نفوق الوحش ونفاق الإنسان
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
" لا صباحَ أجمل من يوم يسقط فيه القتلة " / بول إيلوار، الشاعر الفرنسي
1
مناحة في الشرق والغرب، إستنكاراً لإعدام صدّام أو حزناً عليه. لأول مرة ربما، يتفق أهلُ هذيْن العالمَيْن، المختلفيْن في كل شيء، وعلى كل شيء : مأثرة، لا بدّ وأنها ستطوّب إسم طاغية العصر هذا.. ميتاً، على الأقل! منذ إشراقة الفجر على مشهد المشنقة، وشريط الأخبار في المحطات العربية والعالمية ينقلُ لمشاهديه، هنا وهناكَ، التنديدات والإحتجاجات. أضحى لباس الحِداد، الأسود، المكتسية به مذيعاتنا الباكيات، المحمّرة عيونهنّ أسىً ولوعة ً، تقليداً جديداً لفضائياتنا : حِداد وبكاء منذورَيْن، دوماً، لإعدام هذا السّفاح أو مصرع ذاك الذبّاح! حكومات القارات الخمس، المحافظة والليبرالية والثورية.. كلها تقريباً، إهتزتْ عروش ضمائرها ، ألماً وغيظاً وحنقاً ، لخبر تنفيذ حكم الموت بالشيطان نفسه ، الذي كان في حياته، الحافلة، كما لو أنه إستنيبتْ به مهمّة ملاك الموت! المعارضون والموالون ، المثقفون كتاباً وشعراءَ وفنانين ، النبلاءُ والدهماءُ.. أكثرهم إجتمعَ على كلمةٍ سواء : إعدامُ صدّام، هوَ عملٌ غير عادل، وهمجيّ! حتى المقامات الدينية، الإسلامية ( السنية طبعاً ) والمسيحية مشرقاً ومغرباً، توحّد خطابها في تلك المسألة، الموسومة ، وهيَ المقامات ، التي ناكفتْ بعضها البعض وتناهتْ في خصوماتها إلى حدّ بات فيه الحديث عن " حربٍ صليبية جديدة " ، أمراً ممجوجاً ، إعتيادياً وطبيعياً : لننسَ إذاً الحجابَ ، رسومَ الكاريكاتور ، تصريحَ البابا.. ولنغفر أيضاً إهانة خاتمة الأنبياء، كرمى لعين " أبي عديّ " ، الكحلاء
2
في موضوع إعدام صدّام، كان أعجبَ ( كيلا أستخدم مفردة اخرى ) ما يمكن التفوّه به، هوَ تحجج بعض الحكومات العربية بما أسمته " التوقيت الخاطيء " لتنفيذ الحكم : بمعنى موافقته لصبيحة يوم عيد الأضحى، المبارك، الذي يُعدّ في آن، أحد أيام الأشهر الحرم. بهذه الحالة، نحنُ إذاً بمقابل " حاكم مسلم " لا ريبَ في إيمانه ولا برهان : كيف لا، وقد تنكبَ صدّام نسخة من المصحف، الشريف، طوال جلسات محاكمته ، نسخة بحجم كبير، كيلا تخطئها أعين الكاميرات!؟.. كيف لا، وطاغيتنا هذا كان قد أرخى للحيته العنان، مسوّقاً بها شخصيته، الورعة، بعدما أضحى موطن الرافدين جنوباً ووسطاً ومركزاً، موطناً للحى المسترسلة، سنيّة كانت أم شيعيّة أم علوجيّة!؟.. كيف لا، وجزار الجماعات هذا، كان حريصاً خلال الأشهر الحرم تلك، على ألا تنفذ أوامره بالمذابح العامة في " الدجيل " و" حلبجة " و " الأنفال " وووو.. : فكلّ ما عُرف من مآثر القائد الضرورة، طوال دزينتيْ الأعوام من حكمه الميمون، كان متطابقاً " مع حكم الشرع " ، على حدّ العبارة، المصرية، التي أضحت اليوم شائعة في دنيا العرب! فقادسية حاكمنا هذا، وأنفاله، وغزواته، وغنائمه ،.. جميعاً، كانت موشاة بآيات، بيّنة، من الكتاب الحكيم : فهل لظنّ أثيم بعدُ، أن يُشككَ بإيمان الرجل ؟
3
لنقل إذاً، والحالة كما عرضنا لها، أنّ صدّام حسين قد فعلَ في موقعه الرسميّ ـ كحاكم مطلق، ما كان يرغب بفعله حكامنا العرب، بهذه الدرجة أو تلك. فثمة حقيقة، لا تدحض، وهيَ أنّ تكفير الشيعة وتخوين الأكراد، كانا في صلب ثقافتنا ، المتوارثة والمستحدثة، على السواء. لقد عبّر يوسف القرضاوي، وهوَ من أكبر المراجع السنية العالمية، عن الحقيقة هذه، حينما إعتبر صراحة ً أنّ الشيعة هم " أرفاضٌ كفرة " ، تعبيرٌ، تكررَ مؤخراً بشكل أفدح وضوحاً وقحّة، في كلمة للشيخ عبد الرحمن البراك، أكبر مرجعية وهابية، على خلفية شنق صدّام. فلا غروَ إذاً أن يُدلس جمعُ العربان، أو معظمهم، لحارس البوابة الشرقية في حياته، وأن يُطوّبوه بطلاً شهيداً في مماته. وإذا كان بعثُ الماضي، ليسَ في وارد مقالتنا هذه، فإننا لن نهمل شأنه كلياً. فالتاريخ، القريب على كل حال، كان شاهداً على الصمت العربيّ، المطبَق، إزاء أعمال الإبادة الجماعية ( الجينوسايد )، التي أوغل فيها ذلك العفلقيّ، المقبور : فلو تمّ إستحلال الدم الشيعيّ، بإعتباره رافضياً رخصاً ـ كذا،.. فماذا عن النوعُ " الإيمانيّ " الخاص بالفصيلة الدموية للكرد ، وهم سنة أقحاح في أغلبيتهم ؟؟ لقد إنسحبَ الصمت العربيّ، الموصوف، حتى على دولة عريقة كالكويت ، شعباً وموطناً، أثناء الغزو الصدّامي، الغاشم، عام 1990. لا بل والمخزي أيضاً، أنّ تلك الدولة أضحتْ حتى بعد خلاصها من آثار الغزو الموسوم، عرضة ً للتهجمات المنهجية ـ المجزيّة الأجر، جيداً ـ من لدن الإعلام العربيّ، وبما فيه الخليجيّ ، تهجمات تضليلية، رخصة، كانت تلقي باللوم دوماً على الكويتيين عقب كل مشكلة للنظام الصداميّ مع المجتمع الدولي. لا ننكرُ هنا، أنّ الدول العربية، المعتدلة، قد نظرت بإستمرار إلى غزو الكويت كـ " خطأ " إرتكبه ذلك النظام، المتفرعن آنذاك. الحالُ، هوَ أنّ دولنا المعتدلة نفسها، كانت وقتئذٍ مستعدّة لغفران خطيئة صدّام، الكويتية، ومن ثمّ التفرغ للعمل على تأهيل نظامه المستبد : داخلياً، كيدٍ حديديةٍ، ماحقة، يُرادَ لها أن تبقي على ضغطها على الشيعة العراقيين ، وخارجياً، كقوةٍ إقليمية ما يزال لها حساب، وخصوصاً بمواجهة الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
4
في دول الغرب، المتحضرة، ما أن يشتط حيوانٌ ما، بريّ أو أليف، في غريزته، المتوحشة، ويحاول أذية من حوله من أنسيين، حتى يكون أوانُ نهايته قد حانَ ، فيعالج برصاصة، عاجلة، أو بمصل قاتل، مؤجل : دول الغرب هذه، تذرف اليوم دموعاً مدرارة على الأنسنة ، المَهتوكة، والمُنتهكة بنهاية صدّام شنقاً. غنيّ عن التذكير هنا، بالحالة الحضارية التي بلغتها أوروبة بشكل خاص، والمتيحة لقوانينها، وأخلاقيتها قبل كل شيء، رفضَ عقوبة الإعدام بحق المدانين في جرائم شخصية أو عامة، على السواء. بيْدَ أنّ الديمقراطية الغربية، بالمقابل ، تبدو الآن في الحدث الصدّامي ، كما لو أنّ عمرها أقل من عقدين من الأعوام : ففي شتاء 1989، سقط ديكتاتورٌ أقلّ عتياً من " أبي عديّ "، بما لا يقاس ، وهوَ تشاوشيسكو، الرومانيّ. لقد هلل ذلك الغرب نفسه، بحكوماته وأحزابه وإعلامه وشعوبه وكنائسه ومؤسساته ومنظماته و.. لإعدام الديكتاتور ذاكَ، بعدما أدين بالموت رمياً بالرصاص من قبل محكمة ميدانية، أسرع من الصوت، رفقة زوجته، أيضاً (!) لقد قام الأوروبيون منذئذٍ بمراجعة تلك الحقبة، الشيوعية، من تاريخ قارتهم، الحديث، وإعترفوا بمغالطاتهم هنا وهناك فيما يخصّ أرقام ضحايا الإستبداد ، كما في مثال رومانية تشاوشيسكو، والتي لم تتجاوز ضحاياها الثلاثة آلاف إنسان : يقيناً، إنّ هذا الرقم الأخير، لا يكاد يكفي لوجبة واحدة، يومية، على مائدة غداء التكريتيّ صدّام حسين ، ويقيناً، إستطراداً، أنّ زوجة هذا الأخير، علاوة على بناته، قد تناهى بهن الغنى ، القارونيّ ، إلى أبعد من نساء بارونات أوروبة ، هنّ اللاتي يضم حظوتهن قصورُ عمّان والمنامة ودبيّ و.. فيما الأموال السائلة في حسابات كل منهن تموّل حمّامات الدم، السائلة في بغداد وغيرها من مدن وقصبات العراق!
5
قلنا أنّ عالمَيْ الشرق والغرب، المختلفيْن على كل شيء، قد وحّدهما موت الديكتاتور البعثيّ على منصة الإعدام. كما ونوهنا، أيضاً، بالمسألة السببية، المرتهنة لهما وحدة الحال تلك. وإذ كانت الحجة، لدينا، في ذلك الريم الذي : " أحلّ سفكَ الدم / في الأشهر الحرم " / على حدّ قول أمير الشعراء ، فالغربيون من جهتهم إستاؤوا من عملية الإعدام، جملة وتفصيلاً، حلالاً وحراماً (!) حسنٌ، فلنرَ إذاً ما يُمكن أن يُضافرَ من عناق المشرق والمغرب في هيكل الحبّ الشهيد، هذا : لقد أشرنا فيما سلف، إلى أنّ شيمة الأعاريب عندنا متمثلة، أساساً، في تكفير الشيعة وتخوين الكرد ، عراقياً على الأقل ، شيمة، كانت على مرّ التاريخ الإسلاميّ وإلى يومنا هذا، تنحو إلى إعتبار هؤلاء وأولئك " موالي " من طبقة أدنى، لا ترتقي إلى مقام السادة، القرشيي المحتدّ والمنبت ـ كذا. نفس التصنيف، الإعتباطيّ، يتخلق به قسم كبير من الغرب الأوروبيّ سلوكاً وفكراً ، وعلى طريقته : بمعنى إعتبارنا، نحن المسلمين، بنحلنا ومللنا جميعاً، كما لو أننا ( وعذراً لهذا التشبيه ) مجرّد " هوام " ضرره أكثر من منفعته ، حشرات إذاً، لا تثريب ولا بأس في سحقها بأظافر أي دكتاتور محليّ، تكريتيّ كان أم قرداحيّ (!) فالديمقراطية، في عهدة " طبيبنا " الغربيّ هذا، إنما هيَ " وصفة "، عشوائية، ليسَ من الضرورة أن يتقبلها " الرجل المريض " ، والذي هوَ النظام العربيّ / الإسلاميّ. إذا كان الأمر كذلك، فلم العجبَ من بعض المظاهر، غير الصحيّة، المرافقة لتنفيذ الحكم شنقاً بطاغية العراق : أليسَ التعبير عن البهجة بإرساله إلى قاع الجحيم، الأبديّ، مِن حقّ مَن أجيز له حضور المشهد ، ونعني بهم شهود قضية " الدجيل "، وأكثرهم فقدَ أباً أو أماً أو شقيقاً.. أو حتى ولداً ما كان قد بلغ الحلم أمام قاضي الشيطان ذاكَ، عواد البندر ؟ أليسَ من مظاهر الحريّة، أيضاً، أن يهتف بعض أولئك الشهود بإسم هذا الزعيم الشيعيّ أو ذاك، كيما ينفسوا عن بواطنهم مرارة المعاناة، الطويلة، في ظل " يزيد العصر "، البائد، وبحضوره وعلى مسمع منه، خصوصاً وهوَ قاب خطوة من النهاية ؟ عجيبٌ إذاً أمرُ النفاق الإنسانيّ، شرقاً وغرباً، قدّام حدث تنفيذ حكم الإعدام بالوحش اللا إنسانيّ ذاكَ : لكأنما مُنحَ مثله ـ أو أقل بكثير ـ حاكمٌ ما، في تاريخ العراق الحديث أو غيره من البلدان العربية والإسلامية، بعيدَ سقوط حكمه ، من معاملة كريمة في الأسر والإعتقال والحبس والمحاكمة وتطبيق العدالة ؟ لن نتكلم هنا عما لاقاه ملوك ورؤساء موطن الرافدين، عبرَ حقبه الممتدة لنصف قرن خلا أو أكثر ، فهي مسألة معروفة، غنية عن الإشارة. ولن نحيل القاريء إلى المشاهد المرعبة، الكابوسية، لسجون ومعتقلات الطاغية العفلقيّ، المقبور ، فإنها أيضاً بمتناول الجميع في الإنترنيت وأفلام الفيديو، الموثقة. أما عن تلك الحجة، السقيمة، المساقة في كل مرة من قبل حكماء بعض إعلامنا العربيّ ، بدءاً من " عار الحفرة " وحتى " عار المشنقة "، عن أسر صدّام وحبسه وحكمه وإعدامه، والتي جرت جميعاً بمعونة الجند الأمريكيين : فلا ندري ما إذا كان ضرورياً في حينه الإعتماد على جند الأمريكان، أنفسهم، حينما كان أسلاف ديكتاتورنا هذا، من نازيي ألمانية الهتلرية، قد صار من الممكن هزيمتهم وإعتقالهم، ومن ثمّ وضعهم في قفص الإتهام في محكمة " نورمبورغ " وإدانة معظم بالموت.. ؟