العقل... إشكالية التعريف / 2
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
موضوعة العقل 6
يشن الفلاسفة حملة شعوى على علماء الكلام على صعيد تعريفهم للعقل، يصف الفلاسفة التعريف الكلامي للعقل بأنه خطابي، وقد جسد لنا الفارابي هذه الحملة في كلمات حادة مشحونة بالغضب، فهو يقول (أما العقل الذي يردده المتكلمون على ألسنتهم، فيقولون في الشي: هذا مما يوجبه العقل،أو ينفيه العقل، أ و يقبله العقل،أو لا يقبله العقل، فإ نما يعنون به المشهور في بادي الرأي عند الجميع، فإن بادي الرأي المشترك عند الجميع أو الأكثر يسمونه العقل، وأ نت تتبين ذلك متى استقريت شيئا شيئا مما يتخاطبون به أو مما يكتبونه في كتبهم، ويستعملون فيه هذه اللظفة) ــ مقالة في تعريف العقل ص 40 ــ وقد حذا حذوه الفلاسفة الآخرون، فهذا مثلا الملا صدرا يردد نفس التهمة، أي كونهم جدليين، خطابيين، لا يعرفون العقل كقوة نظر، وطاقة تفكير، وجهاز تحليل وتركيب، وإنما ينطلقون في التعريف مما وقر في الأذهان العامة، وتحول إلى جزء من ثقافتهم الدينية والعقلية، من دون تحصيل سا بق، ولا برهان لاحق.!
فالعقل ليس هو تلك القوة القدسية التي تهيئ الإنسان لقبول المعارف، ليس هو تلك الغريزة التي منحها الله للنفس البشرية كي تفكر وتحلل وتسنتج، بل هو منظومة المعلومات المشتركة التي توارثها المسلمون في العقيدة أصلا.
وفي الحقيقة أن علم الكلام علم منحاز إذا صح التعبير، هو علم دفاعي، هناك ثوابت مسبقة يجب الحفاظ عليها حية حارة في ضمير المسلم، التوحيد ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإعجا ز القرآن وصدق التنبؤات وغيرها مما يتصل بالدين الإسلامي ككل، ولكن رغم ذلك لا يعني إنه علم خطابي كلية، خاصة بالنسبة للمعتزلة الذين طعموا فكرهم بشي واضح من الفلسفة، وليس الأن محل الإفاضة في الموضوع.
علم الكلام علم مُقاد، مُساق، هناك عقل متسلط عليه، عقل يقوده، يصممه إلى حد كبير، ويعجبني هنا أن أنقل ما قاله الإمام الغزا لي في هذه النقطة با لذات في كتابه الصغير الكبير (المنقذ من الضلال) حيث يقول (ثم أني ابتدأت بعلم الكلام فحصلته وعقلته،وطالعت كتب المحققين منهم، وصنفت فيه ما أردت أن أصنف، فصادفته علما وافيا بمقصوده، غير واف بمقصودي إنما المقصود منه حفظ عقيدة أهل السنة، وحراستها عن تشويش أ هل البدعة... ولقد قام طائفة منهم بما ندبهم الله فاحسنوا الذب عن السنة والنضال عن العقيدة ا لمتلقاة بالقبول من النبوة والتغيير في وجه ما أحدث من البدعة، ولكنهم إعتمدوا في ذلك مقدمات تسلموها من خصومهم، وأضطرهم إلى تسليمها: إما التقليد، أو إجماع الامة، أو مجرد القبول من القرآن والأخبار. وكان أكثر خوضهم في استخراج مناقضات الخصوم، ومؤاخذتهم بلوازم مسلماتهم، وهذا قليل النفع في حق من لا يسلم سوى الضروريات شيئا، فلم يكن الكلام في حقي كافيا، ولا لدائي الذي كنت أشكوه شافيا، نعم لما نشات صنعة الكلام، وكثر الخوض فيه، وطالت المدة، تشوق المتكلمون إلى محاولة ا لذب عن السنة، بالبحث عن حقائق الأمور، وخاضوا في البحث عن الجواهر والأعراض وأحكامها. ولكن لما لم يكن ذلك مقصود علمهم لم يبلغ كلا مهم فيه الغاية القصوى، فلم يحصل منه ما يمحق بالكلية ظلمات الحيرة في اختلا فات ا لخلق) ــ المصدر ص 92، 93، تحقيق جميل صليبا، طبع دار الأندلس ــ
لقد نقلت هذا النص الطويل لأقول أن العقل الكلامي مُقَاد، مساق، تبعي، مصمم من الخارج، محكوم بغاية مسبقة، ومحكوم بتراث مسبق، وحتى استعانته ببعض الأليات الفلسفية فقد كان دون المستوى المطلوب، لان غايته الأساسية قد أحكمت أنظمته الاستدلالية مسبقا. ومن الطبيعي أن علما كهذا قد لا يطرح تعريفا للعقل يتسم بالجدة والأصالة، ويتسم بالعمق والمسؤولية الفكرية ذات المنحى الإستقلالي الأصيل.
إذن لم يكن حكم الفارابي على العقل الكلامي في تعريف العقل نابعا من فراغ، بل نابع من حقائق على الأرض، حتى بالنسبة للمعتزلة، تبقى محاولاتهم دون طموح الفلاسفة، وبهذا يقول الباحث المصري المعروف عاطف العراقي (إن هذا الإتجاه كان اساسا إتجاها كلاميا جدليا، لا يرقى إلى مستوى البرهان، أن بضاعتهم التي يقدمونها لنا برغم إمتيازها ودقتها هي بضاعة الجدل، والجدل محكوم بوقته وظروفه إلى حد كبير...) ـ ثورة العقل في الفلسفة العربية ص 19 ط 5 ــ
فهذا الباحث الكبير يمني على المعتزلة الذين هم أقرب من غيرهم من الفرق الكلامية للذوق الفلسفي بأنهم جدليون، أي حسب ما قدمه له لنا الدكتور عاطف العراقي أنهم مُساقين إلى غاية محددة سلفا، تلك هي الدفاع عن ثوابت دينية إسلامية قرآنية، ولم يكن مسعاهم العمل على تأسيس فكر عقدي متأصل، لم يخضع لقررات مسبقة.
إن الفارابي في هجومه على المتكلمين في تعريفهم للعقل وضع في حسابه العقل البرهاني بالمعنى الأرسطي، وليس العقل الذي يقول به الجمهور بطبيعة الحال، ويدعي الفارابي أن ما سطره عن تعريف العقل لدى المتكلمين إنما جاء من استقراء لأقوالهم وكتبهم وفكرهم، فهو رأي مخدوم بشكل جيد، وفي هذا السياق يعيب الفارابي على هؤلاء المتكلمين بأنهم وقعوا فريسة التناقض الكبير... فهم يعرفون العقل بصيغة أرسطية برهانية، ولكنهم في خوضهم المعارك الفكرية يلجأون إلى الفكر المشترك، وبادي الرأي المشترك! الأمر الذي يكشف عن جوهر الفكر الكلامي بانه خطابي، مسبوق بقوة تقوده وتصممه، وتصيغ مسيرته. هذه القوة هي المتوارث العام من العقيدة الإسلامية بصرف النظر عن الخلافات العامة في التفاصيل، فالمحاولة الكلامية عقل محكوم بعقل سابق عليه.
وفي حلقات مقبلة ندرس تعريف الفلاسفة للعقل لنرى هل استطاعوا وضع التعريف الذي ينهي المشكلة، ويطل بنا على الحقيقة؟