زعامات أخرى تالية جاءت وتمنَّت لو أن مثل هذه العروض قد عُرضت عليها. وهكذا دواليك طيلة أكثر من نصف قرن مضى، زعامات ترفض، لتأتي زعامات بعدها، تقبل ما رفضته سابقتها وهكذا.

1- في عام 1933 ، اقترحت "لجنة بيل" Peel على القيادة الفلسطينية المتمثلة يومئذ بالحاج أمين الحسيني، إعطاء الفلسطينيين 80 ٪ من فلسطين و20 ٪ لليهود. لكن الحسيني، رفض هذا الاقتراح ، وجاء أحمد الشقيرى من بعده، وتمنّى أن يُعرض عليه هذا العرض.

2- وفي عام 1947، عرضت الأمم المتحدة على القيادة ذاتها بموجب قرار التقسيم رقم 181 تاريخ 29/11/1947 ، أن تعطي 45 ٪ من فلسطين للفلسطينيين، و55 ٪ لليهود، لكن الحاج أمين رفض أيضاً هذا القرار، ورفضته الدول العربية جميعها. وتمنّت القيادات الفلسطينية والقيادات العربية بعد 1967، أن يتم تطبيق هذا القرار. ولكن القطار كان قد غادر المحطة منذ وقت طويل، وظل الركاب من الفلسطينيين والعرب ينتظرون القطار الذي لا يأتي، وما زالوا ينتظرون حتى الآن.

3- وفي عام 1965 اقترح الحبيب بورقيبة في خطابه بأريحا على الفلسطينيين والعرب، العودة إلى قرار التقسيم 181، لكن الفلسطينيين رجموه بالطماطم والحجارة كأي شيطان آخر. واتهمه عبد الناصر بالعمالة والخيانة، ورفضت المغنية اللبنانية فيروز، أن تُغني له احتجاجاً على مشروعه التآمري الاستعماري!

4- وفي عام 2000 عرض كلينتون على القيادة الفلسطينية مشروع تسوية، يعطي للفلسطينيين حوالي 97 ٪ من الأراضي المحتلة في حرب 1967، لكن عرفات رفض المشروع، خوفاً على حياته من حماس وبقية المليشيات الفلسطينية الدينية المسلحة. ثم عاد بعد 22 شهراً ، وفي يونيو 2002 ، وقبل المشروع، لكنه - وهو ذو الذاكرة المثقوبة - نسي أن كلينتون خرج من البيت الأبيض وخرج معه مشروعه، وأن عليه أن ينتظر قطاراً جديداً يحمله إلى محطة جديدة، كما كان عليه الحال طيلة أكثر من نصف قرن مضى. وهكذا نرى أنه كلما مضى الوقت على القضية الفلسطينية تآكلت وانكمشت خارطة الدولة الفلسطينية أكثر فأكثر.

5- وفي بداية عام 2006 نجحت حماس في الانتخابات التشريعية، وشكّلت أول حكومة يتم انتخابها ديمقراطياً. واحتكم الشعب الفلسطيني لصناديق الاقتراع. ولكن العبرة في صناديق الاقتراع ليست في ذاتها، ولكن بمن يضع فيها، وبما يُوضع فيها. فالحكومات التي تخرج من صناديق الاقتراع ليست بالضرورة حكومات ديمقراطية جديرة بالحكم. فبغض النظر عن الخطاب السياسي الأيديولوجي الذي نجحت به حماس في هذه الانتخابات، فقد كانت النتيجة التي انتهت اليها حماس الآن هي نتيجة طبيعية لأي حزب أو حكومة تتبنى خطاب حماس السياسي المرفوض من قبل المجتمع الدولي وهيئاته. فالأزمة الفلسطينية الآن، ليست نتيجة لأن حماس (المليشيا الدينية الفلسطينية المسلحة والفرع الفلسطيني للإخوان المسلمين) هو الذي يحكم. ولكن سبب الأزمة الفلسطينية الآن ناتجة عن الخطاب السياسي لهذه الفئة. فلو كانت حماس حزباً فلسطينياً قومياً، أو حزباً فلسطينياً شيوعياً، أو حزباً يهودياً متطرفاً، ويدعو إلى تدمير اسرائيل وعدم الاعتراف بها، ولا يعترف بكل المعاهدات والاتفاقيات بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية، ولا يعترف بالمبادرة العربية في قمة بيروت 2002، ولا، ولا ، ولا .. الخ. لكان موقف العالم وموقف بعض العرب من حماس هو موقفهم نفسه الآن. وحماس نفضت، ورفضت، وقلبت، وشطبت كل ما سبق وكان قائماً، وقالت للفلسطينيين لنعد إلى عام 1948، ولنبدأ من جديد ومن المربع الأول. وستأتي غداً حكومة جديدة - ربما حكومة وحدة وطنية - وتقبل ما رفضته حماس، ولكن بعد أن يكون القطار - كالعادة - قد غادر المحطة حتى تأخر الركاب في الوصول في الموعد المحدد.

-6-

ما هو الحل؟

الحل، أن يعود ما تبقى من فلسطين الآن إلى ما كانت عليه الحال قبل 1967. أن تعود الضفة الغربية إلى الأردن. وغزة إلى مصر. وعودة الضفة الغربية إلى الأردن هو الوضع الطبيعي، بعد أن كانت الضفة الغربية جزءاً من الأردن أرضاً وسكاناً ونسباً ودستوراً وحُكماً واقتصاداً وثقافةً. فقاسم الأردنيون الفلسطينيين منذ 1948 رغيف الخبز، والثوب، والحصيرة، وصحن البُصارة، والبيت، والمدرسة، والحُكم، وعاشوا بسلام مع بعضهم، كما عاش المهاجرون مع الأنصار قبل 14 قرناً. فكان منهم الوزراء ومن الأردنيين الأمراء. ولم يشبع، ولم يأمن، ولم يستقر، ولم يعمل، ولم يَحكم الفلسطيني بلداً عربياً غير فلسطين، كما فعل في الأردن.

فماذا يريد الفلسطيني من الدولة الفلسطينية أكثر مما حققه في الأردن، الدولة والوطن، لو كان الفلسطينيون يعقلون؟

السلام عليكم.

Shakerfa@Comcast.net

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف