متى ينضج حكام العراق الجدد؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
كأس السم
منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921، لم يحظ سياسي عراقي، سواء كان حاكما أو متمردا ضد الحكم، بمحاكمة قانونية نظامية، مثلما حظي بها الرئيس العراقي الراحل صدام حسين. وما من حقبة انتهك فيها القانون العراقي، مثلما انتهك على أيدي البعثيين العراقيين، وخصوصا في حقبة حكم صدام حسين.
البعثيون هم الذين أعدموا رئيس الوزراء العراقي الأسبق عبد الكريم قاسم، في شهر رمضان عام 1963، وكان الرجل صائما. وشنقوه على كرسي في غرفة الموسيقيين في دار الإذاعة العراقية، بدون أي محاكمة مهما كان نوعها. وبعد أن أصبح قاسم جثة، عرضوه على شاشة التلفزيون، ثم قام واحد منهم فبصق على وجه قاسم وهو جثة.
ولو أتيح لقاسم أن يتحدث مثلما تحدث صدام، لقال للبعثيين الذين شنقوه وبصقوا على وجهه وهو ميت : هاي هي المرجلة ؟
وعلى بعد خطوات من المكان الذي اعدم فيه قاسم، كان البعثيون العراقيون أنفسهم "يحاكمون" زعيم الحزب الشيوعي العراقي سلام عادل في قصر النهاية. وينقل الشهود الذين كانوا حاضرين في تلك اللحظة بأنهم شاهدوا سلام عادل في ليلة 26 أو 27 شباط 1963 " وقد شوه جسده ولم يعد من السهل التعرف عليه، فقد فقئت عيناه وكانت الدماء تنزف منهما ومن أذنيه ويتدلى اللحم من يديه المقطوعتين ورش الملح والفلفل فوق جسده المدمى لزيادة آلامه". وكان الجلادون يطالبون سلام عادل، وهو بهذا الحال، أن يعطيهم ما يملك من معلومات، وعندما يرفض يبدأون بشتمه والبصق عليه.
ولو أتيح لسلام عادل أن يتحدث مثلما تحدث صدام حسين لقال للبعثيين الذين أشرفوا على تعذيبه وقتله: هاي هي المرجلة ؟
وعندما عاد البعثيون الى السلطة عام 1968 فأنهم نكلوا شر تنكيل بأفراد الطبقة التي كانت تحكم في العهدين العارفيين، وجلهم من الناصرين والقوميين العرب، وبعضهم من الإسلاميين. وكانت عمليات الاعتقال والتعذيب تتم بإيعاز وأشراف مباشرين من صدام حسين نفسه، وبطرق خسيسة تخلو من أي ذرة من المروءة والشهامة. وينقل الوزير السابق عبد الكريم فرحان الذي كان واحدا من ضحاياهم، ما جرى له في معتقل قصر النهاية ما يلي: " دخلت غرفة، علق في سقفها بكرة يتدلى منها سلك في إحدى نهايته كلاب. ربطوا يدي بحبل من القنب، ثم وصلوا الكلاب بالحبل الملتف حول معصمي وسحبوا السلك من طرفه الآخر، فارتفعت عن الأرض وانهالوا علي ضربا في غاية الشدة على رأسي، ثم فقدت الوعي، وفجأة سمعت صوتا يقول انهض. كنت ملقى على الأرض. لم أستطع الوقوف. تكرر طلب النهوض واستطعت النهوض بصعوبة. رأيت شخصا طويلا واقفا لم أتبين ملامحه بالضبط، أرجح انه صدام حسين".
ولو أتيح لبعد الكريم فرحان ( كان معه من زملاءه الذين شملهم التعذيب، كل من: طاهر يحيى التكريتي وعبد العزيز العقيلي وعبد الرحمن البزاز ونافع أحمد وشامل السامرائي وشاكر محمود شكري وعبد الكريم هانيء وآخرون) أن يتحدث مثلما تحدث صدام حسين، لقال لصدام حسين الواقف على رأسه: هاي هي المرجلة ؟
وصدام حسين، شخصيا، هو الذي أولم وليمة في القصر الجمهوري للسيد نايف عبد الرزاق، شريك البعثيين في انقلاب 1968 ، ولم يمر سوى أسبوعين على الانقلاب، وعندما كان النايف يتناول غداءه عاجله صدام من الخلف، شاهرا مسدسه، ثم قاده مخفورا إلى المطار وسفره، وبعد ذلك تعقبه وقتله اغتيالا. ولو أتيح لعبد الرزاق النايف أن يتحدث مثلما تحدث صدام، لقال لصدام: هاي هي المرجلة ؟
وصدام هو الذي أمر باغتيال شريكه الأخر في الانقلاب حردان التكريتي في الكويت، وصدام هو الذي أغتال السيد مهدي الحكيم في الخرطوم، وصدام هو الذي اغتال وزير خارجية العراق بعد انقلاب تموز 1968 ، ناصر الحاني، ورمى جثته على نهر القناة ببغداد، وصدام هو الذي اغتال القائد الشيوعي محمد الخضري، ورمى جثته على قارعة الطريق. وصدام هو الذي دس متفجرات في عمائم رجال دين وأرسلهم إلى الزعيم الكردي مصطفى البرزاني، لتنفجر إثناء اجتماع ضمهم مع البرزاني.
وهولاء كلهم سيقولون لصدام، لو أتيحت لهم فرص الكلام مثلما أتيحت لصدام: تغتالنا غدرا وباسم الدين، ها هي المرجلة ؟
وعندما أصبح صدام حسين رئيسا للجمهورية، خلفا لأحمد حسن البكر، فانه دشن وصوله إلى الرئاسة بمجزرة جماعية ضد رفاقه في الحزب وفي السلطة، أشبه بتلك المجزرة التي نفذها علي باشا اللاز عام 1831 بحق المماليك. ويقال أن صدام أشرف بنفسه على قطع لسان رفيقه محمد عائش، وزير الصناعة آنذاك، لأنه ظل يحاججه حتى آخر لحظة قبل موته.
ولو أتيح لعائش ورفاقه أن يتحدثوا مثلما تحدث صدام حسين، لقالوا لصدام حسين: هاي هي المرجلة ؟
وعندما لجأ حسين كامل، صهر الرئيس السابق صدام، إلى الأردن، بعد أن تمرد ضده، فأنه عاد ثانية إلى بغداد بعد أن سامحه صدام، ووعده بأنه لن يمسسه بأي أذى. ولكن بعد ساعات على صوله إلى بغداد، جيش صدام ضده جيشا عرمرعا من أفراد العشيرة، فحاصروه في بيته وقتلوه مع أفراد عائلته شر قتلة.
ولو أتيح لحسين كامل أن يتحدث مثلما تحدث صدام، لقال لصدام: تعفو عني وتستدرجنى، ثم تقتلني، هاي هي المرجلة ؟
وعندما كان يتخلف أي جندي عن الخدمة العسكرية، فان صدام حسين كان يأمر ببتر أذنه. ومن تخور قواه وتضعف معنوياته من العسكريين فيتراجع أو يتقهقر إثناء الحرب، كان صدام يأمر بإعدامهم، ثم يضع الواحد منهم داخل تابوت كتبت عليه كلمة "جبان"، ويمنع عائلة المقتول أن تقيم عزاء له، ويطالبها بثمن الطلقة التي قتل بها أبنهم. ولو أتيح لأي أم ثكلى أن تتحدث، آنذاك، لقالت لصدام: هاي هي المرجلة ؟ ذكرنا هذه الأمثلة، وهي نزر يسير من أمثلة لا تعد ولا تحصى، حتى نقول إن صدام حسين شرب من نفس كأس السم الذي كان يسقيه لخصومه، لا أكثر ولا أقل.
لقد طفح الكيل
لكن، هل ما رافق عملية تنفيذ حكم الإعدام بصدام حسين، من ترديد أدعية، وهتافات، وتمجيد ثأري لزعامات دينية عراقية محددة، هو أمر صائب ؟ بالتأكيد، لا.
لقد كشفت تفاصيل عملية إعدام صدام، أمورا خطيرة. وأول هذه الأمور هو، أن الذين يحكمون العراق منذ التاسع من نيسان عام 2004، وخصوصا الإتلاف الشيعي الحاكم، ما يزالون يعيشون في دور المراهقة السياسية، ويتصرفون كمجموعة من الصبيان، أو من هواة العمل السياسي، وليس كرجال دولة مضى على تجربتهم في الحكم نحو أربع سنوات. لقد خضع صدام حسين ومساعدوه إلى محاكمة توفرت فيها عناصر كثيرة من الشفافية، والأداء القضائي السليم. وكانت المحاكمة سابقة لم يعرفها تاريخ العراق الحديث. وأتيح لصدام وجميع المتهمين معه توكيل محامين، وسمح له ولأركان حكمه أن يقولوا ما يحلو لهم، وحتى أن يشتموا القضاة. واستمرت المحاكمة فترة لا بأس بها، أدلى خلالها الكثير من الشهود بإفاداتهم. وتم، في أحيان كثيرة، تأجيل الجلسات تحقيقا لطلبات هيئة الدفاع عن المتهمين، ليتاح لهم استكمال بعض الإجراءات القضائية. باختصار، كانت محاكمة صدام فعل من أفعال دولة تحترم نفسها، وتحرص على تطبيق القوانين. ولكن يبدو، وللأسف، أن تلك الوقائع القانونية كانت تحدث بفضل تدخل أو أشراف الأميركيين، وليس تطبيقا "عراقيا" جديدا للقانون. والدليل هو، ما أن تم تسليم المتهم صدام حسين إلى أيدي عراقية، حدث ما أفسد، تماما، "أصولية" جلسات المحاكمة، والجهود الكبيرة التي كانت تبذل من اجل أن تتم المحاكمة بطريقة قانونية أصولية.
ثانيا، كشفت تفاصيل عملية تنفيذ الإعدام عن أن الذين يحكمون العراق إنما يحكمونه كعشائر سياسية متنافسة، كل منها تريد الغلبة لنفسها، وكل منها تريد لصوتها أن يعلو فوق جميع الأصوات الأخرى. فالأصوات التي ارتفعت خلال تنفيذ حكم الإعدام، كانت تمجد شهيد عراقي واحد هو، باقر محمد الصدر، وتمجد قائد سياسي واحد هو، السيد مقتدى الصدر، وجهة سياسية واحدة هي، التيار الصدري. وهنا، لا بد أن يتساءل قادة المجلس الأعلى وزعيمه السيد عبد العزيز الحكيم: لماذا لم يتم، أيضا، تمجيد السيد مهدي الحكيم ؟ أو أليس، هو أيضا، استشهد على يد صدام حسين ؟ وماذا عن بقية عائلة الحكيم الذين نكل بهم صدام ؟ إلا يستحقون، هم أيضا، أن يذكرهم هولاء الذين حضروا عملية تنفيذ الإعدام ؟ ألم تكن تلك الهتافات بمثابة ترجيح لكفة شيعية واحدة على حساب قوى شيعية أخرى ؟ ألا تنم تلك الهتافات عن صراع شرس يتم، في العلن مرة وفي السر مرات، بين كتل شيعية متنافسة، على حساب المصالح العليا للعراقيين ؟
ثالثا، كشفت عملية تنفيذ إعدام صدام حسين عن وجود نزعة مذهبية ثأرية، انتقامية، ورؤية سياسية تعسفية تريد إعادة كتابة تاريخ العراق على هواها. فقد حوكم الرئيس العراقي السابق صدام حسين بالإعدام، وتم تنفيذ الحكم، على خلفية قضية واحدة هي، محاولة اغتياله من قبل حزب سياسي ديني هو، حزب الدعوة. وبدون شك، فأن ما من أحد ينفي شجاعة القائمين على تنفيذ عملية الاغتيال، ولا ينفي بربرية ما فعله صدام بأبرياء عزل، هم سكان الدجيل.
ولكن، ماذا عن الضحايا العراقيين الآخرين ؟ ماذا عن الضحايا الذين ذكرنا قسما منهم في بداية المقال ؟ ماذا عن الحروب العبثية التي شنها صدام حسين ؟ ماذا عن الاقتصاد المخرب ؟ ماذا عن الشباب العراقي الذين قضوا بحروب لم يعرفوا لماذا حدثت، وكيف ولماذا انتهت ؟ من سيطالب بحقوق هولاء جميعا، ومن سينصفهم ؟ إن اختصار تاريخ المواجهات السياسية التي حدثت طوال حقبة حكم البعث وصدام حسين، بشخصية عراقية واحدة، مهما علا شأنها، ومهما ارتفعت مكانتها، ونعني هنا الشهيد محمد باقر الصدر الذي ردد أسمه الحاضرون، لهو اختصار خطير لتاريخ العمل السياسي العراقي، وإلغاء للتنوع العراقي، ونفيا لوجود القوى السياسية الأخرى وتضحياتها.
ولكي نكون صريحين جدا، فعلينا أن نقول أن محاكمة صدام على خلفية قضية واحدة، وبعد ذلك ترديد أدعية وصلوات مذهبية وتمجيد لزعماء دينيين محددين في لحظة تنفيذ الحكم، بدت، شئنا أو أبينا، كعملية مذهبية شيعية ثأرية وانتقامية. وهذا أمر لا يخدم العراقيين، بل هو لا يخدم "مظلومية" الشيعة، مثلما يحلو للبعض أن يصفوا الأمور.
إن المطلوب الآن هو، ليس مواصلة التحقيق الحكومي لمعرفة من صور عملية تنفيذ الإعدام، أو من ردد الهتافات. فهذه الأمور ما كانت لتحدث لولا وجود خلل خطير، ليس في بنية وأداء الدولة العراقية الجديدة ورجالها، فحسب وإنما، وهذا هو الأمر الخطير حقا، وجود خلل في رؤية ورؤيا من يشرف ويدير شؤون هذه الدولة.
لقد آن الأوان أن يعيد الإتلاف الشيعي، باعتباره جهة حاكمة تحتل الأكثرية في الحكومة والبرلمان وجهة سياسية فاعلة، النظر في سياسته، سواء فيما يخص طبيعة العلاقة التي تربط بين مكوناته السبع، أو علاقاته مع الكتل السياسية الأخرى.
لقد مرت نحو أربع سنوات على التغيير الذي أطاح بالنظام السابق، وهي فترة ليست قصيرة أبدا. ولو قسنا الأمور على ضوء ما تحقق في نفس الفترة خلال جميع أنظمة الحكم السابقة التي عرفها العراق، لوجدنا أن أمور كثيرة تم انجازها، سواء في بداية الحكم الملكي أو بداية العهد الجمهوري أو بعد وصول البعثيين إلى السلطة عام 1968 . إما خلال السنوات الأربع الماضيات، فأن العراقيين لم يجنوا غير إراقة الدماء والفساد المالي والإداري، والمشاحنات، ثم الاقتتال الطائفي. ولم يعد مقبولا أن يتعكز المسؤولون العراقيون على عصا الإرهاب وحده. فجميع مناطق العراق الجنوبية والوسطى تكاد أن تخلو تماما من أي نشاط إرهابي، مع ذلك فأنها ليست أفضل حال من العاصمة ومناطق العراق "الساخنة"، اللهم ما خلا منطقة كردستان.
لقد طفح الكيل وضاقت الصدور. وليس أمام الإتلاف الشيعي الحاكم سوى خيارين: إما أن ينتحر وينحر الآخرين معه، أو يأخذ بيد العراق والعراقيين، كل العراقيين بدون تمييز وإقصاء وروح كيدية ثأرية، إلى بر الأمان.
نعم، لقد طفح الكيل.