كتَّاب إيلاف

أزمة القيادة للتيار القومي في العراق الجديد

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

أساء البعض فهمَ محاكمة الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، ومن ثم إعدامه، على جرائمه التي إرتكبها في الثمانينيات بحق مواطني مدينة الدجيل التي تسكنها أغلبية شيعية. وقد إعترف صدام في سياق المحكمة العلنية أنه وأعوانه قد قتلوا في الدجيل 148 مواطناً، بضمنهم عشرات الأطفال والنساء، وشرّدوا الآلاف، وجرفوا بساتينهم وهدموا بيوتهم، لا بل حتى غيّروا إسم المدينة الجريحة من الدجيل إلى الفارس. لقد عُدّت تلك المحاكمة دون الإلتفات إلى الأذى الذي ألحقه الطاغية بأهالي مدن عراقية أخرى ذات مكونات أثنية مختلفة، كالرمادي والموصل وتكريت نوعاً صريحاً من التمييز الطائفي. فهل يجوز أن تُحسب هذه الواقعة السياسية مثلباً بحق حكومة الوحدة الوطنية، التي تشارك فيها جميع المكونات العراقية؟ الواقع أن النظام العراقي المهزوم ألحق على مدى أكثر من ثلاثة عقود الضرر بجميع مكونات الشعب العراقي عرباً وأكراداً، إسلاميين وعلمانيين، سنة وشيعة، على حد سواء، ولم يقتصر القمع والإضطهاد البعثي بزعامة صدام حسين على مواطني الدجيل وحدهم، فعلى سبيل المثال لا الحصر، أخمدت أجهزة صدام القمعية تظاهرة سلمية شارك فيها مواطنون في مدينة الرمادي في التسعينيات، وقتلت العشرات من المتظاهرين. كذلك في تكريت لم يسلم الناس من شر النظام الذي إغتال العشرات منهم، بضمنهم أقرب الناس إلى صدام وهو وزير دفاعه عدنان خير الله. وفي الموصل وبغداد وغيرها من المدن العراقية، قام صدام بتصفية العشرات من القادة السياسيين من ذوي الإتجاهات القومية ومن البعثيين، إضافة إلى قمع المئات من العلمانيين والأكراد وغيرهم. هل هي إذن أنانية من الحكومة العراقية الحالية أن إكتفت بمحاكمة صدام ومعاقبته، على جريمته التي إقترفها ضد مكوّن عراقي واحد أم ماذا؟

هناك عوامل عديدة أدت لخلق تلك الإشكالية، سنكتفي بالإشارة إلى إثنين منها فقط: الأول هو أن لا أحد من التيارات القومية (السنية) أعلن بصراحة تامة ووضوح، بعد تحرير العراق من قبضة الدكتاتورية الصدامية، عن رغبته في محاسبة الطاغية وأعوانه لقاء ما إقترفوه من جرائم ضد الإنسانية، بضمنها جرائم بحق المواطنين من المحافظات السنية. على العكس من ذلك كان الزعماء القوميون يدعون في كل مناسبة أن الذين قتلهم صدام لا يتجاوز عددهم المئات، وكانوا من "الإيرانيين" في الجنوب، و"العصاة" في الشمال، وقد ثبت تعاون جميع هؤلاء مع الجيش الإيراني. ومن الغريب أن مواطني مدينة الرمادي بدلاً من خروجهم إلى الشوارع مطالبين بدم الشهيد محمد مظلوم، وعشرات الضحايا الذين إغتالهم صدام، إضافة إلى آلاف القتلى من محافظة الأنبار الذين إبتلعتهم طاحونة الحربين العبثيتين اللتين شنهما صدام على الجارتين إيران والكويت، بدلاً من ذلك فاجأ أهل الرمادي العراقيين بخروجهم إلى الشوارع رافعين صور صدام، مطالبين بعودته إلى السلطة. كذلك الأمر في تكريت والحويجة والفلوجة والموصل والأعظمية والعامرية والسيدية وغيرها من معاقل القوميين، لم يُظهر الناس أي تظلم ضد الطاغية المهزوم، بل طالبوا على العكس من ذلك بعودته إلى منصبه! على عكس هؤلاء، وجدنا القوى السياسية التي تمثل المكونات العراقية الأخرى، تصر على رغبتها الثابتة، في تشكيل محكمة جزائية تحاسب أزلام النظام المنهار، على ما إرتكبوه بحق الشعب العراقي وباقي الشعوب المجاورة، من جرائم بحق الإنسانية.

وقد رفع كل من لحق به الأذى تحت ظل الحكم الصدامي صوته الإحتجاجي، مطالباً بمحاسبة المجرمين. ولم يشذ عن هذه القاعدة المنطقية للأسف، سوى الحركات والتيارات القومية التي تضم حصراً مواطنين سنة. أما العامل الثاني لتلك الواقعة، وهو الأهم برأينا فهو أن المكون القومي (السني)، كان وما يزال يفتقر إلى القيادات الكفؤة ذات الكاريزما، القادرة على مواجهة الرأي العام العراقي، والتعبير عن مصالح المكون السني في المحافل السياسية الوطنية وفي وسائل الإعلام المحلية. نراها تهرب على الدوام صوب الخارج، متوجهة في خطابها صوب الشعوب والمنظمات الإقليمية، دون أن يهمها بالدرجة الأولى شعبها العراقي الذي تعيش فيه. ترى ما هي جذور ظاهرة أزمة القيادة للتيار القومي العراقي؟

إذا عدنا بالتأريخ إلى ما بعد إنقشاع غمة الإحتلال التركي البغيض عن صدر العراق، لرصدنا شكلاً مميزاً من الخارطة التنظيمية السياسية للمجتمع العراقي. ورغم إنعدام الإحصائيات المضبوطة عن التوزيع الأثني والطائفي للتنظيمات الحزبية في العراق، خلال الفترة بين الحربين العالميتين، وذلك لإنعدام الشفافية لدى سلوك السلطات العراقية المتعاقبة، يمكن القول إفتراضاً أن الغالبية العظمى من نشطاء المحافظات الغربية، إنتموا بعد التحرر من ربقة الأتراك، إلى الفكر القومي العربي، وكان من أبرز القادة القوميين في تلك الفترة ساطع الحصري ونوري السعيد وياسين الهاشمي ورشيد عالي الكيلاني وغيرهم. في المقابل توزع معظم نشطاء الوسط والجنوب على الحزب الوطني الديمقراطي والحزب الشيوعي وحركة أنصار السلام وغيرها من الأحزاب العلمانية الوطنية والديمقراطية واليسارية. من هنا جاءت التهمة "الشينية" الشهيرة في العراق، القائلة بأن "كل شيعي شيوعي"، التي كان بعض المواطنين السذج يلصقونها تجاوزاً بأخوانهم في الوطن الواحد. ولم ينخرط نشطاء من المكون (الشيني) عموماً في الأحزاب القومية ومنها حزب البعث، إلا بصفة "مصفق" لأغراض إنتهازية أو إقتصادية نفعية.

وقد يعترض أحدهم فيقول أن حزب البعث كان يعج بهؤلاء أيام صدام! هذا صحيح، لكنهم كلهم كانوا مصفقين لا أكثر ولا أقل. لقد نزّل صدام في الثمانينيات فرماناً على أعضاء حزب البعث أسماه "دين خميني"، مدعياً فيه أن الشيعة طائفة كفرت بالله، وأنكرت النبوة على محمد، وتعبد علياً إلخ من هذه الأباطيل. فلو كان هناك فعلاً بعثيون شيعة، كيف يمكن لقائد حزب أن يُغضب رفاقه؟ من جانب آخر، أين هم البعثيون اليوم في مناطق الوسط والجنوب، ولماذا لم يحصل مرشحو حزب البعث على صوت إنتخابي واحد في الجنوب، بينما هيمنوا بنسبة 100% في المحافظات السنية، ونعني الأنبار والموصل وتكريت؟ في الحقيقة كان هناك آلاف من الشيعة الذين سجلوا أسماءهم في حزب البعث جرياً على مبدأ "التقية" الشيعي لأسباب أمنية أو إقتصادية، لكنهم "تبخروا" لحسن الحظ في صبيحة التاسع من نيسان عام 2003! بالإضافة إلى ذلك، لا تشهد الساحة السياسية للجنوب اليوم أي نشاط سياسي للبعثيين، بينما تعج به المناطق الغربية! أما الأكراد فقد توجهت غالبيتهم في تلك الحقبة من تأريخ العراق، صوب الأحزاب القومية الكردية. ولكي ننصف التأريخ، كان هناك على الدوام "متبقيات متمردة" من تلك المكونات، تبادلت المواقع الفكرية بعضها مع البعض الآخر، وهي لا تتجاوز بأحسن الأحوال نسبة 10% من المكونات. فنجد عدداً من نشطاء الجنوب والوسط، مثلاً، يلجأون إلى الفكر القومي، ومثلهم من نشطاء المناطق الغربية، الذين يتوجهون بإنتمائهم صوب الأحزاب العلمانية الوطنية. وهكذا نجد في واقع الحال أن العوامل الجغرافية والأثنية والطائفية، قد لعبت دوراً أساسياً في تحديد الوجهة التي قصدها الناشط السياسي الشاب.

فتجاوزاً للتحليل الماركسي الإجتماعي المعروف، القائل بأن المجتمع ينقسم إلى ثلاث طبقات، تحددها الظروف الإقتصادية والمعيشية للناس، رأينا إنتماء المواطنين إلى الأحزاب وقد جرى بموجب التوزيع الأثني والجغرافي، ولم يعتمد على التوزيع الطبقي الماركسي التقليدي! وهكذا ظلت ظاهرة الإستقطاب الأثني للإنتماء الفكري والأيديولوجي، بالنسبة للمحللين السياسيين، واحداً من أكبر الألغاز التي تنطوي عليها الخصوصية العراقية في ممارسة الحياة السياسية والثقافية!

ظل الوضع السياسي للشارع العراقي على حاله ذاك حتى قيام الجمهورية في عام 1958، حيث تألقت سياسياً نجوم المكونات العراقية، في سماء الإنجازات الوطنية والتقدمية، بينما تخلف عن ذلك نجم المكون القومي. وراح القوميون يحيكون المؤامرات على الجمهورية الفتية والنظام الوطني الديمقراطي العلماني الحديث، بتحريض من حكومة جمال عبد الناصر آنذاك، وإسناد من قبل الدول الغربية التي تضررت مصالحها النفطية بثورة 14 تموز. وأخيراً نجح حزب البعث وأعوانه التقليديون فئة التجار ورجال الدين والإقطاعيون من السنة والشيعة، بإسقاط حكومة قاسم الوطنية في عام 1963. وبعد محاكمة صورية سريعة للرئيس العراقي عبد الكريم قاسم، إستمرت عشر دقائق، تم تنفيذ حكم الإعدام به في مقر الإذاعة في منتصف شهر رمضان المبارك! ومن بداية حكم البعث الثاني في عام 1968 برز صدام حسين كألمع قائد قومي في بلاد الرافدين. وبعد عشر سنوات أي في عام 1979 أصبح الزعيم الأوحد للدولة العراقية وحزبها القائد. وسطع نجمه في سماء المنطقة قائداً قومياً لكل الحالمين العرب، المتعطشين للرموز التي تقودهم في خيباتهم المستمرة، وتخلصهم من الذل الأكبر الذي أصابهم في حزيران عام 1967 على يد جيش دولة صغيرة معزولة هي إسرائيل. وجاء في مقدمة المطبلين لصدام طبعاً الفلسطينيون واليمنيون والصوماليون والسودانيون والأهوازيون والمغاربة وغيرهم من الشعوب الخائبة. المعروف أن صدام لم يسمح يوماً للشيوعيين أو الأكراد أو الإسلاميين أن يشاركوه في سلطته المطلقة، وجعل العراق إمارة صدامية حكراً على أبناء عشيرة البو ناصر، الذين يقطنون قرية العوجة بالدرجة الأولى. إستولى هؤلاء على كل المستويات الإدارية والحزبية والعسكرية العليا، ثم حظي "بالفضلة" من السلطة أناس محسوبون على المكون القومي (السني)، من سكان مدن الرمادي والموصل وتكريت، ممن بايعوا صدام من طرف واحد وبثمن بخس.

الجدير بالذكر أن صدام حرص من أول أسبوع حكمه في العراق، على تصفية كل قائد قومي كاد نجمه أن يبزغ في سماء الساحة السياسية الرسمية أو الحزبية. وعمد إلى تصفية البارزين منهم، الذين بدأوا يشاطرونه الشهرة حزبياً وجماهيرياً. ولم يسلم من تلك التصفية بهذا القدر أو ذاك أي من "رفاقه" المتميزين. كان شعاره المعلن الذي يردده بإستمرار "القمة لا توجد إلا في وسط القمم"، وفي الحقيقة تناقضت ممارساته مع ذلك الشعار الديماغوغي تماماً، وتصرف وفق شعار آخر فعلي ينص على أن: "لا قمة غير قمة صدام، ولا قائد سواه"! كان يخشى أقرب أقربائه بمن فيهم أشقاؤه وإبن خاله، إضافة إلى ولده عدي. وهكذا وعلى مدى خمسة وثلاثين عاماً، لم يسمح صدام بتألق أي قائد مخضرم من المكون السني دون أن ينهيه على الفور، أما بقتله أو سجنه أو تشويه سمعته أوسلبه موقعه، لاصقاً به أحياناً تهمة الخيانة العظمى للحزب والقائد والأمة. والأمثلة على ذلك كثيرة ومتكررة طيلة أيام حكمه، ومن هؤلاء: عبد الخالق السامرائي، عدنان الحمداني، شفيق الكمالي، شاذل طاقه، عبد الكريم مصطفى نصرت، صالح مهدي عماش، عبد الكريم الشيخلي، رشيد مصلح، محمد محجوب، غانم عبد الجليل، وليد سيرت، حردان التكريتي، مرتضى سعيد عبد الباقي، الدكتور رياض حسين، فاضل البراك، محمد عايش، محمد دبدب، خالد طبرة، عدنان خير الله طلفاح، أحمد حسن البكر وولده محمد، حسين كامل وشقيقه صدام كامل، محمد مظلوم، الدكتور راجي التكريتي وعشرات غيرهم. ومن الطبيعي أن الآلاف من البعثيين الذين طردهم صدام من حزبه القائد، إذ لم يوجد مبدأ الإستقالة في ذلك الحزب، قد غادروا مواقعهم و"قعدوا" في بيوتهم بلا أدنى نشاط سياسي، أو لجأوا إلى مصر أو سوريا، البلدين الأقرب عقائدياً للفكر البعثي، دون أن تتهيأ لهم فرصة العمل السياسي المعارض، لأنهم لا يعترفون أيديولوجياً بالأحزاب الأخرى خارج المعسكر القومي، ولأن صدام سن قراراً صادراً عما كان يُعرف بمجلس قيادة الثورة، ينص على "إعدام كل بعثي ترك الحزب ومارس نشاطاً سياسياً في حزب آخر"!

بعد قيام العراق الجديد طل علينا عبر الفضائيات العربية العديد من القادة القوميين المحسوبين على المكون السني، وهم يدّعون إمتلاكهم سجلاً حافلاً بمعارضة نظام صدام. وتقاطرت جموعهم على مقر الحاكم الأميركي بريمر والسفير الأفغاني الأمريكي خليلزادة، لغرض المشاركة في دفة الحكم في مرحلة ما بعد صدام. وروى البعض منهم حكايات مثيرة عن حكم بالإعدام أصدره صدام بحقهم كونهم من المعارضين، أو إن النظام أعدم أحد أقاربهم إلخ. ولكن ما أن بدأ الحوار الجدي حول مستقبل العراق التعددي، وشرع القادة من المكونات الأخرى بتسجيل مثالب النظام الصدامي المهزوم، ويخططون لتشكيل المحكمة الجزائية لتنظر في جرائمه ضد الإنسانية، حتى فوجئنا بالقادة القوميين، وهم يبدأون صفحة غريبة ومذهلة من السلوك السياسي، بكيل المديح للقائد المغوار أسير الإحتلال، البطل الذي هز إسمه أمريكا التي رفع السلاح بوجهها، وقصف إسرائيل بالصواريخ إلخ! ويوماً بعد يوم وفي خلال أقل من نصف عام بدأوا تدريجياً يهاجمون "الإحتلال"، ويلعنون الذين ساعدوا المحتل على الإطاحة بالنظام الصدامي المستقل! ومن يومها لم يتغير هذا الخطاب الموالي لصدام. ليس من المستغرب أن نقرأ أو نسمع من وسائل الإعلام اليوم، أن المئات من السياسيين القوميين، الذين سبق أن تحدثوا فيما مضى، عن ظلم صدام وجرائمه وفساد حكمه، قد غضوا الطرف وتناسوا كلياً تلك الجرائم، لأنهم لن يجدوا بغيابه قائداً واحداً مؤهلاً وجاهزاً - من وجهة نظرهم - لقيادتهم في مسيرة العراق الجديد. من هنا تراهم لم يتحمسوا لمقاضاة صدام، على جرائمه الكثيرة بحق مئات الألوف من المواطنين الأبرياء، بما فيهم ضحايا المكون القومي السني، خلال سني حكم البعث الفاشي. وفي الوقت الذي يندر فيه وجود خطابات لقادة من غير القوميين، تتضمن تهجماً سافراً على المكونات العراقية الأخرى، عدا بالطبع النقد اللاذع للنظام الصدامي البعثي المنهزم، وللممارسات الإرهابية الحالية، التي تسببها عناصر أجنبية وافدة من المقاتلين العرب الأفغان، نقرأ صباح مساء في خطابات القادة القوميين، في وسائل الإعلام العربية المنحازة لمكون السنة العراقي، تصريحات نارية وفتاوى لقادة يمثلون هيئة علماء المسلمين، والحزب الإسلامي، وجبهة التوافق، وغيرها من المنظمات القومية والإسلامية السنية، مشحونة بالشتائم والتكفير، والتحريض على قتل المواطنين العراقيين من المكونات الإجتماعية الأخرى، بالإسم تارة، وبالرمز تارة أخرى. فهم لا يترددون في تسمية إخوانهم الشيعة الذين يشاطرونهم العيش في العراق منذ 1400 سنة "إيرانيين" أو "صفويين" أو "تبعية" أو "روافض"، ويطلقون على الكرد المتمسكين بوحدة العراق الديمقراطي التعددي "عملاء إسرائيل" أو "إنفصاليين" إلخ.

وكما شاهدنا على شاشة العربية مؤخراً، فقد ظهر أحد هؤلاء "القادة" البعثيين، وهو مسؤول في الحكومة العراقية الحالية "العميلة"، منتقداً بشدة عملية تنفيذ حكم الإعدام بزعيمه صدام، الأمر الذي جعل الموضوع يختلط على مقدمة البرنامج فتسأله: "أتسمح لها بتقديم التعزية إليك بإعدام صدام!"، مشيرة إلى ملاحظة قالتها إحدى السيدات المشاركات في الحوار، والمؤيدة للحكومة التي أعدمت صداماًً.

وياللعجب! ما كان من القائد البعثي المحاور إلا إطلاق الرد السريع الجاهز: "لقد حكم صدام علي بالإعدام، وسجن العشرات من أبناء عشيرتي، وأعدم كذلك إثنين من أقاربي!" من اللافت أن ذلك القائد البعثي المشارك في الحكومة والبرلمان، نسي نفسه وإستمر في الدفاع عن قائده المعدوم دون وعي، ولو بأسلوب اللف والدوران! إن هذا هو نموذج صارخ للقادة القوميين العراقيين، الذين يفتقرون إلى أبسط أساسيات القيادة والزعامة والشفافية السياسية والدبلوماسية، وعدم الإنفعال والإنجرار إلى مطبات تضعف المواقف والخطابات للمكون القومي. الحقيقة أن تشبث القادة السنة في الإنتماء المستمر والثابت إلى الإيديولوجية الصدامية المهزومة، لم يتولد كنتيجة طبيعية لإخلاص صدامي مفترض للمكون السني، في تلك الحالة قد يكون سلوكاً ضرورياً تحتمه (برأي القادة القوميين) إرادتهم في البقاء والإزدهار، وإنما بسبب إفتقار الساحة السياسية العراقية على مر العقود إلى القادة الحقيقيين الفاعلين. الأمر الذي دفع بالكثير من أبناء المكون القومي من المحافظات الغربية السنية، إلى الإرتماء في أحضان "القادة" الغرباء، كالزرقاوي والمصري وغيرهما من الإرهابيين والقتلة والتكفيريين الأجانب.

من جهة أخرى نعتقد أن حال القيادة في المكونات العراقية الإجتماعية الأخرى هو أفضل بشكل لافت. وللإنصاف نقول أننا لم نقرأ يوماً إهانة صريحة أو مستترة، أطلقها يوماً أحد القادة الأكراد أو الشيعة، إسلاميين كانوا أم علمانيين، ضد أشقائهم مواطني المكون السني. أما سبب وجود قيادات ناضجة من خارج التيار القومي فهو كما ذكرنا أن صدام لم يسمح منذ البداية، لنشطاء باقي المكونات، بالعمل السياسي ضمن نظامه المغلق بسياج حديدي، والمقتصر على أفراد عشيرته وبعض المنحدرين من المكون السني. لذلك أضطر النشطاء من المكونات الأخرى إلى العمل في الأحزاب السياسية العتيدة الأخرى، التي كانت تُعد مدارس حقيقية مقتدرة على تخريج القادة السياسيين المرموقين. وظلوا يعملون في النشاط السياسي المعارض، في الداخل وفي الخارج على حد سواء، لعقود دون رقابة من صدام. الأمر الذي دفع بمئات منهم، لجهوزيتهم وكفاءتهم، إلى الإلتحاق الفوري دون أيما تردد أو تلكؤ، بالعملية السياسية بعد التحرير، لبناء عراق تعددي جديد لكل المكونات الإجتماعية، وليس لمكون واحد كما كان لمدة أربعين سنة خلت. ويكفي للبرهان على هذه الفرضية، أن تستمع إلى أي قائد من المكون القومي اليوم، وهو يطرح وجهة نظره في الوضع السياسي الحالي من على شاشات الفضائيات العربية. سوف لن يخرج هذا القائد بالتأكيد، عن حدود برنامج صدام السياسي والفكري سنتمتراً واحداً! وستنطلق منه العبارات الصدامية إياها، التي رددها القائد الأوحد على أسماع العراقيين، طيلة أربعة عقود، والتي لا طعم لها ولا معنى ولا لون! إذ تراه يلف ويدور حول بؤر ومستنقعات كلامية متعفنة، هي كل ما يعرفه من العبارات القومية العتيدة، مثل: "وحدة العروبة" و"تحرير فلسطين"، و"الثوابت القومية" وما إلى ذلك. ما إنفك صدام يكرر على أسماع هؤلاء "القادة" القوميين هذا الهراء المسطح الهزيل، حتى نجح في غسل أدمغتهم، فصاروا يرددون نفس عباراته الفارغة، ويدورون في فلك أيديولوجيته الفاشية والشوفينية والعدوانية، وماعادوا يعرفون خطاباً غير ذلك.

من هنا لا ينبغي أن نستغرب إستقتال هؤلاء "القادة" اليوم من أجل العفو عن صدام، بل وإعادته إلى السلطة كرئيس للجمهورية لأربعين سنة أخرى، لأنهم يعلمون حق العلم أن صدام هو "أفضل" من قد يقودهم، إلى إسترجاع نفوذهم السياسي والإجتماعي والإقتصادي. وقد يكونون محقين في ذلك للأسف الشديد.

في هذا المجال، ولكي نكون منصفين، يجدر بنا أن نذكر أسماء بعض القادة البارزين المنحدرين من المكون السني، الذين تميزوا بالفكر العلماني الديمقراطي في العراق الجديد، وللأسف لم يحصلوا بعد على كاريزما في أوساط مكونهم الإجتماعي. في رأينا أن هؤلاء لهم القدرة الجيدة على إستلام مقاليد القيادة ضمن العراق التعددي الجديد، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: النائبة صفية السهيل، والقاضي وائل عبد اللطيف، والسفير سمير الصميدعي، والشيخ فصال الكعود، والنائب مثال الآلوسي، والشيخ غازي الياور، ورجل الدين محسن عبد الحميد، وعشرات غيرهم. من جانب آخر هناك القادة الأكراد والعلمانيون والإسلاميون، الذين يملأون السماء ضجيجاً في شكواهم من حكم صدام، وكيف أنه شرد وإضطهد وقتل الآلاف من أبناء مكوناتهم، ودفنهم في مقابر جماعية. لقد نظم هؤلاء المؤتمرات والإحتجاجات العديدة، لتهيئة المحكمة الكبرى التي أدانت حاكمت صدام وأدانته، وأوصلته بإستحقاق إلى حبل المشنقة، حسب القاعدة الذهبية الفاعلة: "ما ضاع حق وراءه مطالب!" على أننا لا نعتقد أن "الحقد" الشخصي للرئيس الأمريكي بوش، ولا نفوذ شيوخ بترول الكويت أو ملالي إيران أو حاخامات إسرائيل في العراق، هي العوامل الحقيقية التي أوصلت صدام إلى نيل ما يستحقه من العقاب. ولا شك أنه كان من الطبيعي والمنطقي أن يلتحق قادة المكون القومي بجحافل المشتكين على صدام، وهم كثيرون، للثأر لضحاياهم منه، وكان صدام رغم ذلك سيُعدم، لكن إعدامه حينذاك سيُعد رد إعتبار معنوي لذكرى مئات الضحايا الأبرياء وعوائلهم، من مواطني الرمادي والموصل وتكريت، ومن قادة حزب البعث نفسه، الذين غدر بهم صدام خلال عقود حكمه الفاشي، شأنهم شأن مئات الألوف من أشقائهم في مكونات الموزائيك العراقي المتآخية المتألقة.


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف