أنقرة، بغداد وحزب العمال الكردستاني!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
ديوان رئاسة اقليم كردستان أصدرّ بياناً يرفض فيه بعض التصريحات التي تصف الحركة الكردية في تركيا بالإرهابية. وقال بيان رئاسة الأقليم ان الحكومة المحلية الكردية ترفض وسم حركة التحرر الكردستانية (حزب العمال الكردستاني في توصيف آخر) بالإرهاب. في الحين الذي أرسل فيه الرئيس العراقي الكردي جلال الطالباني أحد مسؤولي حزبه لجبال قنديل المعقل العسكري لحزب العمال الكردستاني، بغية التفاوض مع قادة الحزب في سبل حل القضية الكردية في شمال كردستان. وكان الطالباني قد أعلنّ في وقت سابق في نيويورك، على هامش إجتماع منظمة الأمم المتحدة، عن نجاحه في "إقناع الحزب" بإعلان وقف جديد لإطلاق النار، بغية إعطاء الفرصة المناسبة للمساعي المبذولة حالياً من أجل حل القضية الكردية في تركيا.
هذا في الجانب الكردي، وفي الجانب العراقي، كان رضوخ بغداد مدهشاً للضغوط والاملاءات التركية فيما يخص محاربة "وجود حزب العمال الكردستاني في أراضي الجمهورية العراقية". فأصدرت السلطات العراقية بادئ ذي بدء، قراراً يقضي بإغلاق مؤسسة أوجلان للثقافة والبحث العلمي في بغداد. وهي مؤسسة ثقافية أسسها عدد من المثقفين العرب والكرد، وكانت تعني بالثقافة والتراث الإنسانيين. هذا رغم أن القرار سياسي ولا يستند إلى أي مسوغ قانوني أو جنائي، كما أنه يخالف الدستور العراقي، الذي ضمنّ مواد حول "احترام حقوق التعبير والرأي والفكر". ورغم إحتجاج عدد كبير من المثقفين العراقيين العرب في العراق وخارجه على هذا التصرف الغريب، والرضوخ المجاني لإرادة دولة عسكرتارية / شمولية تنكر حقوق مواطنيها مثل تركيا، إلاّ أن رجالات "العراق الجديد" أصروا على موقفهم، وتمادوا أكثر فأكثر، وأصدروا في حكومة السيد نوري المالكي قراراً يمنع "وجود حزب العمال الكردستاني وتمثيلياته في البلاد". حتى هذا القرار لم يعجب ساسة أنقرة، فطالبوا العراقيين بالمزيد وإعلان الحرب على الحزب الكردي وخوض عمليات عسكرية ضد قواعده نيابة عن
الجيش التركي...
تركيا ومنذ تأسيس اللجنة الثلاثية العراقية ـ التركية ـ الأميركية المكلفة بمتابعة ملف حزب العمال الكردستاني وهي تراهن على دفع الحكومة العراقية لضرب العمال الكردستاني، أو التضييق عليه في أسوأ الأحوال. ورغم أن العراق غارق في فوضى الإرهاب. والعراقيون منشغلون بالمحاصصات الطائفية والتنازع على الوزارات والمناصب، حيث تكمن كل طائفة للأخرى بغية الاستحواذ على نفوذ أكثر، مع ما يرافق كل ذلك من أعمال تفجير وتقطيع للرؤوس على الهوية الشخصية، إلاّ أن الحكومة العراقية رضخت لأوامر أنقرة في مسألة التضييق على حركة التحرر الكردستانية. وتقول القراءة السياسية أن هذا الرضوخ العراقي للأمر التركي هو رضوخ مجاني وبلا ثمن، تماماً مثل الرضوخ السوري لإرادة العسكر والذي تٌوج بصفقة اتفاقية أضنة السرية عام 1998م والتي تنازل فيها النظام السوري عن لواء الأسكندرونة والمياه والأمن، مقابل التضييق على العمال الكردستاني والحركة السياسية الكردية في سوريا، حيث قررت تركيا بدورها تقديم العون الأمني والمشورة للنظام السوري في مطاردة القوى السياسية الكردية السورية ومراقبتها والتضييق عليها، وظهرّ هذا عياناً أثناء أحداث إنتفاضة 12 آذار 2004 في المناطق الكردية في سوريا.
رضوخ "العراق الجديد" لإرداة عسكر تركيا وحكومة (العدالة والتنمية) المرتهنة بيد جنرال الحرب يشار بويوكانيت، وذلك بالتضييق على حزب العمال الكردستاني وأنصاره في البلاد، لايصب في مصلحة العراق والشعب العراقي. العراق بذلك يخسر ورقة ضغط كبيرة يستحوذ عليها في مواجهة الأطماع التركية في الأراضي العراقية، وبشكل خاص الأطماع في ولاية الموصل( ولا ننسى الحجج التركية التي سوقهّا وزير الخارجية التركي يشار ياكيش، حين تحضير واشنطن لإسقاط نظام صدام، والأستعادة المتكررة لإتفاقية 5 حزيران 1926 وحصة ال10% في نفط الموصل). والمراقب للسياسة التركية الحالية سوف يٌصيب بالصدمة أمام كل هذا التدخل التركي في شؤون العراق، عن طريق دعم (الجبهة التركمانية العراقية) تارةً، أو تحريض بعض الأطراف السنيّة، والضغط المستمر على الطرف الكردي فيما يخص موضوعة كركوك ومسألة الأحصاء طوراً. هذا إضافة للحصار الأقتصادي الذي تفرضه أنقرة على كل من بغداد ودمشق، والمتمثل بحجب مياه نهري دجلة والفرات (الذين ينبعان من كردستان الشمالية) وتمرير المياه المالحة لحوض النهر، بغية القضاء على قطاع الزراعة في هذين البلدين العربيين، تمهيداً لتصحيرهما بشكل نهائي، على حد وصف أحد الصحفيين الأتراك قبل مدة. ومن ذلك مانقلته صحيفة "الحياة" اللندنية عن وزير الموارد المائية العراقية، حيث أوردت الصحيفة بالحرف " أن وزير الموارد المائية العراقي عبد اللطيف رشيد حذرّ في مقابلة مع "الحياة" من النتائج الوخيمة التي يمكن ان يخلفها تنفيذ مشروع "غاب" التركي على مختلف جوانب الحياة في العراق مشيراً الى "أن العراق سيخسر جراء المشروع 40 في المئة من اراضيه الزراعية، إضافة الى تأثيرات اخرى تصيب نهري دجلة والفرات لا سابق لها في البنية الاجتماعية في العراق، فضلاً عن التغييرات البيئية الهائلة التي ستنتج من الانخفاض المرعب لمنسوب المياه".ويقول الوزير العراقي ان كميات المياه الواردة الى العراق في نهر دجلة ستتأثر في شكل كبير عند اكتمال تنفيذ مشروع سد "اليسو"، الذي سيتحكم في تحديد كميات المياه المتجهة الى العراق، وان الوارد المائي الطبيعي لنهر دجلة عند الحدود العراقية التركية هو 20.93 بليون متر مكعب في السنة. وفي حال تنفيذ المشاريع التركية، يتوقع ان ينخفض هذا الوارد الى 9.7 بليون متر مكعب في السنة، وهو يشكل نسبة 47 في المئة من الايراد السنوي لنهر دجلة، وان لمثل هذا النقص انعكاسات خطرة على العراق في مجالات الزراعة والشرب وتوليد الطاقة والصناعة، وبدرجة كبيرة انعاش الأهوار والبيئة".
ساسة العراق وهم في غمرة التنافس والتنازع والصراع الطائفي يمررون مشاريع إقليمية خطيرة، ستكون لها تداعيات على الأمن القومي للدولة العراقية في المنظور الإستراتيجي المتوسط والبعيد. ودول الجوار العراقي وقفت ومنذ رفضها تدخل واشنطن لإسقاط نظام صدام وتحرير البلاد من جبروته، ضد مصالح العراقيين، فأرسلت طرود الموت من الإرهابيين العرب، حيث مولتهم ودربتهم بغية إيفادهم لقتل ابناء الشعب العراقي، من الشيعة والكرد والسنّة الوطنيين المشاركين في العملية السياسية. ومازالت هذه الدول حتى الآن تعترض على كل صيغة جديدة تتوافق عليها مكونات الشعب العراقي بغية إفشال النموذج العراقي الجديد وتحويل البلاد إلى أفغانستان جديدة: بلاد فاشلة تتنازعها الحروب، ونافورة دماء لا تتوقف...
الجانب الكردي العراقي ولمعرفته بقوة وجماهيرية حزب العمال الكردستاني في كردستان الشمالية وفي أوروبا، بدأ في العمل صادقاً لحل القضية مع الحكومة التركية عن طريق الحوار والتفاوض، ورفض خيار الحرب والتصعيد. وبدء الساسة الكرد في كردستان الجنوبية (أو: كردستان العراق) وعلى رأسهم الرئيس العراقي جلال الطالباني ورئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني في إستخدام علاقاتهم مع واشنطن لدفعها لإتجاه حل القضية الكردية عن طريق التفاوض والحوار، والضغط على العسكر في أنقرة بغية الاعتراف بالحقوق الكردية وبممثلي الكرد في كردستان الشمالية وهم حزب العمال الكردستاني وواجهته السياسية حزب المجتمع الديمقراطي (الذي يسيطر على 56 بلدية كبرى في كردستان الشمالية).
ونقل مسؤول كبير في الاتحاد الوطني الكردستاني (حزب الرئيس الطالباني) لكاتب هذه السطور قبل فترة أن المسؤولين في الحزب باتوا على قناعة تامة بأن القضية يجب أن تٌحل عن طريق حوار بين حزب العمال الكردستاني والدولة التركية، وإن قضية استخدام القوة ضد مقاتلي العمال الكردستاني أمر مرفوض كردياً، والقيادات الكردية العراقية ترفض ذلك بشكل قاطع...
ورغمّ أن واشنطن تعي تماماً أن شعبية العمال الكردستاني وزعيمه أوجلان في تصاعد مستمر، وأن كل البدائل التي رغبت في تسويقها في الأوساط الكردية فشلت تماماً في ملء مكانة أوجلان وحزبه، وتعلم كذلك أن تركيا ماضية في سياسة القتل والعنف وضرب المدنيين والتنكيل بهم، إلا أنها ماتزال تشيح بوجهها عن الملف الكردي الشمالي.
الزعيم الكردي عبدالله اوجلان وفي تصريح حملّه لمحاميه أثناء زيارة هؤلاء له في سجن جزيرة إيمرالي المعزول وسط بحر مرمرة، حيث يعٌتقل هناك منذ عام 1999م انتقد سياسة واشنطن في منطقة الشرق الأوسط، وقال أوجلان بالحرف "إن هناك أخطاء كبيرة ترتكبها الولايات المتحدة وهي تسعى لتطبيق مشروع الشرق الأوسط الكبير، وهو مشروع طويل طبعاً وقد يستغرق وقتاً طويلاً ويأتي على مراحل، وأنا قلت لغراهام فولر، وهو مسؤول أميركي جاء لزيارتي في دمشق، بأن بلادكم ترتكب أخطاء كبيرة وهي غير ملمة بأوضاع ودقائق المنطقة، وكان الرجل ينصت لي بكل اهتمام (...) قد يكون هدف اميركا في النهاية هو دمقرطة المنطقة ولكن الطريقة التي تنتهجها من اجل تحقيق هذا الهدف هي طريقة خاطئة تماماً لعدم معرفتها بخبايا ودقائق منطقة الشرق الأوسط".
المواجهات بين قوات الجيش التركي والمقاتلين الكرد في قوات حماية الشعب (الجناح العسكري في حزب العمال الكردستاني) تشتد كل يوم. هناك اشتباكات تحدث في مناطق مختلفة، وإصابات وقتلى في صفوف الجيش التركي، الأمر الذي دفع ذوي القتلى، ولأول مرة في تاريخ الجمهورية التركية الحديثة، لتأسيس (جميعة أهالي قتلى الحرب)، وهي جمعية تدعو للسلام ووقف الحرب، كما تدعو "السياسيين وجنرالات الحرب لإرسال أبنائهم لمناطق القتال بدل إرسال أبناء الفقراء والعامة"...
في الحين الذي تتأزم فيه العلاقات الاجتماعية بين الكرد والترك في مدن الداخل التركي، حيث يتعرض المهاجرون والعمال الكرد داخل تركيا لهجمات يومية تشنها ميليشيات قومية عنصرية بهدف الانتقام من مقتل الجنود الأتراك على يد المقاتلين الكرد في جبال كردستان. وكانت جهة تركية تدعى" كتيبة الإنتقام التركية" قد أعلنت مسؤوليتها عن هجوم وقع على مجموعة من المدنيين الكرد في دياربكر، معقل أنصار حزب العمال الكردستاني وزعيمه أوجلان، مما أسفر عن مقتل أحد عشر مدنياً كردياً بينهم سبعة أطفال.
تركيا تتجه نحو حرب أهلية طاحنة في حال إصرار العسكر على الحرب، والكرد وأمام حالة التهميش والظلم وعلى كل الأصعدة، لن يسكتوا إزاء هذا الواقع. وبما أن المنطقة تشهد تصعيداً كبيراً وهناك فورة قومية ودينية وعودة أصوليات وإثنيات، فإن القضية مرشحة للتصعيد والتفاقم أكثر فأكثر. وقبل شهر من الآن، نقل مراسل صحيفة الغارديان البريطانية عن أهالي دياربكر، عن تأييدهم الكامل لحزب العمال الكردستاني وزعيمه أوجلان وسخطهم وغضبهم على الدولة التركية. كما نقل أيضاً أن عدد الشبان الذين غادروا المدينة ذات الثلاثة ملايين نسمة، لينضموا للمقاتلين الكرد في الجبال بلغ مائة شاب، في ظرف شهر واحد فقط..!.