البابا قلبه بيوجعه!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
انتظرت حتى تهدأ العاصفة والعاصفة المضادة نسبيا قبل أن اكتب عن الموضوع ربما بحكم انتمائي لمدرسة العقل والتعامل الموضوعي مع الأشياء إذا اقتنعنا بأن التعامل الانفعالي هو احد أهم أسباب نكبات العالم الإسلامي وتراجعه المذهل في الوقت الحالي إضافة طبعا لأسباب أخرى سأحاول إيضاحها في السطور التالية.
قبل أن ابدأ أظن أنني مدين للقراء بتوضيح مغزى العنوان الذي يبدو استخدامه غريبا بعض الشيء في موقف مثل الذي نتحدث عنه لكنني شعرت أن العنوان وهو مستوحى من أغنية المطرب بهاء سلطان هو انسب ما يمكن وصف تصريحات البابا بندكت السادس عشر في محاضرته في ألمانيا به وهو أن الرجل قلبه بيوجعه من الإسلام والمسلمين وهو المبرر الوحيد في رأيي لكي يعرج في محاضرة يلقيها على عشرات الآلاف من المسيحيين عنوانها "الإيمان والعقل والجامعة: ذكريات وتأملات على الإسلام دون مناسبة حاملا ما تيسر له حمله من التراب ليلقيه على سيرة الرسول صلي الله عليه وسلم ثم يقف بعد أن اشتعلت الدنيا ليقول انه أسيء فهمه وان النص الذي اغضب المسلمين اجتزئ من سياقه، وقد لفت انتباهي عند متابعة ردود الفعل المختلفة على الموضوع أن أحدا لم يتوقف لسؤال البابا.. وما الذي جر سيرة رسول الإسلام إلى سياق محاضرة عن الدين المسيحي إذا لم يكن في النفوس شيء مريب؟ ولماذا اختار البابا وهو رجل يفترض فيه أن يكون سياسيا بقدر ما هو ديني (ولنا في البابا شنودة بطريرك الأقباط الارذثوكس مثلا نموذجيا على هذا) أن يتكلم عن الإسلام حين أراد أن يعطي مثلا عن قيام الدين بتغييب العقل؟ ولكي أكون منصفا فان نص ما قال البابا تحديدا في محاضرته "تذكرت كل هذا مؤخرا حينما كنت أقرأ شطرا من حوار دار - ربما عام 1391 في الثكنات الشتوية قرب أنقرة بين الإمبراطور البيزنطي واسع العلم مانويل باليولوغوس الثاني وفارسي متعلم حول مسألة المسيحية والإسلام، وحقيقة كليهما.
وفي المحاورة يتناول الإمبراطور مسألة الحرب المقدسة، ودون الخوض في تفاصيل، من قبيل الاختلاف في المعاملة بين الذين تسبغ عليهم معاملة "أهل الكتاب" والذين يعاملون كـ"كفار"، واجه محاوره باقتضاب مذهل يبلغ مرتبة الفظاظة عند البعض وذلك في تناوله للمسألة المحورية حول العلاقة بين الدين والعنف عامة، إذ قال: "فقط ارني ما أتى به محمد وجاء جديدا، عندها ستجد فقط ما هو شرير ولا إنساني، كأمره نشر الدين الذي نادى به بالسيف".وبعد أن عبر الإمبراطور عن نفسه بهذه القوة، مضى ليشرح تفصيلا لماذا نشر الإيمان بالعنف أمر مناف للعقل والمنطق، فالعنف لا يتفق وطبيعة الله ولا يتفق وطبيعة الروح. إنه يقول إن "الله لا يسر بالدماء، وليس التصرف بعقلانية مناقض لطبيعة الله، فالإيمان يولد في رحم الروح، وليس الجسد، ومن يهدي إلى الإيمان إنما يحتاج إلى القدرة على التكلم حسنا والتعقل، دون عنف أو تهديد أو وعيد".
هذا إذن ما قاله البابا بحذافيره ومجددا أجد نفسي مدهوشا من إقدام الرجل الذي قيل انه أكثر الباباوات في التاريخ فهما للإسلام وإطلاعا عليه على اختيار دين محمد تحديدا دون غيره لإعطاء مثل على العنف وتغييب العقل مع انه بحكم معرفته بالإسلام كما قيل يفترض أن يعرف قدر الحساسية التي قد يسببها كلامه هذا، ثم إذا أراد أن يعطي أمثالا على العنف وتغييب العقل فلديه في تاريخ الدين المسيحي ما يملأ كتبا (مثلما في الاسلام واليهودية) ليحققوا مصالح خاصة بداية من صكوك الغفران ومحاكم التفتيش والحملات الصليبية التي خدع بعض الملوك المسيحيين في أغراضها الانتهازية غير الدينية مثل ريتشارد قلب الأسد ملك انجلترا النبيل 0وهو عبر عن خداعه بالفعل لاحقا)، كما انه كان يمكن له التحدث عن اليهودية واليهود الذين عذبوا المسيح (وصلبوه وفقا ليقين المسيحيين) أو على الأقل كان يجدر به التنويع حتى لا يكون خطابه موجها فقط ضد الإسلام.
في المقابل لم تكن اغلب ردود الفعل الإسلامية جيدة ولا منصفة للإسلام ولا حتى تعبر عن الجوهر الحقيقي المحترم لهذا الدين، إذ لا يعقل أن يكون أتباع محمد سذجا لدرجة دعوة البابا للدخول في الإسلام مثلما فعل نجل القذافي ولا أن يكونوا دمويين ليذبحوا الراهبة في مقديشيو ولا يحاولوا إحراق الكنائس في دول أخرى وهذه كلها تصرفات تثبت صحة ما قاله البابا لكنها تنطبق على مسلمين هذا الزمان وليس على الإسلام الذي نزل به محمد صلى الله عليه وسلم الذي أمر قواد جيوشه ألا يحرقوا زرعا ولا يقتلوا مدنيا ولا يبطشوا بجند استسلموا وهي كلها تعليمات أخلاقية لا يمكن أن تصدر من رجل متعطش للدماء كما يظن البابا وعليه أن يراجع تاريخ المغول والتتار ليعرف كيف يكون سلوك البشر المتعطشين للدماء.
والحقيقة أن ما فعله قلة من المسلمين ردا على تصريحات البابا يدفعني للشك أن هناك من يريد تثبيت صورة الهمجي على المسلمين إذ لا يمكن أن يفعل المسلمون هذا بانفسهم اللهم ألا إذا كان الغضب المبالغ فيه هو جزء من التنفيس عن الاحتقانات المختلفة التي تعيشها الشعوب العربية والمسلمة في دولها إضافة إلى حالة التخاذل العجيبة التي يبديها زعماء هذه الدول في مواجهة الهجمة الغربية المنظمة على الإسلام.
نعود للبابا الذي يبدو انه يعاني من أوجاع في قلبه بالفعل من الإسلام وارى شخصيا (واحسب أن كثيرين سيخالفونني الرأي) أن قدومه إلى صدارة الكنيسة الكاثوليكية يتسق مع التوجه الغربي الحالي الذي يريد أن يكون صراع القرن الجديد بين الأديان في تحريف بسيط لرؤية صمويل هنتجتون الشهيرة حول صدام الحضارات، وعلينا مراجعة السيناريو الغربي كاملا لنتأكد أن تصريحات بوش المتعددة عن الإسلام الفاشي وحملاته الصليبية الجديدة على العالم المسلم ليست ترهات من رجل لا يستطيع التحكم في لسانه مثلما يحاول بعض الاميركيين تسويقه وإنما هي جزء من هذا التصور الشامل للصراع بين الأديان ومثلها أيضا قضية الرسوم المسيئة ودفاع الأوروبيين عنها ومحاولة تشجيع الحركات المبتدعة في الإسلام مثل إبراز السيدة الاميركية التي تصدت للإمامة بالرجال وغيرها من أشياء يقصد بها شغل المسلمين وإشعال غضبهم ونزع الإسلام من إطاره المتكامل كدستور للحياة.
ومن لا يصدق افتراضي عليه أن يراجع قرارا البابا بنقل الأسقف مايكل فيتزجيرالد الذي كان مسؤولا عن قسم بالفاتيكان لتعزيز الحوار مع الأديان الأخرى من منصبه رغم اعتراض الكثيرين في الفاتيكان ومنهم الأب توماس ريز وهو باحث يسوعي وحجة في شؤون الفاتيكان الذي أعرب عن قلقه من تلك الخطوة بقوله "لقد كان أسوأ قرار للبابا حتى الآن هو نفي الأسقف فيتزجيرالد، فقد كان الأكثر فطنة في الفاتيكان فيما يتعلق بالعلاقات مع المسلمين (بحكم كونه باحث متعمق في الشؤون العربية، وخبير له باع في العالم الإسلامي) وقوله "شخص مثل هذا لا ينبغي إقصائه بل الاستماع إليه".
وما يثير التساؤل أن هذا النقل كان الوحيد الذي أقدم عليه بندكت السادس عشر بين الاساقفة الكبار في الفاتيكان منذ أن تولى كرسي البابوية قبل أكثر من عام.
أما ما يطالب به البعض في الغرب من ضرورة تقبل المسلمين للإهانات انتصارا لحرية التعبير مثل السير تريفور فليبس رئيس لجنة المساواة العرقية في بريطانيا الذي إن على المسلمين تقبل الواقع القائل إن حرية التعبير تعتبر أساسا للشخصية المتحضرة، وأنها حرية ينبغي المحافظة عليها حتى لو أدى استخدامها إلى إهانة أو إزعاج بعض الناس. مؤكدا انه "علينا السماح للناس بإهانة بعضهم بعضا". فلا ملك سوى أن مطالبته بتطبيق نظريته اللوذعية هذه على اليهود أن كان يقدر ليرى ما لن تسر به عينه ولا تقر به أذنه، ولو كان هو أو منصف أخر جادا في توجهه فلماذا لا يتصدى احدهم لليهود حين يعقرون كل من يمس من قريب أو بعيد نظرية المحرقة علما بأنها مجرد نظرية افتراضية تحتمل الجدل وليست من صلب العقيدة التي مسها البابا في محاضرته أو مستها الرسوم الدنماركية "إياها"؟!