سوريا بين التغير الديمقراطي والعنف الطائفي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
سوريا التي تقع في قلب منطقة (الشرق الأوسط)، أكثر مناطق العالم توتراً واضطراباً، يبدو أنها مرشحة لتكون مسرحاً لأحداث وتطورات أمنية وسياسية مهمة في المرحلة المقبلة، قد تشكل الخطوة الثانية بعد العراق، للوصول الى خريطة (الشرق الأوسط الجديد) التي نشرها موقع أمريكي رسمي هو (مجلة القوة العسكرية- تموز 2006)مرفق بمقال معنون (حدود الدم).تظهر هذه الخريطة تعديل حدود معظم دول المنطقة، من ضمنها سوريا، وولادة دول جديدة من رحم هذه الخريطة على أساس وقائع ديمغرافية (الدين، القومية، المذهبية)، بعد حروب وقلاقل تسفك فيها دماء شعوب كثيرة.
في اطار هذه المخططات والمشاريع المعدة للمنطقة تقوم بعض المنظمات والجهات، المحلية والإقليمية والدولية، بشحن وتعبئة شعوبها بالفكر الظلامي الجاهلي وإثارة لديها كل أنواع العصبيات والنزعات الفئوية البدائية من طائفية وعرقية وجهوية وغيرها من الانتماءات والهويات القاتلة، مستفيدة من الاحتقانات والتناقضات، الثقافية والاجتماعية والسياسية والمذهبية والدينية، العميقة القائمة بين شعوب المنطقة وداخل مجتمعات الدولة الواحدة.هذه التناقضات هي نتاج الموروث الثقافي والاجتماعي التاريخي المتخلف من جهة أولى، ونتاج القمع والاستبداد السياسي والديني والاجتماعي الذي تقبع تحته شعوب المنطقة من جهة ثانية، كذلك نتاج سياسات التفريق والتميز العنصري والنهج الطائفي لحكومات دول المنطقة من جهة ثالثة.في سياق هذه السياسات المحرضة على الاقتتال الداخلي والفتنة الطائفية تأتي تصريحات فريد الغادري- رئيس حزب (الإصلاح السوري)الذي يأخذ من واشنطن مقراً له- لـ (فضائية الحرة) الأمريكية في برنامج (أحد الأسئلة)، ليوم 27-8 -2006- التي جاء فيها بالحرف: ( (على العلويين أن يتخلوا عن السلطة ويتركوا دمشق ويعودوا الى جبالهم، دمشق عاصمة الأمويين وليست عاصمة العلويين.وأضاف: من حق الرئيس الإيراني أن يطالب بعودة اليهود من فلسطين الى ألمانيا كذلك من حقنا أن نطلب من العلويين أن يتركوا دمشق لأهلها ويعودا الى من حيث أتوا، الى جبالهم، لأن لا يمكن لنا نحن السنة أن نعيش مع هذه الطائفة التي أخذت منا السلطة بالحديد والنار...علينا استعادة سلطتنا ومجدنا، وأضاف: لدينا الاستعداد لتقديم ضمانات أمريكية ودولية لحمايتهم وعدم التعدي عليهم إذا ما تخلوا عن السلطة ونفذوا ما هو مطلوب منهم)). ألا يؤدي هذا الكلام في نهاية المطاف الى خريطة (الشرق الأوسط الجديد)؟ فأي إصلاح وأي مستقبل ينشده لسوريا حزب (الإصلاح السوري)الذي يتزعمه فريد الغادري، إذا كان لا يجد مستقبل للتعايش بين طائفتين سوريتين من دين واحد ووصلت به النزعة الطائفية الى درجة المطالبة بطرد العلويين من دمشق، وربما سيطالب لاحقاً بطرد من سوريا كل طائفة لا تقبل أن تتحول سوريا الى (دولة سنية)وفي النهاية قد لا يجد أمامه، لتحقيق مشروعه الطائفي، سوى خيار تقسيم سوريا الى كيانات طائفية وعرقية.إذا أخذنا بكلام الغادري هذا قاعدة ومعياراً لـ (حقوق الشعوب)، فعلى (العرب الأمويين السنة) قبل غيرهم، ليس ترك دمشق فحسب، وإنما الخروج من كامل سوريا ويعودوا الى من حيث أتوا، الى صحرائهم في (شبه الجزيرة العربية)، أما (العلويون) فهم ليسوا بعرب، أنهم من الأقوام السورية القديمة والأصيلة، ينحدرون من أصول (فينيقية)سكنوا الساحل السوري منذ ما قبل التاريخ. فتاريخ دمشق وحضارة سوريا لم يبدءا مع العرب الأمويين، سوريا (مهد الحضارات) أقامت فيها شعوب وأمم كثيرة قبل أن يغزوها العرب المسلمين في القرن السابع الميلادي لنشر دينهم الجديد (الإسلام)، وبقيت دمشق لقرون طويلة ق.م (عاصمة الآراميين) وعن (السريان الآشوريين)، سكان سوريا الأوائل، أخذت اسمها ( ASSYRIAN )، ومازالت نسبة جيدة منهم، مسيحيين ومسلمين، يتحدثون بـ (السريانية)- الآشورية القديمة- لغة العراق وبلاد الشام.
القراءة السياسية المنطقية للخطاب الطائفي المسموم الذي أتحفنا به السيد فريد الغادري هي:أنه يعكس حجم الإفلاس السياسي والحزبي الذي وصل اليه، لذلك أراد من خلال العزف على (الوتر الطائفي) أن يكسب تأييد وتعاطف الشارع السني ذات الميول الأصولية في سوريا، بعد أن عجز عن كسب هذا الشارع من خلال شعاراته الديمقراطية وطروحاته الليبرالية والعلمانية.اللافت في تصريحات الغادري أنها جاءت بعد أن شكلت جماعة (الأخوان المسلمين)قبل نحو شهرين في بروكسيل، مع نائب الرئيس السوري المنشق، عبد الحليم خدام، جبهة (الخلاص الوطني)، وصفت من قبل البعض بأنها (جبهة طائفية)، وربما أراد الغادري، الذي ابعد عن هذه الجبهة، من خطابه الطائفي أن يزايد في قضية الإسلام والحقوق السياسية للطائفة السنية على جماعة (الأخوان المسلمين).
بغض النظر عما يمثله الغادري من وزن شعبي وجماهيري بين أبناء الطائفة السنية في المجتمع السوري، أو بما له من ثقل سياسي داخل المعارضة السورية في الخارج، ومستوى علاقاته بالإدارة الأمريكية وطبيعة هذه العلاقات، أرى أنه من الخطأ تجاهل ما ينطوي عليه هذا الخطاب من مخاطر حقيقية على وحدة وتماسك المجتمع السوري، هذه المخاطر لا تأتي من القنابل الطائفية الانشطارية التي حملتها تصريحات الغادري فحسب، وإنما من حساسية المرحلة وتوقيت إطلاقها في هذا الزمن السوري الصعب، خاصة إذا أخذنا بالحسبان المشاريع المعدة للمنطقة و طبيعة وظروف المرحلة التي تمر بها وما تشهده من توترات طائفية وعرقية واحتقانات سياسية. كنا نتمنى، أو بالأحرى كان يجب على الغادري، طالما هو يدعوا الى الإصلاح و الديمقراطية ويزعم بأن مشروعه هو مشروع (ديمقراطي ليبرالي علماني)، أن يطرح قضية (التغيير الديمقراطي) للنظام في سوريا على أساس (الأغلبية السياسية) وليس على أساس ( الأغلبية الطائفية) وأن يكون مشروعه بناء دولة عمادها (حقوق المواطنة) وليس (حقوق الطائفة).لا جدال على أن في سوريا هناك غبن وقمع وسوء أوضاع اقتصادية وفساد عام مستشري في كل مفاصل الدولة والمجتمع السوري جراء الاستبداد السياسي و جراء السياسات الخاطئة والعقلية الأمنية الإقصائية للنظام وحزبه الحاكم (البعث)، لكن بكل تأكيد هذه الأوضاع الشاذة هي غير مقتصرة على الطائفة السنية وحدها، وإنما تنسحب على معظم فئات وقوميات الشعب السوري وعلى أغلبية أبناء الطائفة العلوية ذاتها، بالمقابل أن المنتفعين من هذه الأوضاع الشاذة في البلاد هم من معظم فئات وطوائف الشعب السوري ومناطق سوريا أيضاً.جدير بالذكر أن أكثر أحزاب المعارضة السورية تشدداً تجاه النظام الحاكم كان (حزب العمل الشيوعي) الذي كانت الغالبية الساحقة من كوادره وأعضاءه من أبناء الطائفة العلوية ومن المسيحيين السوريين وقد اكتظت السجون السورية بهم في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي وما زال العديد من أبناء هذه الطائفة يلعب دوراً بارزاً في الحراك الديمقراطي والحقوقي المعارض وبعضهم معتقل على خلفية هذا النشاط، أبرزهم الدكتور (عارف دليلة).وإذا كان ثمة نزعات طائفية، هنا وهناك، لدى بعض أركان وعناصر النظام الحاكم يجب أن توضع في سياق الموروث الاجتماعي التاريخي المتخلف لشعوب الشرق العربي الإسلامي عامة، ثم هي لا تواجه أو تقابل، أو بالأحرى علاجها لا يتم عبر نهج طائفي آخر أكثر خطراً على تماسك الدولة.فمن شأن مثل هذه اللغة الطائفية أن تنمي النزعات الطائفية والفئوية وتشجع على الاصطفافات العرقية وعلى الفرز الطائفي في المجتمع السوري الذي يتصف بالتنوع القومي والديني والمذهبي. أن السيد فريد الغادري تجاوز بخطابه الطائفي المستهجن كل الخطوط الحمر في السياسية السورية، ليس تلك التي رفعها النظام في وجه المعارضة فحسب، وإنما تلك التي ترفض المعارضة الوطنية مجرد الاقتراب منها. فهو لم يكتف بالمطالبة بتغيير النظام القائم كما ترغب وتشتهي المعارضات السورية وإنما طالب بخروج أبناء الطائفة العلوية التي تنتمي اليها (عائلة الأسد) من دمشق محملاً إياها مسؤولية ووزر سياسات النظام.مخطئ كثيراً إذا كان الغادري يظن بأنه قادر على زعزعة النظام السوري وتغييره بهذه التهديدات والمغامرات الطائفية التي من شأنها أن تلحق ضرراً بالغاً بعملية التغيير الديمقراطي وقد تجر البلاد الى الهلاك. إذ من المتوقع أن يأخذ النظام من تصريحات الغادري ذريعة إضافية لتشديد القبضة الأمنية على المجتمع والتنكيل بالمعارضة الوطنية في الداخل والغير معنية أصلاً بمواقف وتصريحات الغادري.كما أن هذه اللغة والشعارات الطائفية هي، من دون شك، تزيد من إحباط ومخاوف الشارع السوري من أي تحرك سياسي معارض أو احتجاج شعبي على سياسات النظام قد يحصل مستقبلاً، الخوف من أن يأخذ هذا التحرك بعداً طائفياً أو يفهم هكذا ويقابل بردة فعل طائفية وبالتالي يجر البلاد الى حرب أهلية مدمرة.حيال هذا المشهد السوري المقلق والمخيف، يبقى السؤال الأهم في هذه المرحلة هو: كيف لسوريا أن تقاوم ما يهددها من مخاطر وتحديات خارجية وتجنيبها
عنفاً طائفياً وحرباً أهلية قد تنزلق اليها بسبب أخطاء النظام والمعارضة معاً؟.بالطبع السبيل الوحيد لذلك هو استجابة النظام لمطالب الشعب السوري، بإجراء اصلاحات سياسية واقتصادية وادارية وثقافية حقيقة في البلاد، كإلغاء المادة الثالثة (الإسلام دين رئيس الدولة) والمادة الثامنة (حزب البعث قائد الدولة والمجتمع) من الدستور السوري وتحديد ولاية الرئيس بدورة أو دورتين على الأكثر، كخطوة ضرورية للإسراع في عملية التغير الديمقراطي واجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية وبلدية مفتوحة حرة وديمقراطية . ألم يحن الوقت لنتعظ من الوضع اللبناني الحزين ومن المشهد العراقي الأليم، لماذا نتهرب من حقائق التاريخ، فمثلما للطبيعة شروطها و للعلوم الطبيعية قوانينها، كذلك للمجتمعات شروطها وللعلوم الإنسانية قوانينها، لا يمكن للشعوب إلا الأخذ بها إذا أرادت التطور والازدهار والتخلص من الآفات الاجتماعية والسياسية والتحرر من أسباب التخلف والإرهاب والعنف والتطرف والقضاء على التكسر المجتمعي. هذه الشروط و القوانين هي دولة القانون والعدل والمساواة وحقوق الإنسان والليبرالية والديمقراطية والعلمانية والحريات الاجتماعية والفردية والسياسية والمدنية (الزواج المدني) وفصل الدين عن الدولة وعن (السياسة)، وقد جربتها وأخذت بها شعوب وأمم كثيرة قبلنا ونجحت في بناء دولها وازدهار مجتمعاتها والسير في طريق التقدم الحضاري، فلماذا لا نأخذ بها نحن شعب سوريا ومعظم شعوب هذه المنطقة. ألا يكفي ما عانته وتعانيه سوريا من آثار نهج التميز القومي والاستبداد السياسي لحزب البعث ومن ايديولوجيته المهترئة وفكره المتكلس وخطابه المتهالك، حتى تقع من جديد ضحية الآيديولوجيات الطائفية والمذهبية والاستبداد الديني، الذي يدعو اليه فريد الغادري والتيارات الإسلامية، الأكثر بؤساً وعنصرية من الاستبداد القومي والسياسي.
كاتب سوري آشوري مهتم بحقوق الأقليات