فتح ملفات الفساد الأردني: لماذا الآن؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
1
من النادر أن نسمع أو نقرأ أن ملفاً للفساد في العالم العربي قد فُتح، وأن مسؤولاً رفيعاً فاسداً قد ضُبط، وأن سارقاً رسمياً قد قُبض، وأن لصاً محترفاً قد سُجن.
وما سمعناه وما قرأناه - على قلته وندرته - في العام العربي من فضح ملفات الفساد، كان لأسباب كيدية انتقامية، إما سياسية، وإما قبلية، وإما حزبية، وإما مالية.
ولكن أن تُفتح ملفات الفساد في العالم العربي، هكذا لوجه الله، ولوجه الحقيقة، وللقضاء فعلاً على الفساد، واقامة دولة العدالة والقانون والحق، فهذا ما لم نره، أو نسمعه في العالم العربي.
-2-
قالت الأنباء من الأردن: أن رئيس الوزراء قرر إحالة عدد من المشبوهين بفساد مالي واداري، بينهم وزير الشؤون البلدية السابق، ومدير عام بنك تنمية المدن والقرى، ومعهما آخرين من الرسميين. وتأتي إحالة هؤلاء المسؤولين الأردنيين للتحقيق، بعد أيام من إقرار البرلمان الأردني لقانون هيئة مكافحة الفساد، التي يؤكد قانونها شمول كافة الشخصيات العاملة أو تلك التي كانت عاملة في مؤسسات الدولة بأحكام قانون مكافحة الفساد الذي يفرض عقوبات على المسؤولين والموظفين في الدولة، الذين يثبت تورطهم بقضايا فساد مالي أو إداري.
و" قانون هيئة مكافحة الفساد"، هو الأول من نوعه في الأردن منذ 1921، وذلك بعد أكثر من ثمانين سنة من الفساد، في بلد صُنّف عام 2005 في المرتبة 37 على سلم "منظمة الشفافية الدولية" ، التي ترصد سنوياً حجم انتشار آفة الفساد في 159 دولة. وجميل من مجلس النواب أن يرفض اقرار هذه المشروع تحت شرط ربطه برئيس الوزراء، وحتى لا يكون (حاميها حراميها). ولم يكن في الأردن هيئة مستقلة لمكافحة الفساد حتى عام 1996، حيث أنشئت "وحدة مكافحة الفساد" تابعة لدائرة المخابرات العامة. وكانت غالبية القضايا التي كشفتها تلك الهيئة تتعلق بسرقات أو رشاوى اتهم في إطارها موظفون عاديون، أو من القطاع الخاص. ومنذ 1989 كُشفت في الأردن ثلاث قضايا فساد كبرى على الأقل، اختُلس في إطارها أكثر من 700 مليون دولار. ولم تصدر أحكام بحق أي وزير أو مسؤول رفيع، حيث لا يوجد "إرادة سياسية لمكافحة الفساد" كما يقول النائب السابق والسياسي المعارض ليث الشبيلات، وهو رئيس لجنة نيابية سابقة، سعت لكشف تسع قضايا فساد قبل سبعة عشر عاماً ، ولكن دون نتيجة. وكما قال باسم سكجها رئيس فرع "منظمة الشفافية الدولية" في الأردن من أن أهم المشاكل الرئيسية "تأتي من عدم جدية السلطة التنفيذية في محاربة الفساد، ومحاولتها احتكار العملية لنفسها، متجاهلة قوى المجتمع المدني. وهناك مشكلة الحديث عن محاربة الفساد لأسباب تجميلية، وتغيير الصورة في الخارج، دون أن يكون هناك عمل حقيقي."
-3
ونحن نبارك هذه الخطوة، ونشجعها، إيماناً منا بدولة القانون العربية العادلة التي نحلم بها، منذ قرون طويلة.
ولكن الخبر السابق، يُثير تساؤلات كثيرة، أهمها:
1- أن الدولة الأردنية قائمة منذ أكثر من ثمانين عاماً، ولم يسمع أجدادنا وآباؤنا، ولم نسمع نحن ايضاً أن وزيراً أو رئيس وزراء، أو رئيس البرلمان، أو رئيس مجلس الأعيان (وكلهم من القطط السمان)، أُحيل إلى القضاء بتهمة الفساد، أو الرشوة، أو سرقة المال العام، في الوقت الذي امتلأت فيه السجون الأردنية في مختلف الحقب بالسجناء السياسيين المعارضين، وسجناء الرأي الآخر. إلا أننا لم نشهد كما لم يشهد أجدادنا وآباؤنا في الأردن، وزيراً أو مسؤولاً رفيعاً مسجوناً بتهمة الفساد، وسرقة المال العام ويسثنى اللواء البطيخي مدير المخابرات السابق الذي لم يُسجن، وانما أقام متنعماً في داره اقامة جبرية فقط.
فما الذي فتح ملف الفساد في الأردن الآن؟
- هل هناك وعود مالية غربية مترتبة على الكشف عن جزء صغير من الفساد، وسرقة المال العام، وذلك من أجل ذرِّ الرماد في العيون؟
- هل هناك استحقاقات سياسية يريد الأردن أن يحققها من خلال الكشف عن بعض السرقات، وتقديم ضحية أو ضحيتين على مذبح الفساد الأردني، الذي يتسع لمئات الضحايا، وليس لضحية أو ضحيتين؟
2- من المعروف في العالم كله، أن الذي يفضح الفساد والمفسدين والسرقات والسارقين والنهب والناهبين هو الإعلام الحر المفتوح في الدول الديمقراطية. وهو الذي يكشف للقضاء أولى خيوط الفساد، لكي يمسك بها القضاء، ويبدأ بتتبع هذه الخيوط والتحقيق حتى يصل إلى الحقيقة، ويأتي بالمفسدين والناهبين والسارقين إلى العدالة.
فأين الإعلام الحر الأردني الذي يجرؤ على كشف قوائم طويلة من المفسدين والناهبين والسارقين، منذ بدء تأسيس الدولة الأردنية في عام 1921 حتى الآن؟
وأين الإعلام الأردني الحر الذي يجرؤ على القول، بأن فلاناً قد سرق، ولكن سرقته أُخفيت لأسباب عشائرية وعائلية، وأن علاّناً قد نهب ولكن نهبه أُخفي لأسباب سياسية، وأن علتاناً قد فسد ولكن فساده سُمح به لأسباب اقتصادية.. الخ.
وبدون إعلام حر ونزيه سيبقى السارقون يسرقون، والناهبون ينهبون، والمفسدون يفسدون، والدولة تتفرج عليهم، وتنتقي بين وقت وآخر مسؤولاً من هنا ومسؤولاً من هناك لأغراض معينة في نفس يعقوب، ثم تُغلق ملف الفساد والسرقة والنهب إلى الأبد، كما حصل في كثير من البلدان العربية.
فهل تذكرون زوبعة الفساد والسرقة التي أثارها الرئيس حافظ الأسد، قبل رحيله ضد رئيس وزرائه محمود الزعبي الذي مات منتحراً، ثم اختفت الزوبعة، ولم يُفتح بعد ذلك أي ملف من ملفات الفساد. وكانت تلك الزوبعة من ضمن الغبار السوري الكثيف الذي أُثير في ذلك الوقت، لتعديل الدستور السوري، وتنصيب بشار الأسد وريثاً ؟
تلك هي ملفات الفساد في العالم العربي. تُفتح لأغراض، وتُقفل لأغراض. والحاكم هو الذي يفتحها متى شاء، ويقفلها متى شاء . فلا علاقة للعدالة والإعلام بهذه الملفات. ذلك أن التمادي في فتح هذه الملفات من قبل الإعلام والقضاء، سوف يؤدي إلى جلب رؤوس كبيرة إلى القضاء، ووضعها في فم الإعلام مُضغةً للماضغين، وعلكة في فم العالكين. وهو ما يخشاه الحُكم والحاكم في أي بلد عربي، مما جعل "منظمة الشفافية الدولية" التي انشئت عام 1993، أن تضع بلدان العالم العربي في أسفل قائمة الشفافية في العالم الثالث، وتعتبر الفساد فيها من أعلى النسب في العالم. ففي آخر تقرير لها صدر عام 2005 ، كانت معظم الدول العربية في رأس قائمة الفساد، والسرقة، والنهب.
ولو توفرت المعلومات اللازمة، ولو كان هناك مجتمع معلوماتي محترم وحر في العالم العربي، ولو كان هناك إعلام حر، لأُدرجت كل الدول العربية في قائمة أكثر دول العالم فساداً ونهباً وسرقة للمال العام، ولضياع حقوق الإنسان.
3- "الفساد هو سوء استغلال السلطة لتحقيق مكاسب شخصية." وهذا هو نص تعريف "منظمة الشفافية الدولية" للفساد، وهى أكبر منظمة غير حكومية في العالم، والتي قام بيتر آيجن، أحد مديري البنك الدولي السابقين، بتأسيسها ، والذي يقول "إن الفساد يمثل أكبر عائق أمام التطور الاقتصادي والديمقراطي، وخاصة في دول العالم الثالث."
فإذا ما تساءلنا: لماذا أصبح الوضع الاقتصادي في الأردن متدهوراً إلى هذا الحد، ولماذا يعيش أكثر من ثلاثة ملايين أردني تحت خط الفقر؛ أي بمعدل خمسة دولارات يومياً (معدل دخل الفرد الأردني السنوي 1800 دولار حسب تقرير مجلة الإيكونوميست العالمي الأخير) لا تكفي لشراء خمسة سندويشات فلافل مع صحن فول وحمص وربطة فجل، فإن الجواب هو بكل بساطة، أن سبب هذا الفقر المشين، هذا الفساد المستشري في الدولة الأردنية وفي المجتمع الأردني، والذي تتفرج عليه السلطة منذ أكثر من ثمانين عاماً، ولا تفعل شيئاً صارماً وجذرياً وعلمياً ضده؟
وإذا ما تساءلنا: لماذا المسيرة الديمقراطية في الأردن، ما زالت متعثرة حتى الآن، فلا نقد للدولة مسموحاً، ولا حرية للصحافة والإعلام متاحةً (الدولة تملك نصف رأس مال الصحف، وتملك الإذاعة والتليفزيون بالكامل)، ولا انتخابات ديمقراطية جائزةً، ولا معارضة سياسية قائمةً، فإن أسباب كل هذه (البلاوي) هو الفساد، الذي فطنت الدولة بعد أكثر من ثمانين عاماً بأنه موجود وعليها محاربته، ونرجو أن يكون هذا في كل المواسم وعلى مدار الأيام، وليس في موسم معينة واحدة فقط؟
4- إن الفساد ليس حالة فردية. فإذا قبضنا وحاكمنا مسؤولاً أو مسؤولين أو ثلاثة أو عشرة، فمعنى ذلك أن قضينا على الفساد. هذا غير صحيح. الفساد في الأردن وفي العالم العربي وفي العالم الثالث حالة عامة. وباء عام كاسح. مرض كمرض الكوليرا، يجتاح المجتمع كله. وعلاجه لا يتأتي بالقبض الموسمي على وزير أو سفير أو خفير بتهمة السرقة والفساد. علاجه لا يتأتي إلا بتحقيق الحرية التامة والديمقراطية الكاملة. وهي المصلُّ الذي يجب أن يتلقّح به كل مواطن، وكل مسؤول. الحرية والديمقراطية تتيحان للمجتمع والإعلام الرقابة والكشف عن الفساد وملاحقته، في كل زمان ومكان. وبدون ذلك سيظل الفساد يعبث بكل وطن، ولا يجد من يقاومه.
وما تفعله الحكومة الأردنية الآن، وما سبق أن فعلته معظم البلدان العربية، هو تخدير للمرض، وليس علاجاً له. فهذه الحالات من الفساد التي يتم الكشف عنها بين حين وآخر وفي المواسم السياسية النادرة، لأغراض مختلفة ليست هي مرض الفساد الحقيقي، ولكنها عوارض هذا المرض، وبعض حالاته. وأما المرض الحقيقي فهو مخبّأ، ومستور، ومُنكر الوجود، ومسكوت عنه. بل الكشف عنه في بعض الأحيان، ودون إرادة الحكام، يُعدُّ من المحرمات وارتكاب الآثام. وما لم تبادر الدولة - لأغراض خاصة - بالكشف عنه، فيعتبر الكشف عنه في أحيان كثيرة، بل في معظم الأحيان طعناً في الدولة، ومصداقية الدولة، وشرف الدولة، وخيانة للوطن. بل يمكن أن يوجه للمتهِم بالفساد والكاشف عنه وفاضحه، تهمة العمالة والتآمر مع دولة أجنبية، وتُلصق به تهمة الخيانة العظمى. ولم نرَ أو نقرأ أو نسمع في العالم العربي في تاريخه الحديث، أن صحافياً كانت له اليد الطولى في الكشف عن فضيحة فساد. ويستثنى من ذلك احسان عبد القدوس وسليم اللوزي في فضيحة الأسلحة الفاسدة، التي أثاراها في مجلة روز اليوسف في الخمسينات.
السلام عليكم.