خيبة الأمل بين عمر الشريف وبطرس غالي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
كان من المفترض أن أكون فخوراً وسعيداً باثنين من أبناء بلدي (مصر)، بل وأبناء جيلي أيضاً، وهما النجم عمر الشريف، والأمين العام الأسبق للأمم المتحدة بطرس بطرس غالي، فكثيراً ما ننصح نحن المهاجرون القدامى، بتأمل مسيرة المصريين الذين واتتهم الفرصة ليحرزوا نجاحاً مذهلاً، لكن الأمر في حالة عمر الشريف وبطرس غالي، لم تكن على هذا النحو، إذ أنهما بتقديري نموذجان لإهدار الفرصة، والموهبة، والفشل في تسجيل أمجاد كانا على بعد خطوات قليلة منها، إذ كان من الممكن لهذين الرجلين أن يصبحا نموذجاً مشرفاً لكُلّ المصريين (مسيحيين ومسلمين)، لَكنَّهما لم يكونا سوى مثلاً محبطاً بعد أن أهدر الأول مستقبله على موائد القمار والعربدة، وقبل الثاني دور "محامي الشيطان"، دفاعاً عن أنظمة مستبدة، فتبنى أفكارها وتجاهل مصالح أبناء جلدته، وهاهو يختتم حياته بدور مهرج السلطة.
عمر الشريف
عندما كُنتُ في العشرينات مِنَ العمرِ، كان الممثل المصري الوسيم والمحبوب عمر الشريف يتربع على عرش النجومية في العالمِ. فقد كَانَ مشهوراً في وطنه الأمِّ حيث تَزوّجَ من الفنانة الجميلة الموهوبة فاتن حمامة، وانطلق بعد ذلك إلى هوليود. وعن طريق اضطلاعه بالأدوار التي يظهر فيها باعتباره أعز أصدقاء البطل، استطاع الشريف أن يخطف قلوب الأميركيين بل والعالم كله، مما ترتب عليه حصوله على جائزة أوسكار لأفضل ممثل مساعد عن دوره في فيلم "لورانس العرب". وبالتبعية استطاع أن يوقع عدة عقود في هوليود، من ضمنها تلك التي منحته الأدوار التي قام بها في "دكتور زيفاغو" و"البنت الظريفة" وغيرها.
كان ذلك في عهد حكم عبد الناصر وزمن الحرب الباردة، وكانت مصر وأميركا آنذاك في حالة أقرب للعداء، حيث مالت مصر بشكل كبير نحو خندق الشيوعية في الاتحاد السوفيتي. وبالنظر إلى الشريف، كمصري استطاع بجداره أن يقدم هذا الدور العظيم في هوليود عن فيلم "لورانس العرب"، فإن الأمر كان بمثابة انقلاب، فما قام به كان نصرا ساحقا وأصبح بالفعل معبود الملايين في أميركا وأوروبا بسحره وجاذبيته، ولا أكون مبالغا إذا قلت أن دوره في فيلم "دكتور زيفاغو" هو تحفة فنية بكل المقاييس. لقد شاهدت هذا الفيلم ما لا يقل عن 25 مرة ودائما ما أعود لأشاهده ثانية في كل وقت أريد أن أشعر فيه بالارتياح.
كانت هوليود في ذلك الوقت تعج بنجوم كبار، نذكر منهم على سبيل المثال باربرا سترايسن وكلنت ايستوود وانتوني كوين وكيرك دوغلاس ومارلون براندون وتوني كيرتيس. ومع ذلك فقد انطلق الشريف بسرعة الصاروخ من مجرد ممثل مجهول تماماً في هذه البلاد، حتى وصل إلى مستوى تلك النخبة، ونال الشهرة التي يتمتع بها كبار الممثلين البارزين. ولم تكن مصر أكثر فخرا لترى أحد أبنائها مزدهرا وسط خيرة نجوم هوليود، خاصة في ظل الظروف السياسية القائمة في ذلك الوقت. ولكن بعد دوره في فيلم "البنت الظريفة" عام 1968 أمام باربرا سترايسن، فإن عمر الشريف تقريبا اختفى من على الشاشة. لقد استمر في عمل الأفلام ولكن الميزانية تضاءلت وقلت الأدوار وأصبحت أقل أهمية. أما في مصر فكان الجميع ينتظر بترقب انتصاره السينمائي القادم.
لكن هذا الانتظار لم ينته أبداً. فقد سَقطَ نجمُ الشريف تقريباً بنفس السرعة التي ارتفع بها، وكرس حياته للعب "البريدج" والمقامرة في الكازينوهات. وعاشَ حياة يسودها الغُمُوضِ والعربدة لسَنَواتِ طويلة. وكان دائما ما يعود للعمل كما حدث في الثمانيناتِ والتسعينياتِ فقط بسبب حاجته للمال من أجل دعم عاداتِه. كان الشريف يملك العالمُ كله تحت قدميه بما لديه من شهرةِ وثروةِ وقوَّةِ ووسامةِ - وهي أشياء قد يموت أكثر الناسِ من أجلها - ولكنه بدد كل ذلك بسهولة شديدة، حتى دون أن يُحاولُ تَوضيح أسباب ذلك أمام معجبيه على جانبي الأطلسي، هذه الخيبة كانت مدمرة ليس فقط لمصر، بل لكل العالمِ العربيِ، فقد كان سفيرا ثقافيا مثاليا لنا في أميركا في وقت كانت الحاجة لذلك ملحة، لكنه خذلنا جميعا.
بطرس بطرس غالي
المصري الثاني الذي ورد إلى ذهني باعتباره يمثل خيبة أمل حقيقية هو بطرس بطرس غالي. فهو قد نشأ وسط عائلة مصرية ذات تاريخ سياسي عريق - فعمه كان وزيرا للخارجية وجده كان رئيسا لوزراء مصر في السنوات الأولى للقرن العشرين. وبعد أن استطاع بطرس غالي أن يحرز تفوقاً كمحام، وأستاذ جامعي، وخبير مرموق في مجال العلاقات الدولية، تولى منصب وزير الدولة للشئون الخارجية المصري من عام 1977 حتى 1991. ثم عمل بشكل مبتسر كنائب رئيس الوزراء للشئون الخارجية. ومن خلال هذا المنصب، عمل كوسيط لاتفاقية السلام بين أنور السادات ومناحيم بيغن. وفي عام 1992، اختير بطرس بطرس غالي للعمل كأمين عام للأمم المتحدة.
بطرس غالي ليس فقط عربيا أو مصريا؛ بل هو أيضاً مسيحي قبطي، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يتولى فيها أحد الأقباط المسيحيين هذا المنصب المتميز في عالم السياسة في أواخر القرن العشرين، لقد كانت هناك آمالا كبيرة على ما سوف يقدمه خلال مدة خدمته في هذا المنصب القوي الرفيع وكانت مصر كلها تترقب ذلك.
لكن مدّةَ خدمة بطرس غالي كأمين عام قد شابها الخلافِ والنزاع الذي لا يزالَ موضع نقاش حتى اليوم. وشخصيته القاسية لَمْ تَكْسبْه العديد مِنْ الأصدقاءِ في الأُمم المتّحدةِ، وقد اتهم بالغطرسة والسماجة لَيسَ فقط مَع موظّفيه، لكن أيضاً مَع الصحافيين والدبلوماسيين الآخرينِ، وعلى وجه الخصوص البيت الأبيضِ. وقد أعلن بطرس غالي سريعا أِنَّهُ لن يَنحني أمام الضغطِ الأميركيِ للسَيْطَرَة على الأُمم المتّحدةَ، وهو ما أدى بالتبعية إلى اتهام البيت الأبيض له بأنه يمثل عقبة أمام الإصلاح وإنجاز أعمال الأمم المتحدة حول العالم.
ومن الأمور التقليدية للأمين العام للأمم المتحدةِ أَنْ يَقْضي فترتين متتاليتين، مدة كل منها خمس سَنَوات. وقد دعمت الكثير مِنْ البلدانِ فكرة التجديد لبطرس بطرس غالي لفترة ولاية ثانية، لكن الولايات المتّحدةَ ذكرت صراحة بأنها سوف تستخدم حق النقض (الفيتو) من أجل عدم التجديد له. وبالتالي فإن بطرس غالي، العربي والمصري والمسيحي الذي خدم في واحدة من أقوى الوظائف قد سُجل في التاريخ على أنه الأمين العام الوحيد للأمم المتحدة الذي قضى فترة ولاية واحدة.
وعلى الرغم من بزوغ العديد من الافتراضات حول مدة الخدمة القصيرة التي قضاها في الأمم المتحدة، إلا أن الحقيقة الهامة أن ذلك كان خيبة أمل شديدة لإخوانه. كان عليه أن يحاول جاهدا لكي يفهم طبيعة العمل في هذا المنصب وكيفية التعامل مع زملائه الجدد. كان من الواجب عليه أن يعمل من خلال هذا النظام لكي يحدث تغييرات فعالة ودائمة لأخوته وأخواته الأقباط في مصر ولكل الناس المضطهدين والمظلومين في جميع أرجاء العالم. ولكن على العكس فإن مدة ولايته في الأمم المتحدة قد شابها الجدل والشقاق واتسمت بالمناورات السياسية. لقد أهدر وقتا كبيرا كان من السهل عليه أن يستخدمه في مساعدة الناس. وما زاد الأمر سؤ أن العمل الذي قام به بالفعل لم يؤثر على وضع الأقباط في مصر.
لقد واصل بطرس غالي إهمال أهلِه حتى بعد أن تَرْك الأُمم المتّحدةِ واختار أن يستعمل قوته وتأثيره السياسي لمصلحةْ الأمم الناطقة بالفرنسيةِ، كأمين عام للفرانكفونية ومضى بعد ذلك ليتولى منصب رئيسَ أكاديميةِ القانون الدولي بلاهاي، وهو المنصب الذي لا يزال يتولاه حتى الآن. ربما يكون بطرس غالي هو أكثر الأقباط اللذين احتلوا ثقلا سياسيا دوليا في التاريخ. ورغم ذلك وبينما تظل عشيرته معرضه للاضطهاد، وبينما يتم جبر الفتيات على التحول عن دينهم رغما عنهم وبينما يتم إنكار الفرصة لأخوته وأخواته للتطور والتقدم اجتماعيا واقتصاديا، فإن بطرس غالي يبدو مقتنعا بالكفاح من أجل الآخرين حول العالم.
وفي العام 2004 بزغ بصيص من الأمل حينما قررت الحكومة المصرية إنشاء المجلس القومي لحقوق الإنسان وعين بطرس غالي رئيسا له. والغرض المزعوم لهذه المنظمةِ هوً أَنْ تَحْمي المواطنين مِنْ انتهاكات حقوق الإنسانِ التي ترتكبها الدولة. لكن بسرعة أصبح واضحا أن الأمر لا يعدو كونه خدعة لاسترضاء المجتمع الدولي. فبعد شهرين فقط من إنشائها تم مقاطعة المجلس القومي لحقوق الإنسان بواسطة 15 منظمة حقوقية مستقلة. فهي بالفعل تفتقر للمصداقية استنادا إلى أنها تأسست بواسطة السلطة التنفيذية وان أعضائها عينوا بواسطة السلطة التنفيذية، فضلا عن خضوعها المباشر لإشراف السلطة.
وأخيراً،
فإنه أمر مخيّب للآمالُ أن يقبل غالي رئاسةَ هذه المنظمة الحكومية الزائفة، ولكن ما كان سيثير الإعجاب حقاً، هو أن يستخدم غالي خبرته السياسية، من أجل دعم المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، وهي منظمة حقوقية مستقلة تماما عن الحكومة، فالمنظمة المصرية لحقوق الإنسان موجودة منذ منتصف الثمانينات وهي تناضل يوميا ضد الظلم والاضطهاد الواقع على الشعب المصري من قبل حكومتهم - بما في ذلك أخوته وأخواته الأقباط.
ولحسن الحظ، فإن هناك العديد مِنْ الأمثلةِ للمصريين الذين يُنجزونَ أعمال عظيمةَ في العالمِ وسوف نُواصلُ كِتابَة لمحة عنهم على هذا موقعِ. ولكن لَيسَ كُلّ مصريُ أَو قبطيُ يستحق مديحِنا وإعجابِنا. ولكن إذا بحثت عمن يستحقون فعلا الاحتقار، فلن تجد أكثر من عمر الشريف وبطرس بطرس غالي، فقد كان من السهل عليهما أن تكون لهما مساهمات عالمية متميزة نيابة عن أمتهم ولكنهم أهدروا الفرص التي سنحت لهم بكل بساطة، فدعونا نأمل بأن ينظر الأقباط وكل المصريين إلى قصصهم كعبرة وان نتعلم من أخطائهم التاريخية.
* رئيس التجمع القبطي في الولايات المتحدة
http://copticassembly.com/