كتَّاب إيلاف

الإنسان في الفكر الإسلامي الحديث

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

لا شكَّ في أنّ أطروحات مفكري التيار الإصلاحي* الإسلامي في العصر الحديث، الذي ساد ما بين أربعينيات القرن التاسع عشر وثلاثينيات القرن العشرين، تركت أثرًا واضحًا وخلّفَت تراثًا فكريًّا ضخمًا، وعكست تصوّرًا واضحًا، حول قضايا الإنسان والإشكاليات التي واجهته وطرحت الآليات لطرق المعالجة وُفق تصورات تلك المرحلة.
وقد كان للإصلاحيّة إنجازات في شتّى المجالات، لعل أبرزها وأكثرها تأثيرا فيما يتعلق بمفهوم المواطن والمواطنية، وعلاقة المسلم بغير المسلم، والدستور وضرورة إصلاحه.

هذه المفاهيم تبلورت من خلال كتابات رفاعة رافع الطهطاوي وخير الدين التونسي ومقاربات محمد عبده، ورفيق العظم، وصولاً الى الكواكبي وقاسم أمين وغيرهم، فظهرت الأفكار والرؤى التي استظلّت فيما بعد بظلّها مسالة حقوق الإنسان في الفكر الاسلامي المعاصر.
فقد عكست أدبيات مفكري تلك المرحلة من العصر الحديث، انفتاحًا فكريًّا واسعًا على ثقافات وحضارات الشعوب الأخرى، كما دلّت على وعيٍ عميقٍ وسريعٍ لتطورات الحداثة وضرورة إضفاء نظرة حديثة عن الإنسان وطريقة تعاطيه مع المستجدّات الثقافية والعلميّة على حدٍّ سواء من خلال معالجة إشكالية "التقدّم".

وقد ساهم في تطوّر الفكر الإصلاحي هذا، إلتقاء مشروع الإصلاحيين مع المشروع السياسي العثماني، القاضي بضرورة إقامة دولةٍ حديثةٍ، من خلال الإستئناس بالنموذج المؤسسي والدستوري الأوروبي، الذي يتطلب وقبل كل شيئ إصلاح إجتماعي وديني وثقافي وعلمي ومؤسسي للوصول للتقدم كما تقدم الغرب الأوروبي، وذلك بهدف تجاوز التخلّف الذي ساد البلاد الاسلامية، والوقوف موقف الند للهجمة الأوروبية الساعية لتقسيم الدولة العثمانية والهيمنة عليها في ذاك الوقت.
ويمكن أن نلتمس في إطار الفكر الإسلامي الحديث الصياغات التي تشكلت حول مفهوم "الإنسان " من خلال مجموعَةٍ من الأطروحات،أبرزها فكرة "المنافع العمومية " عند رفاعة رافع الطهطاوي، و أطروحة" التنظيمات الدنيوية" عند خير الدين التونسي.

"المصالح الإنسانية" عند الطهطاوي :
قدَّم رفاعة رافع الطهطاوي** تصّورًا عن الانسان وحريّته وحقوقه من خلال أطروحة "المنافع العمومية " التي انضوت تحتها أطروحة "المصالح الإنسانية "، التي عكست وعيه لمفهوم حريّة الانسان التي قسمها الى خمسة أقسام:حرية طبيعية، وحرية مسلكية، وحرية دينية، وحرية مدنية،وحرية سياسية.
كما قابل الطهطاوي بين المفاهيم الفرنسية و المفاهيم الإسلامية واعتبرها كمفردات متقابلة متساوية، فقيم المساواة والحرية، ومفاهيم الجمهورية والدستور، يقابلها في المجال الاسلامي مبدأ الشورى والعدل والإنصاف.
وتناول في كتابه "مناهج الألباب"*** قضايا محورية منها : مفهوم المواطنية وضرورة حفظ حقوق الرعايا من خلال المساواة في الأحكام والحرّية وصيانة النفس والممتلكات، الدستور وضرورة إصلاحه من خلال ترجمة أنظمة تحقق العدالة الاجتماعية، قضية المرأة وحريتها،كما تناول موضوع عالمية الاسلام التي تكمن في انفتاحه على كل العالم والثقافات والحضارات والاستفادة منها.

"التنظيمات الدنيويّة" عند خير الدين التونسي :

لقد ركزّ خير الدين التونسي في أطروحته الواردة في كتابه " أقوم المسالك إلي معرفة أحوال الممالك "،على ضرورة انخراط المسلمين بالمدنية الأوروبية والإستفادة من التكنولوجيا والتقدم العلمي، حيث شكّلت مسألة التقدم والتمدن قضية محورية حاسمة في فكره معتبرًا أنّ الانخراط بالمدنية الأوروبية يضمن التقدم للمسلمين ويضعهم في الحداثة التي اجتاحت الأرض وذلك من خلال تطوير " التنظيمات الدنيوية" الحديثة التربوية والاجتماعية والاقتصاديةوالسياسية أي ما يُعرف اليوم بمؤسسات المجتمع المدني.

إنجازات الفكر الإصلاحي الإسلامي الحديث:
لقد حققت الإصلاحية هذه إنجازات كبيرة في سائر المجالات، طالت معظم الأبعاد الاجتماعية والأخلاقية، وأعادت لمفهوم "الإنسان "دوره الفاعل في صياغة الأحكام الفقهية، بما يتلاءم مع متطلبات العصر الحديث، وضرورة مراعاة مصالح العباد المستجدة، وضرورة تطوير وتجديد الوعي بالإسلام ثقافةً وفقهًا، وذلك من خلال إحياء قواعد "مقاصد الشريعة " في علم أصول الفقه وإعادة تطويرها، والتي تناولها الفقيه المالكي أبي إسحق الشاطبي،الذي حاول معالجة مصالح العباد من خلال حفظ حقوقه الضرورية التي تتلخص ب:حق النفس، حقّ الدين (المعتقد)، حق العقل، حق العرض ( الزواج والإنجاب )، حق المال ( الملكية).
لقد استطاع الإصلاحيون تطويرالرؤية الشاطبية للحقوق الخمسة لتحقيق علاقة انفتاح مع الآخر و الانصهار في الحضارات الأخرى لأنّ التقدم ينسجم مع المقاصد العامّة للشريعة الإسلامية.
ومع عشية الحرب العالمية الأولى، كانت حركة الإصلاح الفكري والثقافي قد تبلورت لديها أطروحات وأفكار أساسية حول الإصلاحات الضرورية اللازمة لتحقيق النزعة الانسانوية من خلال تحقيق العدالة الاجتماعية في بلاد المسلمين، كما تُرجِمَت الأطر الإجتماعية والسياسية والاقتصادية لهذا التقدم المنشود الذي يتم عبرأمور منها :
bull;تحقيق مبدأ المواطنية وتحقيق المساواة في الحقوق والحريّات بين الرعايا، الأمر الذي يؤدي إلى تجاوز مفهوم "دار الحرب " ودار الإسلام "، وتجاوز لمفهوم "الذمي" و"الحربي" كما هو تجاوز لمبدأ "الجزية ".
bull;عملية ردم الهوّة لصُوَر الصراع بين الغرب والمسلمين، تكون عبر التعلُّم والمنافسة، من خلال استخدام وسائل الانتاج العلمي الأوروبي لاعادة انتاج وتطور علمي وفكري وثقافي ولكن تتوافق مع الروح الإسلامية العامّة.

غير أن هذا المشروع الإصلاحي الذي حاول أن يقدّم نظرة منفتحة توفيقية تجاه الآخر اصطدم بممارسات الاستعمار الغربي ومشاريع السيطرة العسكرية على المنطقة، فانتج ظروفًا متأزمة ثقافيا وسياسيا للإصلاحيين نجمت عن خيبة الأمل بالغرب وثقافته وسياسته، فاختلت العلاقة مع المصدر الغربي (النموذج ) كما اختلت العلاقة مع الدول الطالعة، الأمر الذي أدى إلى انهيار المشروع الإصلاحي في ثلاثينيات القرن العشرين، ليتحول الفكر الإسلامي من نزعته الانفتاحية إلى نزعة انكماشية معادية للغرب برمته، و قد شكّل محمد رشيد رضا لحظة تحول مفصلية نحو هذه النزعة الانكماشية التي طرأت على الأجواء الإسلامية ، فكانت وقائع ذلك الانفصام بين الدولة و الفقه منطلق ما عُرِفَ فيما بعد باسم الفكر الاسلامي المُعاصِر الذي اتخذ من "التأصيل شعارًا له مُحدِثًا قطيعة مع الغرب،شاهرا شعار الصراع الحضاري ممهدًا لولادة حركات الإسلام السياسي العقائدية التي تبلوت في أطروحة" الحاكمية " عند سيد قطب فيما بعد.

* فهمي جدعان : " أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العصر الحديث "، المؤسسة العربية، بيروت، 1981.

** رفاعة الطهطاوي : " تخليص الإبريز في تلخيص باريز "، نشرة حجازي، 1974.

*** رفاعة رافع الطهطاوي : مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية، ط2 مصر 1912، ص ص 18 -21.

Marwa_kreidieh@yahoo.fr
http://www.maktoobblog.com/marwa_kreidieh


كاتبة لبنانية



التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف