الفلسطينيون في انتظار غودو
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يدفع المواطنون الفلسطينيون ثمن بقاء واستمرار هذه الحكومة، من دمهم وصحتهم وقوت عيالهم. هذه ليست لغة مجاز، وإنما لغة واقع وحقيقة. ومَن لا يصدّق ذلك، فليذهب إلى المستشفيات في بلادنا، وليُعرّج على مختبراتها وأطباء الدم فيها، فيسألهم.
لقد شاعت أخيراً، بعد 200 يوم جوع، ظاهرة فقر وضعف الدم في بلادنا، حتى استحقت توصيف " الظاهرة " والكلام ليس من عندي، بل هو كلام لطبيب مختص، وهو بالمناسبة، غير منتمٍ لا لفتح ولا لغيرها.
لم أكن أعرف هذه الحقيقة، حتى ذهبت بالصدفة، لعلاج زوجتي من دوخة أخذت تنتابها، في الفترة الأخيرة. ففحصنا دمها عند هذا الطبيب المختص، وكانت نسبته [ 11 ]، ما جعل الرجل يهنئني على وضعها الحسن نسبياً، قياساً بالآخرين والآخريات، الذين يراهم ويتعامل معهم كل يوم! قلت له ولكنْ دمها كان قبل شهور بقوة [ 15 ]، فقال لي، هي أحسن حالاً من غيرها بكثير. ولما استفسرت أريد المزيد من المعلومات، أخبرني بأن أكثر من 70 % ممن يعالجهم، تقل نسبة دمهم، في حالة الراشدين، عن [ 9 ]!
فقر دم مريع، يذكّرني بأحوال الشعب العراقي طوال سنوات حصاره المهلك. فقر دم، وجميعنا، إلا من لا يريد أن يعترف بالواقع، يعرف ومتأكد من الأسباب. والأسباب، كما لا تخفى، هي حصار إسرائيل المجرم لنا، وقطع الرواتب عن مليون نسمة تقريباً، نتيجة تمسك حماس بثوابتها السياسية العقيدية، وبقاء حكومتها، عاجزة تتخبط في أزمتها، ولا تحاول مخرجاً ولا حلاً وسطاً.
سبعة شهور بلياليها ونهاراتها، وكل شيء في بلادنا ومجتمعنا، ينكفىء ويتراجع ويذهب سريعاً إلى الانكشاف والعدم. الطلاب الجامعيون، كثرة منهم توقفت عن الدراسة بسبب عجزها عن دفع الرسوم. الأمهات والأطفال أيضاً أصيبوا بفقر الدم، وشاعت ظاهرة الدوخة والدوار، فصرت لا تعدم أن ترى في الشارع العام، إمرأةً تقع من طولها وهي تمشي، على حين فجأة. الموظفون كذلك تحوّلوا إلى شحاذين باحثين عن " كوبونات " الغذاء، يقفون بالطوابير أمام أبواب وكالة الغوث الدولية، وأمام أبواب مؤسسة الاتصالات الفلسطينية، التي تعطيهم النذر اليسير من أرباحها الهائلة، التي جنتها منهم قبل هذه الأزمة.
شيوع لون الاصفرار في وجوه الأطفال من طلاب المدارس. أمور كثيرة مفجعة تحدث، وقادة حكومتنا، يرونها ولا يحيرون جواباً. فقط يتبادلون الاتهامات والمناكفات مع تنظيم فتح المنافس لهم، والذي أوصلهم بفضل فساده العميم إلى سدة الحكم، وما من خطوة أبعد!
الناس تتقلّى، كما يقول مثلنا الشعبي، وهم ينظرون ويتفلّون ويتناكفون!
جوع ومهانة وموت أحمر، والآن رمضان العزيز على الأبواب! رمضان الذي سيكون أكثر رمضانات الفلسطينيين كآبة في تاريخهم منذ عام النكبة، أو على الأقل منذ هزيمة السبعة وستين! فهو يطل عليهم هذا السنة، ليجدهم منهكي الروح خائري القوى وصائمين من قبل حلوله بسبعة شهور! ويطل عليهم فلا يجد عندهم خيراً، كما في السنوات السابقة، ولا حتى نوراً. إذ ها هي أزمة انقطاع الكهرباء، مستمرة، تخيّم على أرجاء القطاع كله، ليلاً ونهاراً، منذ اختطاف الجندي غلعاد شاليت. لا طعام ولا كهرباء ولا جامعات ولا رواتب، وفقط يقال لهم اصبروا وصابروا وخذوا من حصار رسول الله قدوة لكم. فالرسول حوصر مدة طويلة، وكان يطحن العظام لرجاله، فيأكلون مسحوق العِظام، ونحن، بعد، لم نصل إلى هذه الدرجة!
مشكلة سياسية كأداء يحلو للبعض من العدميين الجدد أن يحلّها بعقله النكوصي، اللاهوتي والفقهي، مبتعداً قدر الإمكان عن مواجهة الأسباب الأرضية الحقيقية لها، كما هو المفروض في المسؤول السياسي، العقلاني والواقعي، والذي يعرف بأن مشاكل الشعوب لا تُحلّ على هذا المنوال الساذج.
فهذا المسؤول جاء إلى سدة الحكم، من بين ظهرانينا وليس من المريخ. وهو يعرف تماماً بأننا شعب يعيش على الصدقات، وأنّ رواتبنا نتسوّلها من الأوروبيين وغيرهم، فماذا نفعل إذا انقطعت الرواتب؟ هل يكفي الصبر فقط؟ وهل يملأ الصبر معدة أو أمعاء؟ هل يُسكت طفلاً وهل يُرضي زوجةً وهل يقنع طالباً جامعياً وهل يخبز رغيفاً وهل يوفّر مصروفاً؟
لقد تعلّق الناس كلهم بأمل تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، كحل وحيد للخروج من هذه الأزمة. أمِلوا وطال انتظارهم، حتى جاوز ال 200 يوماً، هم الذين أيديهم في النار، فماذا عن هذا الموضوع، هنا والآن؟
هل تتشكل حكومة إئتلاف وطني، أخيراً، كما طالبنا وكتبنا في هذا الموقع عدة مرات، منذ فوز حماس في الانتخابات، أم لا تتشكّل؟
وهل اقتنع الحمساويون بهذا الحل الواجب والضرورة، أم لم يقتنعوا بعد؟
لا أخفي بأن ثمة خشية تنتاب قطاعاً عريضاً من شعبنا، في إمكانية أن يرى تلك اللحظة المشتهاة عما قريب. فحماس، وكما تدلّ عدة وقائع وأحداث وتصريحات، غير جاهزة لمثل هذا الحل، ولا مستعدة أيضاً. على الأقل التيار العدمي فيها، وهو بالمناسبة، التيار الذي بيده مقاليد الحل والربط.
لذا ما كنا نخشاه قديماً، وما كنا نتحسسه قديماً، لم يتغيّر حتى اللحظة ولم يطرأ عليه شيء جديد. وعلى ذلك، فلن نفاجأ لو قيل لنا أخيراً : لن تكون هنالك حكومة وحدة وطنية في فلسطين! فمحمود الزهار بظّ الدمل وقالها بالفم الملآن، قبل فترة قريبة فقط : لا تنتظروا حكومة من هذا النوع. والسبب كما يقول هو أنّ حماس لا ولن تعترف بإسرائيل، وهو الأمر الذي تضغط عدة جهات عربية ودولية على حماس من أجله، كشرط لتشكيل هذه الحكومة وإعادة ضخّ المساعدات. أما رئيس الوزراء إسماعيل هنية، فقد قال من على منبر أحد مساجد رفح، قبل جمعتين، موجهاً كلامه لشخصيات في فتح بالأساس [ بأن مَن ينتظرون سقوط هذه الحكومة، عليهم بالانتظار طويلاً وطويلاً جداً ].
أما الآن، فإننا نسمع النغمات ذاتها تقريباً على نحو أوضح وأفدح : لا للاعتراف بإسرائيل. لا للاعتراف بالاتفاقيات الموقعة معها. لا للاعتراف بقرارات مجلس الأمن.
وبناء على كل هذه اللاءات، فعلى الأغلب سيتوقف قطار تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، التي ينظر إليها عموم الشعب الفلسطيني في الداخل، كقشة الغريق، لفك الحصار الجائر عنه، تحت حجة أن حماس غير جاهزة ولا مستعدة لتغيير ثوابتها والانقلاب عليها.
حسناً..، إذا كان المشهد معتماً هكذا، ولا أمل في تغييره، فليس أمامنا ولا أمام حماس سوى أن تستقيل حكومتها أو نستقيل نحن، وتأتي لها بشعب من المريخ، لكي تحكمه وتمارس سلطتها عليه. فإما حكومة وحدة تعترف بما يريده العالم منها، وإما أن تستقيل حكومة حماس، وتبقى محافظة على ثوابتها، لكن بعيداً عن كرسي السلطة القذر، وإما الحل الأخير. وهو حل أراه وجيهاً في أي حال. أما الحلول الأخرى، الميتافيزيقية العدمية، كالصبر والموت جوعاً ولا الاعتراف بإسرائيل. فهي حلول ثبت فشلها، ناهيك عن أنها غير سياسية بالمرة. ولن توصلنا على الأرجح إلا للمزيد من الضياع والعدم والاهتراء ثم الذوبان والانقراض. ذلك أنّ إسرائيل، من سوء حظنا، ليست مجرد خلاف نظري في أمور تجريدية، من حقك أن تعترف بها أو لا تعترف. فهي دولة كبرى قائمة، وكيان هائل موجود، إن لم نقل أنها أقوى الدول وأكثرها منعة في الشرق الأوسط والمنطقة.
لقد كنا نعرف طوال السبعة شهور الماضية، بأن " الاتفاق " بين فتح وحماس، أبعد علينا من الثريا ذاتها، ومع هذا كنا نأمل ألا يخذلنا هذان التنظيمان، وقد فاض بنا الكيلُ، وألا يمارسا عنادهما الفصائلي الضيق، وأن يجيدا قراءة الظروف السياسية الراهنة في منطقتنا والعالم. لكن يبدو أن كل هذه الآمال لا تعدو أن تكون محض أوهام تكنسها الريح.
فحساب الفصيل فوق حساب الوطن القتيل، ومن لا يعجبه ذلك فليشرب من ماء قهره وغيظه!
إذاً ليس أمام الشعب الفلسطيني الجائع حد الإنهاك والعياء، إلا انتظار غودو الذي لا يأتي أبداً. وإلا أن يصبر نوعاً محدداً من الصبر، هو الصبرالميتافيزيقي، لا سواه.
صبر يأتينا من كتب التراث، ولا يعنيه في شيء، القول بأن قطاع غزة على حافة كارثة إنسانية بالمعنى الأفظع للكلمة. الأمم المتحدة تقول ذلك، والاتحاد الأوروبي. لكن قوانا التنظيمية الفاعلة، التي تعيش بيننا، لا تأبه بهذا التحذير المرعب، وتعاند وتكابر ولا تلتفت إليه. لكأن معاناة الناس عندها لا تساوي شيئاً.
إنها تنتظر وتراهن على فك هذا الحصار بالصبر والصمود فقط. أما عموم شعبها، فليس له يا ولداه، غير انتظار العزيز غودو، فربما يتنازل هذا ويأتي أخيراً كرمال خاطر الفلسطينيين!