كتَّاب إيلاف

العقل... إشكالية التعريف

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك


موضوعة العقل 5

أهدي هذه الحلقة للشاب الكريم زاهر مشكور، لقد جهدتَ أن تكون معنى وليس شيئا، وكان ذلك، ولزوجتك الكريمة التي جهدتْ ان تكون حقيقة وليس ظلا، وكان ذلك ، اسأل الله أن يقر بكما عيون الفقراء والمساكين والمعدمين، لأني اعلم انكما تحبان الفقراء والمساكين والمعدمين، اللهم أمين.

العقل... إشكالية التعريف / 1
ما هو العقل؟
لا نريد هنا تسطير كما من التعاريف، فهذه العملية سهلة يسيرة، يمكن مراجعتها في بطون الكتب، ويمكن حفظها عن ظهر قلب، ولكن نبغي هنا تسليط الضوء على مبررات أهم التعاريف ، ونسبر بعض خفاياها، ونكتشف علاقتها بمجمل ظروف نشأتها وصيروتها.
هناك كم هائل من المحاولات التي بُذلت من قبل العقل لتعريف العقل ، يغلب على بعضها الطابع الفلسفي، وبالفعل كثيرا يُنسَب مثل هذه التعريف للحكماء، أي الفلاسفة، وهناك التعريف الذي يغلب عليه الطابع الاجتماعي العرفي، وهناك التعريف الذي سيق من أجل غاية مسبقة، وهناك التعريف المتأثر بالجانب المعرفي، أي تغلب عليه الناحية الابستمولجية، تلك التعاريف التي تعرِّف العقل بمنظومات فكرية ومنطقية فطرية أولية مثلا.
ولا ننسى هناك التعريفات التي لا تنتمي إلى طينة فلسفية، هناك تعريفات علماء النفس والإجتماع والاناسي ( الانثروبوجي ) والألسنيات، وهناك التعريف الذي قد يدلي به علماء المخ البشري، والتعريف الذي يطرحه المتصوفة، وأصحاب السلوك الاستبطاني، والقائمة تطول.
التعامل مع التعريف بلغة بريئة ليس موقفا سليما، لا توجد حيادية في التعريف في مثل هذه الميادين، فإن أي تعريف للعقل ليس صنيع عقل صاف، فليس هناك عقل بريئ، وأقصد في ذلك، لا يوجد عقل يعرِّف بطريقة خالصة، بل يعرِّف ـ والتعريف نشاط عقلي معرفي على كل حال ــ وهو مشوب، مختلط، مزيج، فإن هذا العقل ومنذ اللحظات الأولى التي يأتي بها الإنسان إلى هذه الدنيا ــ وهي أول كارثة يتلقاها الإنسان في حياته ، فالوجود محنة مؤذية ــ يتلقى سيلا هائلا،من المدرَكات، تيارا مذهلا من الصور عبر حواسه، ومنذ اللحظة الأولى يبدا عقله ــ بواسطة هذه الصور والمدرَكات ــ يعمل وينشط ، وكل هذا الوافد يؤثر على عمل العقل، ويطبعه باكثر من طابع، ويلونه باكثر من لون، ويدمغه بأكثر من هوية.
هل يستطيع (الفاربي ) الإدعاء بأن تعريفه للعقل غير متأثر بكونه فيلسوفا، شارحا لأرسطو، غارقا في بحر هذا الفيلسوف إلى حد الغرق؟
هل يستطيع ( الغزالي ) في تعريفه للعقل أن يتنكر لأثر تجربته الصوفية، بل وحتى لأثار ومستحقات كونه عالم أخلاق، يطرح صراحة ( القلب ) كسبيل وحيد لإدراك الحقيقة الخالدة؟
هل يستطيع ( النظام ) أن ينكر أن تعريفه للعقل متأثر بنزعته الكلامية المسبقة، تلك النزعة التي تدافع عن ثابت عقدي في عميق روحه وضميره؟
هل يستطيع ( باسكال ) أن ينكر أن تعريفه للعقل بعيدا عن تجربته مع الألم، ذلك الألم الذي كان يقض مضاجعه، يعصف برأسه عصف الريح العاتية بالاشجار البريئة؟
هل يستطيع (وليم جيمس ) أن ينكر تعريفه للعقل بمنأى عن تعلقه المهيب بمبدا الإرادة، إرادة الإعتقاد، وكونها سر تفرد الإنسان، وسر قوته، وسر نجاحه؟
هل يستطيع ألذين يعرفون العقل اليوم بانه لم يعد مجموعة من القواعد المنطقية الأرسطية بهدف التصنيف والنويع وأنما مجموعة من القواعد والمبادي التي تؤطر التجربة وتفعلها في صلب الواقع والفكر... هل يستطيع هؤلاء أن ينكروا أثر الانتصارات الهائلة للتجربة في صياغة مثل هذا التعريف للعقل؟
من الصعب ذاك...
وإذا كان، فمن جهل أ ومكابرة...
ومن منجزات الفكر الحديث البحث عن جذور الموقف المعرفي في أعماق الذات، وأعماق اللاشعور، وأعماق البنى الاجتماعية، و أعماق الموروث، و أعماق الانتماء الديني، و أعماق التاريخ الشخصي، وأعماق التاريخ النوعي. ومن منجزات الفكر الحديث المراجعة التاريخية للمفهوم، وتتبع مسيرته عبر تقلباته التي طالما تكون حادة، عاصفة، مثيرة، بل وحتى مخيفة، لما تحمل من إنقلاب على البداية في كثير من الأحيان، وإلا هل نتصور أن مفهوم ( المثالية ) في فلسفة فلاطون تعني الواقع الحي، الواقع بكل إمتلائه بنفسه ، فيما تعني لدى باركلي كون ( العالم ) مجرد إدراكنا له ليس إلاّ؟ كم هو الفارق بين الدلالتين؟
العقل يعرَّف العقل ليس بصرفه، تلك خرافة في تصوري، إنما العقل يعرِّف العقل بمضمونه، بتاريخه، بثقافته، ببحره الزاخر من الفكر والرؤى والتصورات والتجارب، أنه تعريف مشوب، رغما عن العقل نفسه.
لنكون أكثر صراحة، أني أعرِّف عقلي بعقلي، هي محاولة ممكنة، بل محاولة جارية، ولكن بعقلي المكتسب، وليس بعقلي الهيولي، أي بمادته الأولى ، عقلي بعد التجربة، فأن عقلي منذ اللحظة الأولى يصاب بالشوب، يتلبس بالجديد، تنهال عليه ثقافة المحيط. حتى الاستبطان ليس بريئا، أي استبطان هو مشوب، لان داخلي الذي أستبطنه هو ليس داخلا أجوف، ليس داخلا صافيا، ليس داخلا بريئا، هو داخل في داخل في داخل، إلى ما لا نهاية.
هل نقول أن ( تعقل العقل للعقل خرافة )؟
علما أن الخرافة المطروحة هنا ليس لها علاقة بصحة التعريف أ و بطلان التعريف، بل لها علاقة جوهرية بمفهوم الإمكان ليس إلاّ، كما هو واضح من طبيعة السؤال بعد ربطه بموضوعة.
نعم ولا..
( نعم ) إذا تصورنا ذلك على نحو الخلوص، على نحو البرائة المطلقة، و (لا ) إذا تصورنا ذلك على نحو الشوب، على نحو الاختلاط، فليس هناك تعقل خالص، حتى على صعيد حضور العقل لدى العقل ذاته، فالعقل لا يعمل بمادة ذاته، مادته التكوينية الانطولوجية الوجودية ، بل يعمل بكمالاته، وكمالاته هي مخزونه، من الفطريات والكسبيات معا.
هنا يطيب لي ان أنقل هذا النص مباشرة عن كتاب الأسفار لملا صدرا الشيرازي ( ومنها ـ قوى النفس ـ العقل، ويقال على أنحاء كثيرة، منها : الشيء الذي يقول به الجمهور في الإنسان أنه عاقل، وهو العلم بمصالح الأمور ومنافعها، وحسن أفعالها وقبحها. والثاني : العقل الذي يردده المتكلمون فيقول المعتزلة منهم به، كقولهم : هذا يوجبه العقل ونيفيه العقل. والثالث : ما ذكره الفلاسفة في كتب البرهان. والرابع : ما يذكر في كتب الأخلاق المسمَّى بالعقل العملي. والخامس العقل الذي يُذكر في كتاب النفس في أحوال الناطقة ودرجاتها. والسادس : العقل الذي يُذكر في العلم الإلهي وما بعد الطبيعة ) / الجزء الثالث ص 560 طبعة بيروت /. ويقول في مكان أخر ( إعلم : يطلقون أسم العقل تارة على هذه القوة، وثالثة على إدراكات هذه القوة، وأما الإدراكات فهو التصورات أو التصديقات الحاصلة للنفس، بحسب الفطرة، وا لحاصلة لها بالإكتساب، أو يخصون أسم العقل بما يحصل بالاكتساب ) ص 478. وهذا جون لوك يطلق كلمة العقل ويريد بها أ حيانا ا لمبادي الصحيحة و الواضحة، و أحيانا العلة وعلى وجه الخصوص العلة الغائية، وملكة الفهم التي يتميز بها البشر عن باقي المخلوقات، على وجه أخص الحيوانات.
لا أريد هنا أن استعرض التعريفات، فهذا ما ساقوم به تفصيلا في الحلقات المقبلة أن شاء الله، ولكن أردت فقط أن أبين أن ليس هناك تعريف خالص، وإن حضور ( العقل للعقل ) حتى إذا كان ممكنا، فهو حضور مشوب، ومن هنا جاءت فوضى التعريف، تلك الفوضى التي تذكرني بعالم ( الحرافيش )، حرافيش محفوظ التي هي على قرابة روحية بعالم ( مئة عام من الوحدة ). وما أحلى الوحدة في عالم اليوم.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف