4 وجهات نظر في الديكتاتور وطريقة إعدامه
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
اقرأ أيضا:
راقية القيسي: العدالة في اعدام صدام
ان الذين اعتبروا اعدام صدام هو (احقاق العدل) حسب تعبير مسؤول إسرائيلي كبير، يقيمون دعواهم كما قال المسؤول الاسرائيلي على اساس ان صدام ( عرَّض الشرق الاوسط للدم والنار عدة مرات واستخدم اسلحة كيميائية ضد شعبه ومسؤول عن موت آلاف الاشخاص ). ويكرر هذه الدعوى بشكل خاص، كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وايران والاحزاب والقوى السياسة الحاكمة حاليا في العراق.
غير ان هذه الدول والقوى السياسية التي تجد في اعمال صدام ممارسات مخالفة للقانون الدولي والضمير الانساني، لم تجد أية غضاضة في التخطيط او التعاون في غزو العراق خلافا للقانون الدولي، ولم تشعر بتأنيب الضمير بتعريض العراق والشرق الاوسط للدم والنار، وإستخدام اسلحة استراتيجية ضد شعب العراق وموت آلاف المدنيين العراقيين الابرياء حسب تقارير المنظمات الدولية.
ووفقا للقانون الدولي ولقواعد الضمير الانساني، فان ساسة هذه الدول والقوى السياسية يستحقون ايضا تقديمهم للمحاكمة بجرائم الحرب وجرائم ضد الانسانية وجرائم ابادة الجنس البشري. وان اصدار الحكم باعدامهم هو ايضا إحقاق للعدل وفقا لنواهي الاخلاق والضمير واوامرهما.
لقد جعل الساسة والحكام مسالة القانون والضمير مسالة محيرة! فهو يغيب فترة ثم يعود ويظهر فجاة. ولا يوجد وقت معروف لظهورهما او اختفائهما، حسب الظروف المتغيرة دائما. ويركز ماكيافللي دائما الى الامعان في فحص الوقت والظروف الذي يجب ان يصحى فيه الضمير. وينصح الحكام بأن يصحى عندما تتطابق العدالة مع المصلحة العليا، حيث تستطيع السلطة ان تتذرع باجراءات تتناقض مع القانون والحريات بحجة حماية المصلحة العامة وسلامة الشعب. وهذا ما جعل الولايات المتحدة لم تتخذ اجراءات حازمة لمنع نشاطات شبكة القاعدة رغم انذرارات امبراطوريتها الاستخباراتية الضخمة الا بعد هجمات سبتمبر الارهابية، وكان ضميرها نائما عندما كانت تحارب نيابة عنها الخطر الشيوعي في افغانستان!
واتخذت الولايات المتحدة نفس السلوك مع نظام صدام، فكان ضميرالولايات المتحدة نائما عندما حارب ايران ثمان سنوات نيابة عن الولايات المتحدة ودول الخليج ولم تتخذ أية اجراءت حازمة لايقاف انتهاكاته لقواعد القانون وحقوق الانسان الاعندما أرادت ادارة بوش تحشيد الراي العام لغزو العراق ! وهكذا يصبح التنوع في اوامر القانون والضمير، شيئا مفهوما حين نفهم أسبابه السياسية.
وهذا ما جعل الحملتان الأمريكيتان في اواخر عام 2001 ضد حركة طالبان وفي عام 2003 ضد نظام صدام تتعرض الى نقد وادانة دولية عاصفة، لان هاتين الحملتين لايمكن ان تنسب الى شعور بوش بالعدالة وتعذيب الظمير لتحرير افغانستان والعراق من الدكتاتورية والانظمة الظلامية، بل كان سببهما لتحقيق نصر سياسي سريع، اعطى قوة متزايدة للحركات الدينية المتطرفة الاسلامية وغير الاسلامية للعبث بالامن الاقليمي والعراقي بشكل خاص. فقد جرت منذ سقوط بغداد عملية تغير ديغرافية لمناطق العراق، وتشريد السكان، وارتكاب المجاز بحق المدنيين الابرياء، مما حفز على القتال الطائفي والرغبة في الانتقام، وخلق الحقد لدى المتضررين الذين تعرضوا للقتل والتهجير على الهوية. وأمات روح المصالحة الوطنية لدى المواطنين.
تحاول الولايات المتحدة وحلفاؤها، ان تلتمس الشرعية لسياستها بالعراق، بازالة الدكتاتورية واجراء الانتهابات وارساء الديمقراطية، وتعزو تدهور الاوضاع في العراق وعربدة مليشيات القتل المنظم وفرق الموت، لفلول صدام والقاعدة، ومع ذلك فهذه الذرائع لا تعفيها من المسؤولية القانونية والاخلاقية لحماية الامن العراقي وتوفير الخدمات الضرورية للمواطنين باعتبارها قوات احتلال. فالفوضى الامنية واهمال احتياجات المواطنيين هي نتيجة لاهمال الولايات المتحدة الواجبات المترتبة عليها وفق القانون الدولي والانساني.
وقد أدان بعض استراتيجي الولايات المتحدة أدارة بوش، بانها اضاعت التحالف الدولي، لغزوها العراق بدلا من ملاحقة القاعدة، باعتبارها المسؤولة عن هجمات سبتمبر الارهابية. ثم سمحت لمنظمة القاعدة ان تستولي على العراق، بعد ان حلت مؤسسات الجيش والشرطة وحرس الحدود، التي كانت ستصون العراق من دخول العناصر الاجنبية المخربة اليه.
هذه السياسة مشابهة لسياسة الرئيس الامريكي السابق رونالد ريكان الذي قايض تزويد ايران بالاسلحة اثناء الحرب العراقية الايرانية لقاء اطلاق سراح الرهائن المحتجزين في بيروت وهو ما عرف فيما بعد بفضيحة ايران-كونترا. ورغم ان تلك الفضيحة شكلت انذاك ضربة في مصداقية الثورة الايرانية في عدائها للولايات المتحدة، فإن آيات الله في ايران، اعتبروا تلك الصفقة نصرا معنويا للثورة، لان معناها اعتراف الولايات المتحدة باهمية ايران، ولانها مكنت الاخيرة من الحصول على الاسلحة دون تقديم تنازلات! ويبدو ان ايات الله في العراق، التمسوا نفس التبرير في تعاونهم مع الولايات لاحتلال العراق الذي باركه ايران رغم عدواتها مع واشنطن. وهذا يكشف بان معيار العدواة والصداقة تعتمد على مقدار المنفعة، وليس لها علاقة بالدين. وصفقة تعاون آيات الله مع واشنطن نفعت ايران بالسيطرة على العراق دون شن حروب مقدسة كما فعلت في الثمانينيات. واستطاعت من خلال هذه الصفقة، ان تقهر الشيطان الاكبر الذي يغطس في مستنقع العراق وافغانستان الى اذنيه من ناحية، ومن ناحية اخرة تخلصت من اعدائها صدام والقاعدة، بدون خسائر!
ولهذا السبب، اعُتبرت سياسة بوش من وجهة النظر الاستراتيجة، قد ارتكبت مخالفة لقواعد السياسة الامريكية، لانها أحتوت على تناقض كبير بين التشدد في مواجهة المد الاسلامي من ناحية والتحالف معه من ناحية ثانية !. ونتيجة لذلك امتنعت العديد من الدول من التعاون مع الولايات المتحدة او الوقوف ضد ما يسمى الحرب على الارهاب كما حدث مع غزو العراق عام 2003. وقد عبر عن هذه الفكرة الخبير الاستراتيجي زبغينو بريجنسكي في كتابه الاختيار الذي امتدح سياسة التحالف المتعدد الاطراف للقيادة الامريكية للعالم كما فعل بوش الاب في حرب العراق عام 1991. وهي نفس السياسة التي تدعو اليها الان لجنة دراسة العراق. ومن غريب المفارقة ان لجنة دراسة العراق تدعو ادارة بوش لاشراك ايران في ضمان امن العراق رغم ان الاخيرة تصارع الحضارة الامريكية Mc World اعلاميا! وهذا يؤيد وجود اهداف مشتركة تجمع بينهما : فالاثنان ضد سيادة الدولة الوطنية، والاثنان يلغمان مؤسسات الديمقراطية، والاثنان يحملان البشرى الجميلة لخلاص البشرية !
إما تضخيم الصراع بينهما،، فذلك يسمح لكلاهما بتبرير امركة الكون او اسلمته. فآيات الله واحزابه يعملون على تحقيق هدف فرض نظام الله عبر العالم، وهو نفس الهدف الذي يسعى له الامريكان لفرض النمط الامريكي على العالم. ومن الواضح الجلي بان أختيار العراق يقع ضمن هذا الهدف. بكلمة اخرى ليكون ساحة المنافسة وتصفية الحسابات بين الطرفين، لموقعه الجغرافي بالنسبة للبلدان العربية الاخرى التي لايمكن الهيمنة عليها دون الهيمنة على العراق، وتنوعه العرقي والديني والثقافي، الذي يسهل التدخل في شؤونه الداخلية، وقواه البشرية التي يمكن تجنيدها في الحروب الطائفية، وموارده الطبيعية الغنية التي تمكن الاطراف المتحاربة بشراء الاسلحة الامريكية والبريطانية، وهذا ما جعل العراق محط انظار كل الفاتحين وبناة الامبراطوريات على مر العصور. وخلاصة القول، ان فكرة الحق والعدالة لدى الولايات المتحدة وحلفائها ليست غاية بذاتها بل وسيلة لتدعيم السلطة السياسة المتمحورة حول المال والقوة والنفوذ. وبالنظر الى هذا البعد البرغماتي البحت في السياسة الامريكية، وحلفائهم (آيات الله واحزابه)، اصبح العراق بؤرة للارهاب العالمي بدلا من ان يكون بلدا امنا مطمئنا. واصبح الناس يعترفون بفضائل الدكتاتورية بدل الديمقراطية الموعودة، وبعد ان تعرفوا على تجربة دولة المليشيات. واصبح صدام رمزا وطنيا وقوميا، (ليس لانه كذلك)، ولكن لان من حاكمه واعدمه يرتكبون جرائم بحق العراق وبحق الانسانية التي تعبث بها امزجة الحكام والساسة واهوائهم!
إن (احقاق الحق) سيكون حقيقيا، ليس بمحاكمة واعدام صدام فقط، بل بجميع من جعل العراق ضحية حروب الوكالة في الخليج، وهي حروب شرسة تحَّملَ عبئها العراق وحده طيلة العقود الثلاثة المنصرمة.. فالله (يمهل ولا يهمل) (وبشر القاتل بالقتل) والا من يتوقع ان صدام سيحاكم ويعدم بيد اعدائه !!
***
عواد ناصر: الدكتاتور لا يعترف بأي طائفة
ملوك الطوائف من الحشود البدائية صنعوه واعدموه
لا يطمح مقالي هذا ليصطف في طابور الكلام الذي هدر صخّاباً بُعيد (أو بِعيد) إعدام صدام حسين. إنما أفترض به استعادة لدعوة أطلقتها، وأطلقها غيري، عبر "إيلاف" وخارجها بشأن التسامح.
بدءاً.. ثمة قطيعان مهتاجان انقسما بشأن صدام حياً وميتا: قطيع حاقد وثأري وطائفي هتف لمقتله على أساس من قسوة الدكتاتور على مرجعيات وأئمة وأتباع قضوا على يديه بقسوة.. بلا محاكمة ولا إنصاف ولا رأفة، وبالتالي لايمكن أن يبدي أهل هؤلاء وذووهم والمتعاطفون معهم وأتباع ملتهم أي مشاعر رحيمة بشأن القاتل.
قطيع ثان مناوئ اعتبر الإعدام رسالة استفزازية ضد طائفتهم، في مناخ طائفي متوتر ومسلح، يدعمه تيار واسع من العرب، دول ومؤسسات وأفراد، لكن الملفت للنظر أن الكثير من هؤلاء لم يعترض على الإعدام نفسه بل على التوقيت: أول يوم عيد الأضحى، في إشارة واضحة إلى أن العرب تغلب عليهم العاطفة الدينية على حساب الحقيقة السلوكية للدكتاتور. بمعنى لو قدم لهؤلاء الأعراب متهمان أحدهم مسلم والآخر غير مسلم لأفتوا بإدانة الثاني.
الآية:" ... ولكم في القصاص حياة...إلخ" كقرآن هي مرجع للمسلمين من جميع الطوائف. لكنها عطلت عن اشتغالها لدى القطيع الثاني وحذفت صمتا وتواطؤاً واشتغلت بحمية وحماس لدى الأول.
النص القرآني، هنا، تجسد حمالاً للوجهين وهو غير ذلك لدى المسلمين.
في بيان سياسي صدر عقب إعدام صدام حسين باسم "حزب البعث العربي الإشتراكي" وصفه (صدام) بأنه أبو الثلاثة ملايين شهيد دفاعا عن العراق ضد "الفرس المجوس" والمقصود هو الحرب العراقية الإيرانية. هذا اعتراف من الحزب وقيادته بحجم ضحايا الحرب، وهو اعتراف يصدر عن حزب واحد حاكم، في البلد، يتوفر له من الإحصاءات ما لا يتوفر لغيره من أحزاب ومؤسسات وباحثين. شخصياً، كنت أستخدم تعبير "بلد المليون قتيل" ويبدو أنني كنت واهماً. فالرقم مضاعف.
الجمع العربي القطيعي آثر الإشادة بصدام حسين قبيل إعدامه بإنه سار إلى حتفه "مرفوع الرأس رابط الجأش لم يرف له جفن". حتى أن كاتبا عربيا معروفا بعدائه لصدام قال ما معناه: ان الرجل، كان كذلك فعلاً!
الوجه الآخر لـ "رباطة الجأش ورفعة الرأس" هو أن صدام لم يكن كذلك فعلاً، بل إنه شخص بلا مشاعر. لم يكن إنساناً سوياً. إنه ربيب العنف منذ نعومة أظفاره ونشأ وترعرع في بيئة، عائلية أو مناطقية، ثم عراقية، تعتبر العنف نوع من "المرجلة". أتذكر في درس من كتاب التاريخ الذي درسناه في المدرسة المتوسطة العراقية ثمة عبارة أحفظها نصا: "بيئة تؤمن بأن كرامة الفرد لا يصونها غير سلاحه". إن صدام" رابط الجأش" هو صدام الجامد، البليد الأعصاب والمشاعر الذي "لايرف له جفن" لحظة مقتله هو صدام نفسه الذي لم "يرف له جفن" لحظة مقتل نسيبه وابن عمه وأبي أحفاده حسين كامل، بعيد عودته من عمان نادما واثقا بعفو الرئيس. هل كان حسين كامل شيعيا؟
إن رفاق صدام في الحزب والدولة الذين قضوا على يديه وبأوامر منه لم يكونوا شيعة.
الدكتاتور لم يكن سنيا ولا شيعيا. لو كان الدكتاتور يراعي طائفة أو حزبا أو دينا على حساب طائفة أو حزب أو دين لكف أن يكون دكتاتورا.
الدكتاتور ضد الجميع عندما يتعلق الأمر بكرسيه وسلطته.
عودة بسيطة إلى لائحة رفاقه ومعاونيه ووزرائه وأخلص المخلصين له، من عدنان الحمداني ورفاقه مرورا بحردان التكريتي وصولا إلى عدنان خير الله وزير دفاعه الذي أبلى بلاء حسنا خلال الحرب ضد" الفرس المجوس" وآخرين وآخرين، تدلل على أن الرجل لم يكن طائفياً، بل دكتاتورا فقط.
الإنسان السوي يمكن أن يرتعش أو يتردد أو "يرف له جفن" في حالات أقل بكثير جدا عن لحظة إعدامه. شخصيا "يرف لي جفن وأرتعش وأتردد" وأنا مقبل على قراءة شعري في أمسية شعرية، و "رف لي جفن وارتعشت وترددت" مئات المرات عندما كانت تطلب مني ابنتي أن أتخلص من عنكبوت صغير يتسلق جدار غرفة نومها، حتى اهتديت إلى حل: اشتريت ذراعا ينتهي بعلبة توضع على الجدار حيث تسكن أي حشرة ثم يتم الإطباق عليها حية لأطلقها فيما بعد في فضاء الحديقة.
المهم، هو أن هذا القطيع الحزين على صدام حسين متفاوت المستويات والمنافع (الأرباح والخسائر) إلى الدرجة التي تجعل من محاميه (القضاء الواقف) مجموعة رجال إعمال تهدف إلى المال والشهرة والنجومية، شأن بعض المطربين والدعاة الدينيين والإعلاميين في قنوات الردح و "الإتجاهات المعاكسة" ، وتحت هؤلاء في الطبقة، أولئك العرب الذين صدقوا أن صدام حسين رجل فلسطين وهو الذي قتل من قيادات فلسطينية في السبعينات أكثر مما قتل الإسرائيليون.
لكن صدام، بالمقابل، دعم مالياً فلسطينين من نوع خاص: أوكل لـ "جبهة التحرير العربية" الجناح الفلسطيني لصدام حسين وحزبه مهمة تسلم وتوزيع الأموال على فلسطينيين مشخصين من دون غيرهم.
وصدام، بعد هذا وذاك، سياسي ذكي، رغم غبائه في بعض المواضع القاتلة، فهو مدرك لما يفعله الشعار القومي والإسلامي في نفوس الكثيرين، وما إصراره على حمل القرآن وترديد الشعارات القومية العربية أمام شاشة التلفزيون سوى دليل صغير. سلوك صدام قوميا خرب أي مشروع قومي. هاتوا لنا مشروعا قوميا عربيا اقترحه صدام وعمل به وطوره وأتى أُكله.
أعود الآن إلى الجمع البدائي الآخر.. الجمع السعيد.
كان التخبط واضحا على هذا الجمع. منذ الإعداد لعملية الإعدام حتى ذيولها التالية.
لم تكن حكومة المالكي "حكومة العراق الجديد" بحاجة إلى مزيد من الاتهامات والشكوك والأعباء لتضيف اتهامات جديدة وشكوكاً وأعباء إضافية لتجري عملية الإعدام بهذه الطريقة والتوقيت: هتافات طائفية يوم عيد الأضحى.
إن ما جرى لا يستقيم، أبداً، مع دعاوى "المصالحة الوطنية" التي أطلقتها هذه الحكومة.
رغم أني لست في وارد تقديم النصائح والمقترحات لهذه الحكومة لأنها لا تمثلني ولا تشبهني من قريب او بعيد كما كنت أحلم عند سقوط الدكتاتور، عام 2003، لكني أتكلم على أمل ما، أو ما يفترض أن تقوم به حكومة وطنية بديلة.
إن البيئة الثقافية الاجتماعية السيكولوجية، مرة ثانية، التي صنعت صدام زعيما هي البيئة ذاتها التي عملت على إسقاطه مجرما عند منصة الإعدام، وهي البيئة ذاتها التي جعلته شهيدا "سار إلى المشنقة مرفوع الرأس رابط الجأش".
إن المحيطين بصدام لحظة إعدامه لم يكونوا عراقيين، لست أعني جنستهم الرسمية، إنما حساسيتهم الوطنية، سواء وعوا هذا أو لم يعوه. فالهتافون باسم مقتدى الصدر اختزلوا قرار الحكم إلى رغبة طائفية ومشاعر في غاية التخندق.
إنهم بهذه الفعلة اللاإنسانية (هتافات وشتائم) البعيدة عن سمو القادر على المقدور عليه، أضافت دية جديدة في أعناق العراقيين ضد بعضهم، وحولت العقوبة من قرار للردع وتجسيد الأمثولة المعنوية إلى أمثولة مضادة جاءت، للأسف، عكس ما تهدف له: ردع الجاني وتقليل عدد الجناة.
أميركا؟
نعم، لم تمنع إعدامه ولم تسمح به. هكذا تقول التقارير.
تقول أميركا، على لسان سفيرها خليلزاد وآخرين، إنهم حاولوا تأجيله أسبوعين أو ثلاثة، لكنهم مثل ملوك شكسبير في مسرحياته: يأمرون بالقتل على نحو كأنهم لا يعرفون به. هذه واحدة من سمات دهاة السياسيين. لكن دولة محتلة مسؤولة الأمن وقيادة العمليات العسكرية والسياسية في البلد تتحمل المسؤولية الأولى. فلو أرادت لمنعت لكنها ارادت فسمحت وسلمت الدكتاتور لملوك الطوائف المسلحين.
لا أدري كيف يتأتى لحكومة ضعيفة ومسلوبة الإرادة، وفي أفضل أحوالها مثيرة للجدل، تقدم على خطوة خطيرة كإعدام رئيس مثقل بالجرائم في وقت غير قادرة على حماية نفسها خارج المنطقة الخضراء؟
يقول تقرير لوكالة أخبار شهيرة إن جلال الطالباني قال للرئيس الإيراني أحمدي نجاد إن الأميركان كانوا على وشك تهريب صدام من سجنه!
وهل تستطيع حكومة المالكي منع أميركا من تهريبه؟
أميركا هربت وزير الكهرباء السابق أيهم السامرائي من سجنه بنجاح ساحق.
إن الحكومة في العراق، اليوم، هي حكومة إدارية محددة الوظائف أما الحكم الفعلي فأميركي بالمطلق. قرار الأمم المتحدة يقول بذلك.
يا للحكومتان اللتان لم تتح للعراقيين أن يفرحوا لا بسقوطه ولا بالحكم عليه.
أين المسيرات الكبرى عند سقوط القتلة كما شهد تاريخ العالم المعاصر؟
إن الأمم المتحضرة لم تلغ عقوبة الإعدام رأفة بالمجرمين، حسب، إنما لتخفيف وطأة القتل حتى لو كان وفق القانون. أما في الدول التي مازالت تطبق حكم الإعدام فالجريمة هي هي إن لم تزد وتيرتها، وفي بلدان القسوة العربية والآسيوية، بعامة، فإن الإعدام عقوبة سهلة ولا تحتاج إلى مراجعة للنفس قانونيا.
مثلما أن الديمقراطية ليست الحل المثالي لمشكلات مجتمعات غير ديمقراطية، تحديدا المجتمعات المنقسمة، فإن ملوك الطوائف الجدد في بغداد لا يمكن أن يقدموا حلولا ناجزة لمشكلات متفاقمة في البلد منذ تأسيسه، بلدا مستقلا في عشرينات القرن الماضي.
إن الحشد العنصري، الطائفي، الذي طوّق صدام حسين قبل وأثناء وبعيد إعدامه ليس بديلا مغايرا عن ذلك الحشد الذي صفق له كثيرا بمناسبة ومن دون مناسبة، مهما اختلف الزمان والمكان والوجوه والهتافات.
إن جمهور كرة القدم هو نفسه، من مختلف الطوائف والأقليات: يهتف صارخا عند تسجيل هدف في مرمى الخصوم وهو نفسه الذي كان يهتف لصدام "بالروح والدم" وهو نفسه الذي يهتف اليوم لزعيم "العراق الجديد" بالهتاف نفسه.
من الغريب، حقا، أن تجري عملية إعدام رئيس دولة حكم العراق وفق نظام "دولة المنظمة السرية" حسب تعبير حسن العلوي الموفق جدا، أو بتعبير أخيه المفكر هادي العلوي "دولة السرسرية" الموفق جدا أيضا وأيضا، في وقت ينبغي أن نشرع فيه، سياسيين ومثقفين وأصحاب شأن، بإبداء أقصى أشكال ووسائل التهدئة والاحتواء والتسامح، لنقدم البديل المغاير لتلك "الدولة" على أساس احترام حقوق الإنسان وتكريسها والشروع بطي صفحة الدكتاتورية على أساس من الصفح وكبر النفس وإعلاء الوطن على الطائفة وتكرارا أقول: الوطن يستوعب جميع الطوائف لكن أي طائفة، مهما كبرت، لا تستوعب حتى محافظة واحدة من محافظت الوطن.
السعار الطائفي، من اي طائفة كان، فعلاً أو رد فعل، سيودي بالجميع، لكنني غير آسف، قطعا، إذا أودى بملوك الطوائف الجدد على أن ينشأ على أنقاضهم عراق تعددي متسامح، ديمقراطي، يكون القانون فيه سيدا حقيقيا على الجميع.
التسامح، أخيرا، موقف سياسي قبل أن يكون إنسانيا، عندما يتعلق الأمر بمستقبل وطن.. مهدد.
****
أحمد عيد مراد: هل يحقُّ للعراقيِّين أن يبتهجوا!
عندما تتصارع العاطفة والعقل وتتنازعان قلم كاتب يتأرجح بين ما هو مستهجن سياسيًّا وبين ما هو واجب خلقيًّا، تغدو الكتابة عملاً شاقًّا ترهق الفكر وتثبِّط الهمَّة، ولا سيَّما في موضوع لا وسط فيه، تمامًا كمذهب الرئيس بوش: "أنت معنا، وإلاَّ أنت إرهابي". وإذا كان لا بدَّ من خيارٍ، فليكن الخلقي مع ما يستتبع ذلك من مغبَّةِ جَلَبَةِ سياسيَّة تشمئزُّ منها النفس، وإن كانت لا تضير.
لقد شُنق صدَّام، فليطمئن العراقيُّون إلى مستقبل مشرق سعيد!
ما أن هممت بالكتابة عن موت صدَّام، حتَّى انتابني قلق كاد يثنيني عن عزمي للمضيِّ فيها، فتريَّثت بعض وقتٍ لأرزن تبعاته، وأبتعد عن العاطفة التي لمستها في كلِّ من استمعت لرأيه في "فاجعة عيد الأضحى"، سائلاً أو مُكرهًا. من الطبيعي أن يلمَّ أحدنا بأفكار معارفه والأصدقاء ولا سيَّما مَن يهتموُّن بالأمور السياسيَّة ليرى أين موقعه هو من حادثة ما، فما بالك إذا كانت نهاية صدَّام الذي شغل الناس أثناء حياته، حتَّى وهو في السجن، وسيشغلهم لوقت طويل آتٍ وهو في دار الفناء! ولأنَّني كنت من منتقدي صدَّام وهو في أوج جنونه ويعتقد أنَّه قدر الله على العراق، وربَّما على "الأمَّة" العربيَّة، وكتبت عدَّة مقالات منتقدًا ومُدينًا حكم صدَّام وسياسته ولا سيَّما تجاه الأكراد العراقيِّين مما أكسبني عداوة سفير صدَّام في أوتاوا، وحقد بعض الأصدقاء الذين كانوا يخالفونني الرأي، وما يزالون، فقد أكَّد هؤلاء الأصدقاء والمعارف أنَّ موقفي من إعدام صدَّام بات معروفًا سلفًا، قياسًا بما عهدوه من كتاباتي نثرًا وشعرًا. الأمر المضحك أنَّ "رسول صدَّام" لأوتاوا كما كان يصف نفسه حينما كان في خدمة الطاغية صدَّام، هو الآن من أركان "النظام الطائفي" العراقي الذين يريدون الانتقام من صدَّام تغطية على جرائمهم، ويريدوننا أن نصدِّق أنَّ لهم من الأخلاق والشجاعة ما يبرِّر مواقفهم الآن! وكم من "رسول" لصدَّام كان وهو الآن ممسك بهراوته ليسحق بها صدَّامه!
سأخيِّب ظنَّكم أيَّها الأصدقاء. فليس من شيمي ولا من شيم الكرام أن أجلد الميِّت، أو أن أشارك في الرقص على جثَّته. هذا من فعل الجبناء. نعم، كنت ضدَّه عندما غزا الكويت، وعندما زرع الموت والدمار في العراق، وعندما أذاق الأكراد العراقيِّين كأس الموت بالغازات السامَّة، وكنت ضدَّه لمَّا غدر بأقرب الناس منه، كنت ضدَّه عندما استعان بالكثيرين ممن هم الآن رموز عهد ما بعد صدَّام. والآن! سأبتعد عن العاطفة وأفكِّر بصوت مسموع، فلا بأس أن تسمعوا.
أيُّها العراقيُّون الذين تفتخرون بما صنعتم، ولا سيَّما بشنق الرجل في يوم عيدنا الأضحى. لم تراعوا حرمة ديننا، ولا خلقًا عربيًّا أو إسلاميَّا أو إنسانيًّا. أنتم الذين رقصتم على جثَّته، لطالما خرجتم بآلافكم المؤلَّفة ترقصون في شوارع بغداد ومدن العراق احتفالاً بيوم مولد "زعيمكم الأوحد". كنتم تمروُّن أمام صوره وتماثيله في الساحات وتملأ صدوركم النشوة اعتزازًا برئيسكم المفدَّى. أنتم الذين قادكم كالقطيع لحرب ظالمة أكثر من مرَّة، وغزا بكم الكويت "الشقيق"، ولم ينبث أحدكم ببنت شفة، وأنتم، وأنتم، والحديث يطول ويطول. إن نسيتم الماضي، فلا الماضي ولا التاريخ ينسى ما فعل بكم، وأنتم راضون صامتون. أيحقُّ لكم أن تفتخروا بما صنعتم عندما كان الطاغية رمز عراقكم ورئيسكم الذي انتخبتموه بأغلبيَّة ساحقة سحقت فيكم أصواتكم وكتمت أنفاسكم! وإذا ما اسثنيت من تفكيري المسموع الأكرادَ الذين كانت لهم كلمة حقٍّ ووقفة عزِّ في وجه الطاغية، لقلت إنَّكم رضيتم به مختارين، وكما تكونون يولَّى عليكم.
لن نختلف على ما كان صدَّام، فسجلُّ طغيانه طويل، ولكن دعني أواجهكم بالحقيقة التي منها تهربون، ولسوف تبقى في سجلِّكم الأسود حتَّى قيام الساعة:
لن أماثل بين أفعاله وأفعالكم حتَّى لا يترحَّم الناس على صدَّام وعهده. فأنتم كسارق قبور الأموات الذي لعنه الأحياء على ما فعل حيًّا وميتًا، حتَّى جاء ابنه، فسرق قبر أبيه، وصار الناس يلعنون الابن ويترحَّمون على الوالد. ولكن ذكر بعض الشواهد لا يضير:
بداية أنتم لم تتخلَّصوا من صدَّام. ولولا أن قيَّد الله لكم الرئيس بوش حينما كان "يكلِّمه في النوم" وخلَّصكم من رئيسكم، لكنتم اليوم ما تزالون تمجِّدون اسمه وتسبِّحون بحمده. ولكان القضاة الذين أصدروا حكم الإعدام عليه يصدرون الحكم ذاته على معارضيه. أنتم لم تعتقلوا صدَّام وهو في حفرته، وتسلَّموه لعدالتكم التي كانت غائبة عندما كان في قصره. فعل ذلك جنود الاحتلال الذين حرَّروكم من صدَّام. لقد كانوا أرحم منكم بنفوسكم، فتركوكم تفترسونها.
ما تزال صوركم في الفضائيَّات وأنتم تحرقون المتاحف وتنهبون منها الآثار وتحطِّمونها، وتبيعون بعضها، متاحف تاريخكم وإرثكم. صوركم وأنتم تعتدون على وزارات بلدكم وتحرقونها بعد أن هرب منها وزراؤها وكبار مسؤوليها ما تزال ماثلة في الأذهان، ولن يمحوها "تقلُّبكم في السجود". حرقتم المكتبات والتراث، ولو سالت دماء كلِّ مَن قتلتم في نهري دجلة والفرات لصار ماؤهما أحمر قانيًا. لم تكونوا بحاجة إلى "هولاكو" جديد، فهولاكو قد تقمَّص كلَّ شخص منكم!
ألستم أنتم أوَّل مَن اعتدى على الكنائس، وحرق بعضها أو هدمها! ألم تشرِّدوا بعد عهد الطاغية أكثر من مليون عراقي مسيحي ليصبحوا لاجئين خارج وطنهم! ألستم أنتم الذين تعتدون على مساجد الله سواء كان المتعبِّد فيها سُنِّيًا أو شيعيًّا! ألستم أنتم الذين ساروا بطوابير كالقطيع تحيُّون صدَّام وتعاهدونه على تحرير القدس من الصهيوني المحتل، لتعيدوها وفلسطين إلى أهلها الأشقَّاء الفلسطينيِّين! فما بالكم الآن تضيقون ذرعًا بأربعين ألفًا منهم وجدوا الأمن في ربوعكم في عهد صدَّام ريثما يعودون لأوطانهم، فتطردونهم من مساكنهم شرَّ طردة وتلقون بهم على الحدود! ولِمَ لا! وأبناء جلدتكم المسيحيِّين يلاقون المصير نفسه في عهد ما بعد صدَّام! وماذا عن أكثر من خمسة ملايين عراقيٍّ لاجئين في معظم أصقاع المعمورة!
وماذا عن القتل الجماعي والتطهير المذهبي؟ نعم سأصارحكم بما تقترفون من جرائم، لا لتلعنوا نفوسكم، وتؤنِّبوا ضمائركم التي رقدت في ذواتكم في سبات هانئ، ولكن لعلَّها تصحو عندما تزيل غشاوة الحقد الطائفي عن أبصاركم، وتعلمون ولات ساعة مَعْلمِ أنَّ ما اقترفت أيديكم ستلاقونه في مستقبل لن يكون فيه مصير المالكي والحكيم والسيستاني وغيرهم من أرباب المذهبيَّة الذين لا علاقة للدين بهم بصلة بأفضل من مصير الطاغية صدَّام ومَن ما يزالون ينتظرون أعواد مشانقكم.
ألستم أنتم مَن ابتكر سحل جثث الحكَّام بعد نبش قبورهم منذ زمن العبَّاسيِّين! ولا تنسوا نوري السعيد وعبد الإله رحمهما الله. رحمة كنَّا نستكثرها عليهما أحياء حتَّى فعلتم بهما وبغيرهما ما لم يفعله أحد سواكم، فإذا بنا نترحَّم عليهم بعد أن أظهرتم جبروتكم على سوأتيهما في شوارع بغداد. فلا غرو أن بات من لعن صدَّام في حياته يترحَّم عليه في مماته! ففعل مجرم بمجرم لا يعفيه من لعنة الله والبشر والتاريخ. لعنة ارتضيتموها فحقَّت عليكم.
لقد شُنق صدَّام، فاطمئنُّوا أيُّها العراقيُّون. شنقتموه يوم عيد الأضحى والحجيج ما يزالون في بطاح مكَّة، ولا داع لكم لتضحُّوا، فقد فدَّاكم بوش "بذبحٍ عظيم".
يعود إلى ذاكرتي بعض ما كتبتُ في "استفتاء إيلاف" بمناسبة السنة الثانية لزوال حكم صدَّام:
"أخشى ما يُمكن أن يُخشى أن يتَّخذ عراق المستقبل أنموذجه من لبنان الواقع، أي أن يكون وطنًا جغرافيًّا مُحدَّد المعالم ومستقلاًّ، ولكنَّه منقسم المذاهب والانتماءات.
لقد أعانت قوًى أجنبيَّة شعب العراق على امتلاكه حرِّيَّته، ولكن عليه وحده دون الاعتماد على عونٍ خارجيٍّ مهما كانت صفاته أو مآربه، رسم مستقبل العراق وتحديد هويَّته ونظامه السياسي الذي يعطي كلَّ مواطن حقوقه كاملة قبل أن يطلب منه واجباته لهذا الوطن".
فها نحن بعد أكثر من سنة من ذلك الاستفتاء، وقد تحقَّق ما كنت أخشاه، فإذا بالعراق أكثر من عراق يعيث فيه دمار شامل إلاَّ إقليم كردستان، وتولغ الطائفيَّة والمذهبيَّة في دماء أبنائه. وها أنتم ترسمون معالم وطنكم كما يريد لكم علماء الطائفيَّة وأرباب الحوزات، فتضيفون "مأثرة "أخرى تفتحرون بها! وطن على رحابته يضيق بأهله، وعلى تعدِّد طوائفه تقرِّرون حقوقهم وحياتهم بناء على انتماءاتهم، وتحدِّدون هويَّته الديمقراطيَّة بقانون الغاب.
صورأخرى كثيرة تقتحم الذاكرة، ولا مناص من وضع بعضها أمامكم. ها أنتم ترقصون طربًا بينما أنشوطة المشنقة تلتفُّ حول عنق صنمكم الذي صنعتم، وكالجاهليَّة عندما جعتم أكلتموه. لم أرَّ قطُّ جلاَّدًا يخاف من ضحيِّته مثلما رأيتكم وأنتم تخفون وجهوهكم خوفًا أو خزيًا! وأنتم تهتفون بحياة حكيمكم وصدركم وسيستانيكم، وليس بحياة عراقكم! ألم يرقص أجدادكم طربًا ويهتفوا عندما قتلوا الحسين سبط الرسول، وراحوا عليه يبكون!
وها هي فضائيَّة "العالم" تنقل لنا صورة المالكي وهو يصادق على قرار الشنق ويحاذر أن يرفع نظره إلى آلة التصوير كيما نرى الجبن والخسَّة في عينيه في صبيحة عيد الأضحى المبارك، وتنتقل الفضائيَّة مباشرة إلى صورة طفلٍ عراقيٍّ يعتمر قبَّعة عليها شعار نيويورك ويرفع شارة النصر. في هاتين الصورتين تلخَّص ليس مصير صدَّام فحسب، بل مصير العراق، ولو إلى حين، حقد طائفي وإرادة محتلٍّ أمريكي.
ما أروع تلك الصورة التي ستبقى في الذاكرة مهما حاول المحتلُّ طمسها. صورة دونالد رامسفيلد، مبعوث شركات تصنيع المواد الكيماويَّة الأمريكيَّة آنذاك، ووزير حرب إدارة الرئيس بوش، وهو ينحني أمام قامة قائدكم ورئيسكم المنتصب في قصره في بغداد قبل توقيعه عقد توريد مواد "صنعت في أمريكا" ليجرِّبها في حلبجة!
ختامًا أيُّها العراقيُّون الذين تفتخرون بما صنعتم، لستُ من الذين يجلدون الأموات ولا يسلخونهم بعد الذبح. نعم لقد تنبَّأت بنهاية مظلمة لـ "هولاكوكم"، ولكن ليس على أيدي مجرمين تساووا معه في جرمهم إن لم يتفوَّقوا عليه. ففي مساء الأحد الواحد والثلاثين من شهر آب/ أغسطس 1997، أقام "تجمُّع المثقِّفين العراقيِّين في أوتاوا" حفل تأبين للشاعر المرحوم محمَّد مهدي الجواهري، ألقيت قصيدة، قلت فيها:
إنَّ الطُّغَاةَ عَلَى جَمَاجِـمْ عَرْشِـهِمْ لا بُدَّ يَلْقَـوا مَا أَمَــرَّ وَأَصْعَبَـا
يَوْمًا يَحِينُ الحَتْـفُ فِـي جَنَبَاتِـهِ فَتَسُدُّ أَرْضُكِ عَنْ هُولاَكُـو المَهْرَبَا
مَهْمَا اسْـتَبَدَّ حَفِيـدُهُ فِي إثْمِــهِ شَدَّ الوَثَاقِ عَلَى الرِّقَابِ وَعَذَّبَــا
سَيَذُوقَ مَا لاقَـى الطُّغَاةُ جَمِيعُهُـمْ شَاءَ المُحَكَّمُ فِـي زِمَامِـكِ أَمْ أَبَى
توقَّعت في "القصيدة" أن تثوروا أيُّها العراقيُّون على صدَّام وحكمه وتنزلوا بهم العقاب الذي يستحقُّون فلم تفعلوا. ولولا أن ناب عنكم المحتلُّ لما فعلتم ولن تفعلوا. فعلام أنتم تفاخرون!
****
د. إسماعيل نوري الربيعي: حكومة أم قبيلة؟!!! جاءت حكومة المالكي إلى سدة الوزارة بوصفها منتخبة، وكان برنامجها السياسي قد تركز حول معالجة الوضع الأمني المتردي الذي يعاني منه الشعب والبلاد والعباد، فكان مشروع المصالحة الوطنية الذي هللت له مختلف الأطراف، فيما انزوى البعض وشكك فيه آخرون.وبدءا من ميثاق مكة وصولا إلى الحادث الدراماتيكي ،والذي تمثل في الإسراع والتعجيل بإعدام الرئيس المخلوع صدام ، يكون المشروع قد وئد وهو في مهده. هذا بحساب السقوط في الفخ الذي تم نصبه للسياسيين العراقيين، والذي تمثل في عملية تهريب أيهم السامرائي، من المنطقة الخضراء بطريقة لا تثير سوى الضحك والبكاء ، حيث الانفلات الغريب والذي لم يعرف له تاريخ العراق حتى في زمن حكومة القرة قوينلو! أو جيش محمد العاقول! وتم بلع الطعم بطريقة تثير الشفقة والرثاء.حتى أن الحكومة الموقرة لم تتردد من الإشارة إلى هرب أيهم الوزير العتيد، في معرض تبريرها للإسراع غير المبرر والتوقيت البائس في إعدام صدام ، بل والترتيبات التي أعدت وعلى عجل، إلى الحد الذي تم فيه استدعاء مجموعة من المنفلتين الذين لم يراعوا حرمة الموت، إن كان بالتهليل أو بالشماتة والصخب، أم بالمسؤولين الذين صوروا الحادث من دون التفكير بالعواقب. ويالهم من مسؤولين!
من دون زعل!!!!
من قال لكم بأن صدام لم يكن دكتاتورا ومستبدا، ولكن هل يكون برنامج الحكومة الديمقراطية المنتخبة ، هو القيام بأخذ الثأر. أين المستشارون وأين أصحاب العقل والتدبير والحكمة ، أين الكادر السياسي ، وماذا أعد جهاز المخابرات العراقي لمواجهة تداعيات الإعدام، هل تم الاكتفاء باستثمار مناسبة العيد بوصفها عطلة طويلة، ليصار من خلالها السيطرة على ردات الفعل المحتملة في الشارع العراقي، أم أن الخبراء وضعوا خطة لا يعلم بها إلا الله والراسخون في العلم.هذا إذا ما تذكرنا كيف استطاع جهاز المخابرات العراقي السابق، اللعب بالشارع إن كان على صعيد مسرحية أبو طبر ، أو استجلاب عدنان القيسي، أو حتى طرح كتاب محاولات اغتيال الرئيس ، وتصوير أي محاولة وكأنها نوع من المستحيلات. وإلهاء الناس وإشغالهم بالقضايا الفرعية، لا سيما في مجال خلق الأزمات ، بدءا من فقدان البصل أم أزمة الطمامة والتايرات ،وصولا بغياب حليب الأطفال عن السوق المحلية! فيما وقعتم أنتم في المزيد من الخروقات والأخطاء، إن كان في اختيار أول يوم عيد الأضحى، الذي استفز مشاعر عموم المسلمين، حتى استعديتم عليكم أهل الهند والسند وبلاد الواق واق، أم في حادثة الموبايل،والتي راحت تبز حادثة منصة السادات الشهيرة، أم في خيبة الأمل وفشل الرهان على تردد صدام أمام منصة الإعدام.
وين نروح بيهم؟!
هذه مدن عراقية تخرج في مظاهرات لاهبة ،وتلك مجالس العزاء التي نصبت في المدن والقرى والنواحي، فهل ستضربون صفحا عن مشاعرها،. عراقيون غاضبون ، ترى ماذا لهم أنتم فاعلون؟ هل تتهمونهم بالصدامية والقتلة والإرهابيين، أم أن معالجة حكيمة تفكرون بها. لقد تم التنكيل بالعراقيين في الجنوب أيام انتفاضة عام 1991، فهل جئتم لتنكلوا بأهل الوسط من العراقيين، وكأنه السجال، واحدة بواحدة والبادئ أظلم! وهنيالك يافاعل الخير!! ترى ماذا سنفعل بتكريت والرمادي وسامراء والدور والموصل وبيجي والشرقاط، هل نقتطعها من خارطة العراق، لأنها خرجت مؤيدة لصدام؟ وما دام للرجل كل هذا التأييد فأين هي حساباتكم، وهل ستظلون ترمون بأعباء أخطاءكم على قناة الجزيرة وماتبعها من الفضائيات العربية. حسنا شفيتم غليلكم من صدام، وقد سبق السيف العذل، فهل ستبقى دائرة القتل قائمة؟وإلى متى؟وهل ستستمر المحاكمات،؟ وهل سيتم تنفيذ حكم الإعدام بالبندر و برزان؟ لتعود الكرّة من جديد غضب وحنق وتنديد وكراهية! وهل من مبادرة إنسانية لمواجهة الشر الزاحف ونزف الأحقاد.
كيف يمكن لكم أن تديروا الأزمة ، وأين هو الجهاز الاستشاري، والذي ظهر أفراد طاقمه في أشد حالات الجذل والفرح على الفضائيات العربية، حيث الابتسامات العريضة والشهقات والتصريحات التي كانت تقدم بمجانية ملفتة، وكأنهم يمدون بألسنتهم على الجمهور العربي، حتى تحولت تلك اللقاءات إلى إدانات متلفزة بحق الأداء الحكومي. ولماذا هذا التوتر والرد الغاضب الذي يبدر عن المسؤولين العراقيين حين يتم سؤالهم من قبل المحاورين.هل هي روح القبيلة التي تلبستكم، أم هي الحكومة والدستور والقانون ووقار الحكم.
عتبت على سلم ولما تركته وجربت أقواما بكيت على سلم
فوالله لا نبك صدام، إذ لم يكن سوى حاكم مستبد، ولكن لو حوكم بجريمة تخريب العراق واستنزاف موارده وثرواته، وتشريد مثقفيه ومبدعيه، لكنتم أكثر توفيقا، كفانا داحس والغبراء، كفانا أحقادا وضغائن واستلال خناجر، و كافي عاد تره صرنة مضحكة للعالم!!!!!!!!!! ورحم الله عزيز علي حين أشار إلى مختار ذاك الصوب، والعاقل يفتهم.