حوار حضارات أم صراع ثقافات؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
قصة بيندكيت السادس عشر نموذجا !
مقدمة
عندما سمعت وقرأت محاضرة قداسة البابا بيندكيت السادس عشر التي اثارت زوبعة واسعة قبل ايام، استرجعت ذاكرتي قراءاتي عن عهد السلطان العثماني بايزيد الاول وتاريخ الصراع في المنطقة عند مفصل القرنين الرابع عشر والخامس عشر .. وتذكّرت بأن الصراعات عصرذاك لم تكن بين ديانتين سماويتين اثنتين، بقدر ما كانت بين مصالح دول وقوى واباطرة .. بل وان تلك الصراعات طالت من خلال الانشقاقات السياسية انقسامات في كل من الديانتين المسيحية والاسلامية، وأذّكر قداسة البابا أن كنيسة روما الكاثوليكية
تأجيج حرب دينية غير نمطية !
ينبغي علينا ان ننتقل من طور السفسطة البيزنطية الى اساليب الجدل الفلسفية في معالجتنا لما اطلقه البابا بيندكيت السادس عشر في محاضرته التي اعتبرها اكاديمية ولم تكن دينية .. وسوف لا تسمح لي محددات المقال ان اناقشه تاريخيا في الذي اطلقه، ولكن لابد ان نلتفت الى التصريحات التي قالها كوفي عنان الامين العام للامم المتحدة في خطابه الذي ألقاه لدى افتتاح النقاش السياسي في الجمعية العامة للامم المتحدة قبل ايام، اذ رأى وجوب التعامل بحساسية مع المعتقدات والرموز المقدّسة محذرا من أن الاخطاء سواء أكانت متعمدة أو عن غير قصد يمكن أن تشعل حربا دينية عالمية. واستطرد قائلا بأن حركة الهجرة الدولية التي جمعت ملايين الاشخاص من ديانات وثقافات مختلفة للعيش معا لم تنجح في توحيدهم. وإن المعتقدات الخاطئة والصور النمطية الكامنة في فكرة صراع الحضارات أصبحت مشتركة على نطاق واسع كما أن عدم الحساسية تجاه معتقدات الآخرين أو رموزهم المقدسة- سواء عن عمد أو بدون قصد - يستغلها أشخاص يبدو أنهم يتوقون لتأجيج حرب دينية جديدة هذه المرة على مستوى عالمي .
ولم يشر عنان بشكل صريح لتصريحات بابا الفاتيكان المثيرة للجدل والمسيئة ليس للاسلام بل لمشاعر المسلمين، انها التصريحات التي أثارت احتجاجات صارخة في العالمين الاسلامي والعربي، ولم تزل تداعياتها تثير هياجا وغيضا وغضبا . وقال عنان مستطردا أيضا إن مناخ الخوف والشك يزيد حدة باستمرار بسبب العنف الذي يجتاح الشرق الاوسط حيث يحمل رموزا قوية تمس المشاعر تؤثر حتى على أولئك البعيدين عن الصراع التاريخي بين الاسرائيليين والفلسطينيين .
تدافع الثقافات بين تاريخين: انفضاح نزاع الاديان
كنت أتوقّع تماما قبل دخولنا هذا القرن الجديد ان ثمة انتهاكات ستصيب بنية المعاني والرموز والثقافات والطقوس المتنوعة التي تؤمن بها المجتمعات في العالم، وخصوصا مع
لعل العقائد والرموز الدينية تشكّل جزءا حقيقيا من الثقافات الموروثة للشعوب، فاذا كانت حتى الماضي القريب تقيم بين الجدران في الصوامع والكنائس والمساجد والمعابد .. وفي العتبات المقدسة وفي مدن تقصدها الملايين من الحجيج .. فانها اليوم باتت كل الثقافات الدينية وكل ما تحمله من مضامين وطقوس ورموز وايقونات وحركات ونظم وتقاليد معروضة في الليل والنهار .. بل وان هناك من الادباء والروائيين قدم محاولات لكسر تلك الثقافات في الصميم بدءا بسلمان رشدي في " آيات شيطانية " عن الاسلام وانتهاء بـ " دافنشي كود " عن المسيحية .. وكما قلت في التحليل النقدي الذي قدمته لرواية دان براون ان المقدس اصبح عرضة للتفكك نتيجة كل ما هو مباح معلوماتيا على العالم كله ..
نقداتي للبابا بيندكيتس السادس عشر
اما ما اثاره بابا الفاتيكان مؤخرا في محاضرته فهو مشكلة نتجت عن اشكالية اثارها ولم اجد أي لزوم لها وفي مثل هذا الوقت بالذات، واذا تصورّنا جدلا انه لم يدرك تداعيات ما ستحدثه بعض النصوص التي تضمنتها محاضرته عن الاسلام ونبي الاسلام، فأنه قد خرج عن التقاليد الحديثة التي ارساها من سبقه من باباوات الفاتيكان في القرن العشرين، وخصوصا البابا بولص السادس والبابا يوحنا بولص الثاني .. ناهيكم عن جهله بالخصال البابوية التي ينبغي عليه ان يتمتع بها في كيفية تناوله مسألة الاديان، فهو ليس باستاذ جامعي اليوم كي يلقي محاضرته في علم الاديان المقارن ليقول فيها ما يشاء .. وهو ليس بمؤرخ ماهر باستطاعته ان يحلل النصوص التاريخية ويفكك مضامينها بعد ان يحسن ويقّدر قيمة النص وقوته ومصداقيته.. ويلقي باحكامه عنها .. ان مكانته ( المقدسة ) التي جعلوه فيها لا تسمح له ابدا ان يتناول هكذا موضوع ويثير من خلاله عن قصد او عن غير قصد اشكالية معينة ستكبر وتتضخم فجأة وتتحول الى مشكلة تساهم بشكل حاد في تصادم الثقافات ! واعتقد ان قداسة البابا بيندكيت السادس عشر يدرك تماما كم هو حجم المسيحيين الشرقيين القدماء ارثودكس وكاثوليك من عرب وسريان واقباط وموارنة وكلدان وارمن.. وهم قد تعايشوا مع المسلمين لاكثر من الف واربعمائة سنة وبقيت كنائسهم واديرتهم في المدن ام في الارياف، ولا اعتقد ان الطرفين قد تصادما او دخلا في صراع او دوامة عنف.. وعليه، فان التاريخ الاجتماعي والحضاري لمنطقة الشرق الاوسط هو
تشخيص تصادم الثقافات: رؤية نقدية في الانحدار التاريخي
اعتقد ان ثمة امور كان ينبغي معرفتها سابقا، وثمة امور اخرى ينبغي معرفتها الان، وثمة امور لابد من استجلائها لاحقا .. وعليه، فيمكنني القول بعد انني رصدت الفعل وردود الفعل كي اسجّل ملاحظاتي عن هذا " الموضوع ":
1/ العمودي يتخلخل من خلال التسطيح الافقي
ان العالم الدنيوي آخذ بالانحسار والضآلة والصغر اعلاميا ومعلوماتيا بشكل مخيف وبسرعة لا يمكن تخيلها .. في حين ان عالم الاديان كلها آخذة بالاتساع والتمدد، وبقدر ما يخلق الاول له مركزيته عموديا ليجمع المجتمعات من حوله ليس بالملايين بل بالمليارات من البشر.. ( مثال: المونديال لكرة القدم ) بقدر ما نجد عالم الاديان يخلق له امتدادا افقيا ومسطحا من دون أي مركزية وهو يساهم في الازمات التي يعيشها المجتمع الدولي وتفترق الشعوب وهي تتبلور على الصراع ( مثال: الارهاب باسم الدين ).
2/ من سيقود صراع الثقافات في المستقبل المنظور؟
بقدر ما كان رجال الدين معّززين مكرمين من خلال مكانتهم واستقلاليتهم وانعدام تدخلهم في الشؤون العامة ابان القرن العشرين، نجدهم اليوم يقودون الصراع الثقافي والعقائدي بين الشعوب والمجتمعات العالمية في القرن الواحد والعشرين.. ان فقدان رجال الدين مكانتهم العليا سيؤثر على قوة العلاقة بين الناس واديانهم، اذ يعتبر رجال الدين وهم رجال التابو انفسهم حلقة الوصل بين الناس وآلهتهم.. وعليه، فان التحّول اليوم في الصراع ليس بين رجال الدين من طرف ورجل الدنيا من طرف آخر ( = مثال: فتوى القتل التي اصدرها الامام الخميني ضد الكاتب سلمان رشدي )، بل غدت بين رجل الدين من طرف ورجل الدين الاخر من طرف آخر (= مثال: مطالبة شيخ الازهر باعتذار من بابا روما ) .
3/ العنف في التاريخ .. أين؟ في الكنيسة ام الاسلام؟
يبدو واضحا اخفاق رجل الدين اليوم في اقناع العالم بما لديه، اذ لا يمكن ابدا استخدام نصوص تاريخية دنيوية وتوظيفها في معالجة قضايا دينية معاصرة ! ولا يمكن التطفّل على نص قديم ليس له أي جذر حقيقي باقناع العالم وهو يقول: ان العنف مصدره دين معين كالاسلام مثلا، ويتغافل ( وهو الرجل المقّدس ) ان تاريخ الكنيسة في اوروبا مضمخ بالدماء الزكية والحروب الدينية المفجعة ناهيكم عن الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش ! من هنا ينبغي على الانسان ان لا يجعل التاريخ مرجعية له يستجدي منه حلولا لهذا العصر، بقدر ما يسعفه العقل بايجاد اساليب حديثة وحلولا ناجحة . وهنا ينبغي ان ينفض الانسان عن تقديس التاريخ بالتحّول الى احترام التاريخ، وليس هناك من " مقدّس " الا النصوص العقدية او الشرعية .
4/ لا صلاح للانسانية مع وصاية فيتو الفتاوى!
ان الانسان على وجه الارض تزداد مشكلاته وتعقيدات حياته ومتطلبات عيشه يوما بعد آخر، بل ساعة بعد أخرى .. فهو اولى ان ينشغل بايجاد حلول ومعالجات واصلاحات تجعله انسانا عمليا منتجا يهتم بالفضائل ويحكّم العقل بدل ان يضيع في هوس ما يقوله هذا او ذاك . ان حاجاته للمعاني والرموز الدينية اساسية باعتبارها من جملة ما يؤمن به وانها تحدد طبيعة علاقاته برّبه وآخرته .. ولكن ان يجعلها مجرد شعارات بديلة عن سعيه وانتاجه ومصالحه وفضائله وتربية اولاده والحفاظ على بيته وفرص ابداعاته .. فهذا ما لا تقّره الاديان قاطبة .. والتي امرت بمكارم الاخلاق والتعاون والمحبة والسعي والرزق والانتاج بديلا عن كل الموبقات والترهل والتواكل والاخلاق السيئة والعنف والاستهلاك والايذاء وقطع الارزاق.. الخ
5/ نص غير شرعي سحق مشروعات حوار
يبدو ان العصر كلما يتقدّم نحو الامام وفي ظل المستحدثات الجديدة سيزداد فيه تصادم الثقافات وتقل فيه فرص حوار الحضارات .. فاذا كان بابا روما الجديد يجهل مثلا كيفية توظيف نصوص تاريخية معينة انتجت كل هذا الركام من ردود الفعل القوية، فهو اذن لا يدرك لغة هذا العصر، وهو لا يدرك ايضا كيف تحّولت فقرات من خطابه الى لعبة سياسية ساهمت في انقسام العالم، بل اندفعت في تكريس تصادم ثقافات، وخصوصا بين قارات العالم كلها. ان عبارات محددة اطلقها من مكانه في جامعة المانية قتلت مشروعات طويلة الاجل اشتغل عليها الناس طويلا هذا باسم حوار الاديان وذاك باسم حوار الحضارات والاخر يكّرس شعار تلاقي الثقافات .. وقد قلت اكثر من مرة بأن كل هذه المشروعات والنفقات والازمان والاجتماعات والاسفار على الطائرات واهية ستتبدد ما دامت هناك افتراقات حادة بين المجتمعات الدينية التي تستخدم آلياتها ضمن مشروعات سياسية !
6/ ما نفع الاعتذار؟ ما نفع الشتائم؟
وأسأل عالمنا العربي والاسلامي: ما نفع الاعتذار؟ ما نفع التظاهر وذبح الحناجر؟ ما نفع السباب واطلاق الشتائم؟ ما جدوى كل ذاك الغيظ وهذا الغضب؟ وسواء اعتذر البابا ام لم يعتذر .. فهل سيّقدم هذا ام يؤخرّ؟ وهل يعتقد كلّ من العالمين العربي والاسلامي ان التصادم سيتوقف عند هذا الحد؟ وأسأل ـ مثلا ـ: هل لم يزل كل من العالمين مقاطع للبضائع الدانماركية على خلفية ما جرى من رسوم الكاريكاتير التي اقامت دنيانا ولم تقعدها؟ هل يقابل الطعن بالرموز الدينية والمعاني الاسلامية بوسائل سياسية او تعبيرية؟ فاذا الوسائل المادية والانتاجية لم تصمد حتى لمدة سنة واحدة .. فكيف سيكون مصير كل الاحتجاجات وتأليب الشوارع وتأجيج العنف؟ ان العرب والمسلمين لم يدركوا حتى يومنا هذا تحولات العصر ومخاطر تكنولوجيا الاعلام والمعلومات .. لم يدركوا ان ما كان يستخدم في القرن العشرين لم يعد نافعا البتة في هذا القرن ! ولكن لتكن لنا أساليب أخرى:
7/ وجادلهم بالتي هي أحسن
ان حياتنا لا يمكن ان يسّيرها اناس لا يعرفون الا صناعة الكلام وانشاء الخطب المنبرية وتهييج المشاعر .. وعّاظ اصبح الاعلام بايديهم وهم لا يدركون كيف يعالجون تصادم الثقافات .. ولا يدركون عمق فلسفة " وجادلهم بالتي هي احسن "، اناس فرضوا انفسهم على هيئات ولجان لما اسمي بحوار الحضارات وحوار الاديان، وهم لا يعرفون اساليب المحاججة ولا علوم المنطق ولا تاريخ الاديان ولا يجيدون العمل مع ثقافات اخرى، بل ولا يبرعون في تقديم خطاب عربي اسلامي متجدد الى العالم كله . ان مشكلتنا الاساسية أصلا مع هؤلاء الذين جعلوا من انفسهم أوصياء على ثقافاتنا وعلى كتم افواهنا وعلى حرياتنا وافكارنا وابداعاتنا، فكيف يمكنهم ان يقنعوا العالم بعقلانية العرب والمسلمين، فشتّان بينهم وبين عمالقة امثال: ابن رشد وابن خلدون وابو حنيفة والفارابي والكندي والمسعودي والرازي وابن الهيثم وابن المقفع وابن باجة وابن النفيس وابن طفيل وابن سينا وابن الاثير والمعّري وابن حزم .. وغيرهم من العمالقة الذين اقنعوا العالم كله بعقلانيتهم ورؤاهم وفلسفاتهم وليس بهوسهم وشتائمهم وبرامجهم التلفزيونية !
واخيرا: ما كل ما يتمنى المرء يدركه!
اتمنى ان يهجع العالم قليلا من كل اضطراباته القيمية، وان يتخّلص من هوس التزّمت ومن زرع الاحقاد والكراهية، فادياننا تنادي بالسماحة والمحبة والمشاركة والتعايش وتحريم القتل .. لا اطالب قداسة بيندكيت السادس عشر بالاعتذار، بل اطالبه ان يقرأ التاريخ جيدا وينصف الاسلام ونبيه وان يقول كلمة سواء بحق رسالته الحضارية وروحيته التعاونية ودوره الانساني .. وان عليه ان لا يجد الاسلام يتمّثل بمجموعات ارهابية من دون النظر لمجتمعات مسالمة مستقرة ومتحضرة ساهمت في بناء البشرية .. ولابد ان ينادي الجميع بأن يتوقف هذا البلاء الزاحف بتصادم الثقافات والتزّمت بالهويات واثارة النعرات .. وعلى اصحاب كل الديانات والثقافات ان يجدوا في التوازن والحلم والمنطق والتجانس سبيلا لعالم جديد خال من الصراعات . فهل سيحدث ذلك؟ نعم، ولكن بعد فوات الاوان !