كتَّاب إيلاف

الموبايل وعولمة الفضيحة وفلسفة الندالة!

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

* الموبايل بطل 2006 بدأ بتصوير مظاهرات القضاة وإنتهى بتسجيل إعدام صدام وفضح التعذيب فى سجون الداخلية وصدمنا بحفلة التحرش الجنسى فى وسط البلد.
* مع الموبايل إختفى شعار إكفى ع الخبر ماجور وتحول إلى إكشف الجريمة بمحمول.
* الموبايل إقتحم الخصوصية وعطل التواصل وسمح للندالة بالإنتصار.
* بضغطة زر على كاميرا المحمول تحول الطاغية صدام إلى شهيد وضحية، وزرعت الفتنة الطائفية وإرتفعت نغمة التشفى والإنتقام.
* حتى القتل والإعدام أصبح من خلال الموبايل وجبة شهية نتداولها على مائدة الإنترنت.

الموبايل هو بطل 2006!، هذا الجهاز الجوال النقال الخلوى الذى رفض أن يمر عام 2006 إلا بعد أن يجذب الأنظار إليه بتسجيل كليب متفرد دراكولى مقزز لإعدام صدام حسين، وحقق بذلك مانستطيع تسميته بعولمة الفضيحة، فمع الجوال لاتوجد أسرار، حتى حرمة الجسد ومنظر الشنق الذى نريد أن ينتهى من العالم روجه الموبايل فى سوق العولمة، قلب الموبايل الأمور رأساً على عقب وحول الطاغية الديكتاتور صدام إلى الشهيد الضحية صدام بضغطة زر على كاميرا رديئة التقنية، هذا المشهد الزرقاوى الذى ساوى بين السلطة العراقية وبين شظايا القاعدة زرع فتنة طائفية وأعلى من قيم التشفى والإنتقام التى لن تقيم دولة صحية صحيحة بأى حال، سجل المحمول داخل غرفة الإعدام السرية هتافات مقتدى الصدر ولعنات صدام ونطقه للشهادتين، فأضفى الكليب البشع نهاية ميلودرامية على حياة حاكم كان القتل عنده مثل صباح الخير، والإعدام والإغتيال أسهل عنده من الهرش!، فتحول على يد الهاتف النقال إلى ملاك أسطورى تظهر صورته على وجه القمر بعد ثلاثة أيام من إعدامه.

إذا كان الحذاء هو الذى تصدر مشهد ضرب القاضى فى 2006 فإن الموبايل كان هو السبب الرئيسى فى هذا الضرب الحذائى لأن القاضى تجرأ وحاول تصوير المظاهرة بالموبايل، وبعدها قاد المحمول ثورة تحت عنوان كليبات التعذيب فى أقسام الشرطة وسجون الداخلية، بداية من إنتهاك جسد الصحفية وإنتهاء بإنتهاك مؤخرة سائق الميكروباص مروراً بصفعات الضابط البنج بونجية على وجه أحد الغلابة، تحول إكفى ع الخبر ماجور إلى إكشف الجريمة بمحمول، فقد صورت فتنة محرم بك بالموبايل، ورصدت مظاهرات القضاة بالموبايل، وهوجة السعار الجنسى فى وسط البلد خلدها الجوال المحتال، وحتى الأفلام قبل نزولها فيديو أو دى فى دى كانت تصور بالموبايل من داخل صالات السينما!، إنها عولمة الفضيحة وفن التجريس وإختفاء مفاهيم عفا عليها الزمن مثل الكتمان والسرية، فكل شئ مفتوح ومعلن وعلى عينك ياتاجر، وحتى القتل والإعدام أصبح وجبة شهية نتداولها على مائدة الإنترنت.

كما عولم الموبايل الفضيحة، علمنا الموبايل أصول السربعة، ولقننا أيضاً دروس فن "الندالة " و"الطناش" و"اللوع"!، فالموبايل ليس مجرد تكنولوجيا متقدمة فقط ولكنه أيضاً سلوك إجتماعى يستجيب ويتفاعل مع الواقع ويسحب منه ويضيف إليه، وإذا كان إختراع التليفون العادى قد زاد من قيمة التواصل إلا أنه قد جعله تواصلاً يفتقد إلى الحميمية، وسنحكى الحكاية منذ البداية.

قبل إختراع التليفون كان السؤال عن الصديق يتطلب جهداً بدنياً فينتقل الإنسان من بيته إلى بيت الاخر حين تستبد به الوحشة، وكان هذا الجهد يستلزم مقداراً مساوياً من المجاملة والإحتفاء، فيأخذ الحضن مساحة أكبر، وتشد الأيدى على بعضها بحرارة أكثر، ولايخلو الأمر طبعاً من مشروبات وربما وجبة غذاء أو عشاء، وكانت عبارة " يتبادلان أطراف الحديث " عبارة حقيقية من لحم ودم وليست عبارة إنشائية، فالأصدقاء كانوا يتكلمون بدون النظر إلى حساب الفاتورة، فالكلام لم يكن قد تحول بعد إلى أرقام على الكمبيوتر من رسوم دمغة ومباشر وترنك ودولى 00الخ، فقد كان الحديث "مرحرح " ويبدأ بالجملة الخالدة وآدى قعدة، وكانت الثرثرة النسائية بالذات نوعاً من الهروب من فراغ الوحدة والبحث عن أمان وشريك ومزيد من الفهم والتفاهم، إلى أن هبط إختراع التليفون بالبراشوت علينا، حقيقة أنه قصر المسافة وخدمنا فى حالات الطوارئ وأنجز أشياء كثيرة، ولكنه ككل إختراع وتكنولوجيا لابد لها من بعض الأعراض الجانبية المزمنة، وكانت أولى الأعراض الجانبية للتليفون هو تزييف التواصل وإختزاله عبر أسلاك الهاتف إلى نبضات كهربية تفتقد الدفء الإنسانى، فإستبدل الإنسان التواصل الجسدى إلى التواصل الصوتى، وأصبحت الأذن مقياس وترمومتر درجة حرارة الحميمية، فعندما يتحدث شخص ويبدأ بالكلمة السحرية "آلو" يبدأ من هو على الطرف الآخر فى محاولة التلصص والتمسح والتلكيك فى موجات الصوت لإستنباط حالة المتحدث الأستاذ المتلفن، فيقول "مال صوتك فيه حاجة "، وتحولت هذه العبارة إلى أكليشيه نستخدمه أحياناً فى النفاق ودائماً فى محاولة فتح حوار فاقد لشروط الحوار من أساسه، ومن فرط التكرار يقع المتحدث إليه فى فخ الوسوسة ويتخيل أنه مريض فعلاً لأن صوته متغير.

أن تفقد حاسة البصر فى مكالمات التليفون يعنى أنك تتعامل مع المجهول، فمن الممكن أن تتكلم مع شخص على الطرف الآخر فيمدحك ويبدى تعاطفاً ولكن مايحدث بجانب السماعة شئ آخر فهو يبدى إمتعاضه منك والتأفف بتقطيب جبينه وزم شفتيه، وأنت تواصل وتسترسل متخيلاً أن بكاء الطرف الثانى على الهاتف هو بكاء المتعاطف وهو فى الحقيقة بكاء الزهقان ودموع القرفان!، وأعتقد أن إختراع التليفون بالشاشة التى ترى بها من يهاتفك هو تكنولوجيا متقدمة ليست لمزيد من الرفاهية والدلع ولكنه لمزيد من قدرة التواصل والحميمية والإحساس بالأمان من أن الطرف الآخر يبالى بك وبهمومك، وبرغم أن إختراع التليفون زاد من حساسية الناس للصوت الذى نسميه نحن المصريين بالحس، إلا أنه على الطرف الآخر صار الكذب والتلاعب بالصوت حرفة لها فنانوها وصناعها العباقرة، وصار الميزان الحساس لقياس المشاعر والأحاسيس عبر الصوت "ميزان خربان" سوقه الوحيد وكالة البلح وورش الخردة وسوق البالة والسكندهاند!!.

ومع كل تلك الأعراض الجانبية للتليفون إلا أنه ظل أفضل من الإضافات التى لحقت به بعد ذلك، فعلى الأقل كان من يطلب على التليفون متأكداً من أن الطرف الآخر سيرد لوكان موجوداً، وأقصى صور التهرب من المكالمات أن يرد الإبن فى البيت أو ترد السكرتيرة فى المكتب بأن الأب أو البيه المدير مش موجود، أما بعد إختراع الأنسرماشين فإن إحساس التجاهل صار طاغياً ووسائل الإفلات ومبررات التهرب متاحة بشكل أكثر من ذى قبل، ومع هذا الأنسرماشين صار إحساس التجاهل متضخماً هو الآخر، فأنت حين تطلب ويرد عليك الأنسرماشين يركبك هاجس من الممكن أن يكون مخطئاً وهو أن صاحب البيت أو المكتب جالس بجوار التليفون يخرج لسانه لحضرتك مطنشاً ذاتك المصونة مماتعتبره إقلالاً من شأنك وإهداراً لكرامتك، ودائماً تأتى الإجابة "أنا ماكنتش جنب التليفون " أو "جهاز الأنسر بايظ" إلى آخر هذه الإجابات الجاهزة التى لن تصلح الشرخ الذى حدث فى العلاقة، وذلك لأن التوجس موجود موجود، والريبة تغلف علاقاتنا الشائكة أصلاً، إنها بإختصار كارثة أن تستطيع توفير سبل التهرب دون أن توفر وسائل التأكد والتيقن.

وأخيراً جاء المحمول بكوارثه الإجتماعية الكبرى، وإن كنا قد إختلفنا فى آثاره الصحية إلا أننا لن نختلف على آثاره السلوكية، فأخطر مايدمر علاقات التواصل فى المحمول أنك عندما تطلب فأنت متأكد من أن الطرف الثانى حتماً سيعرف أنك الطالب، وإن لم يكن قد سجل إسمك على الموبايل فهذه إهانة أو على الأقل أنت لست فى دائرة أصدقائه "الأنتيم " بلغة العصر، ولوحدث أن رن التليفون وحدث التجاهل أو الطناش فإن حزنك سيكون كبيراً لأنك على يقين من أن رقمك قد ظهر، ومن هنا تحدث المشاكل والمشاجرات، فالحبيب عندما لايرد فهو حتماً سيخلع من العلاقة، والزوج عندما يفعلها فهو فى لحظة خيانة، والمرؤوس فى نوبة زوغان، والمدير فى إجتماع بلمبة حمراء 000الخ، ومن الممكن ألايرد الإنسان لأن الموبايل وهذا عيب آخر يأتى بك من قفاك فى أى مكان وبالتالى من الممكن أن تكون غير مهئ نفسياً للحديث أو إقامة حوار من أى نوع، من الممكن أن يرن موبايلك وأنت فى ذروة خناقة زوجية محتدمة أو فى صوان عزاء أو فى فرح صاخب أو محشوراً فى ميكروباص أو مزنوقاً فى بيت الراحة...الخ، وهذا الإقتحام العاصف للخصوصية يجعل من الموبايل جاسوساً كريهاً يدس أنفه فيفسد هذه الخصوصية أو الحنين للوحدة والجلوس مع النفس، وردك فى هذه الظروف بشكل رذل أو على الأقل ببرود لايتوقعه الطرف الآخر يحدث خلل فى التواصل لايغفره إقتراب عابر أو إعتذار شكلى، وهذه مأساة أخرى تحدث من الموبايل.

ولابد للمجتمع المصرى أن يعترف أن الموبايل هنا وعلى عكس العالم كله عطل طاقاتنا وهبط بسرعة الإنجاز بشكل رهيب!، وسأشرح ذلك حتى تزول الدهشة فلأننا دولة بيروقراطية تنتظر الأمر الفوقى من المدير أو الوزير أو رئيس المصلحة فنحن نؤجل قرارتنا حتى ولو كانت مصيرية حتى يأتى الأمر، وهذا السلوك أصابنا بفيروس التهرب من المسئولية التى كنا نعافر ونجاهد لنتخلص منها حتى جاء الموبايل فرسخ هذا السلوك المتهرب من المسئولية فى وجداننا، فأنت لن تستطيع العثور على مسئول فهو على الدوام قافل الموبايل أو تارك عليه رسالة أو عامل اللعبة والموضة الجديدة أن يعطيك الموبايل خارج نطاق الخدمة وهو يسجل رقمك بالفعل، وكل هذه الألاعيب التكنولوجية ساعدت المسئولين على التهرب من المسئولية ساعة الجد وتركها تغرق بحجة قفل الموبايل، وهكذا تضيع القرارات المصيرية نتيجة أن المسئول نفسه لم يتعود إتخاذها بحسم ولكنه زمان كان ب"يتزنق " نتيجة إنه لازم يكون فى شغله جنب مكتبه والكل مطلع عليه ولم يكن قد إخترع بعد العبارة الخالدة "أنا فى مشوار وبيننا موبايلات"!!.

تحول هذا الموبايل من جهاز إتصال إلى أداة تفاخر وتمايز، فمن لايستطيع عمله أن يرقيه درجة فى السلم الإجتماعى يستطيع محموله أن يرقيه درجات، فبمجرد وضعه على المائدة أو رفعه فى وجه محدثه يعرف الطرف الآخر من ثمن الموبايل وعدد أنغامه وصغر حجمه ولونه المميز وإمكانية تخزينه، يعرف أن صاحب الموبايل ذو حيثية، فالعمل ليس له قيمة ولاالثقافة لها وزن، فالمهم قيمة ووزن الموبايل ليس إلا فهو رمز هذا الزمن.

المسألة الخطيرة الأخرى هى أن الموبايل إختزل مشاعرنا وجعلها مشاعر تلغرافية، فنحن نتواصل عن طريق ال "MISSED CALL" أو الرسالة عبر الموبايل وحتى هذه الرسالة لم نعد نكتبها ولكنها أصبحت جاهزة، فهذه المشاعر المعلبة الجاهزة إفتقدت الدفء والحميمية والإسترسال والوضوح، فنحن نرسل الرسالة عبر الأثير ولاننتظر حتى الرد ولايوحشنا أن نسمع صوت صديقنا على الطرف الاخر، فقد تحولت مشاعرنا إلى مجرد أداء واجب وإثبات موقف، ممايزيد حدة العزلة ويرفع نسبة أنيميا التواصل التى تتفوق على أنيميا الحديد وفيتامين "ب"، والسؤال هو لماذا لانسعى إلى إتساع رقعة التواصل وتعميقها بدلاً من البحث عن نغمات جديدة أو لوجو مميز؟، لماذا لانحلم بعودة تعبيرات الوجه ورنة الصوت ورعشة الأصابع كسفير للمشاعر والحب بيننا ثانية بدلاً من الحديث فى هذه "الحديدة" الباردة التى تسحب من رصيد التواصل حتى درجة الإفلاس

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف