دستور الاسلام المستنير (15): الامة والدولة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الأمة، لفظ ورد في القرآن الكريم (49) مرة، وهو من أصل عبرى يعني الجماعة او القبيلة. وقد أستُعمل في القرآن بهذا المعني أصلا، ليفيد ان المسلمين (المؤمنين) أمة (اى قبيلة) في مواجهة باقى القبائل، مثل قبيلة قريش أولاً، ثم فيما بعد مثل قبيلتي الأوس والخزرج بالمدينة وقبائل اليهود فيها بنو النضير وبنو قينقاع وبنو قريظة. وأمة كل نبى، من أُرسل اليهم من مؤمن او كافر، وقيل كل جيل من الناس أمة، وقيل كل جنس من الحيوان أمة.
وفي معاجم اللغة ان الأمة (1) هى الجماعة يؤلف بينهما رابط إما من دين أو أصل او مكان أو نحوه، كما يقال الأمة الاسلامية او أمة محمد (2) الدين، مثل (إنا وجدنا آباءنا على أمة) سورة الزخرف 43:22، (3) رجل جامع لخصال الخير، كما لو كان يساوى قبيلة، مثل (إن ابراهيم كان أمة) اى إن ابراهيم كان يكافئ أمة، كما يقال إن فلان بعشرة رجال او بمئة رجل، وهكذا (لسان العرب، المعجم الوسيط، المعجم العربي الاساسى) مادة : أمم.
اما الدَّولة، فهو لفظ لم يرد في القرآن بمعناه الحالى، وورد في معاجم اللغة الحديثة وحدها بما يعني (1) الاستيلاء والغلبة (2) اقليم يتمتع بنظام حكومى واستقلال سياسى. وقد جاء اللفظ في القرآن بمعني التداول (بالانجليزية Circulation) (وتلك الايام نداولها بين الناس) سورة آل عمران 140:3، ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله والرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، كى لا يكون دُولة بين الاغنياء منكم) سورة الحشر 52:7. ولفظ دُولة في هذه الآية يُنطق بضم الدال والواو، بمعني ألا يقتصر تداول الفئ على الاغنياء وحدهم.
وقد ورد لفظ الدوْلة، بنطقه الحالى (الذي يكون بتشديد وفتح الدال وبتسكين الواو) في شعر آبى الطيب المتنبي وفي مقدمة ابن خلدون، لكنه في الحالتين لم يقصد الى المعنى القانونى والحالى للدوْلة، ولكنه يرمى الى معنى الغلبة والشوكة والسيادة. وعندما وصل نابليون بونابرت على رأس الحملة الفرنسية الى مصر (1798م) فإنه ذكر في أول منشور كتبه للمصريين، أنه ما جاء ليسئ اليهم ولكن ليقضى على دوْلة المماليك، وكان في هذا الاستعمال للفظ الدوْلة يقصد إلى استعماله بذات المعني الذى ورد في شعر المتنبي وفي مقدمة ابن خلدون. غير أنه مع الوقت اتخذ اللفظ المعنى الحالى، والذي يعني اقليما له سيادة وله نظامه وله قوانينه، وهو وحْدة (Unit) القانوني الدولى العام والقانون الدولى الخاص، والنظام الدولى العالمي. ساعد على ذلك ان المشرعين المصريين عندما وضعوا دستور 1923 سموه دستور "الدولة المصرية" ترجمة منهم للفظ (State) الانجليزي ولفظ (Etat) الفرنسى، ثم أقر مجمع اللغة العربية اللفظ بمعناه هذا، فشاع وذاع واستخدمته بلاد مثل دولة الكويت ودولة الامارات المتحدة، وهلم جرا.
وفي المعاجم الأجنبية عموما، والانجليزية خصوصاً (لتيسير الدراسة) ورد عن لفظ الدولة، State : An organized political community under one government.
وهو ما ترجمته جماعة منظمة سياسية تخضع لحكومة واحدة. وجاء عن لفظ Nation : A community of people of mainly common descent, history, language, etc, (2) a tribe or confederation of tribes in native America
وبالفرنسية (nascimat onis = be born من اللاتينية nat,io) يراجع Oxford Dictionary)، وهو ما ترجمته (1) جمع من الناس غالبا ما يكونون من أصل واحد ولهم تاريخ او لغة مشتركة (2) قبيلة او اتحاد قبائل على الارض الامريكية، ذلك لان الولايات المتحدة، وهى دولة (State) تتخذ لها شعارا انها أمة الامم (Nation of nations).
مفاد ذلك، بالتعريف المحدد للالفاظ والمعاني، ان الأمة تكوين طبيعي، هي جماعة من الناس لهم أصل مشترك من دم أو دين او لغة، وما شابه. أما الدولة فهى وضع قانونى، يقوم في أرض محددة، وبترتيب معين، ويعتمد على نظام قانونى، على قمته القانون الأساسي، ويسمى الدستور او أى اسم آخر، وهو يُبني على تعاقد، واضح او ضمنى، بأن كل فرد فيها مواطن، أى إن الكل متساوٍ في الحقوق والواجبات التي يحددها القانون الاساسى، ويكون الوطن (الذي تقيمه الدولة) مشتركاً بين الجميع بنسب كلية متساوية، لا تتجزأ ولا تتبعض، فيكون الوطن كلا لكل مواطن.
بهذا التحديد يكون الكلام عن "دولة القرآن" أو "دولة الرسول" هو من قبيل التجاوز، الذى يخالط بين التعريفات ويداخل بين المفاهيم، بما يمكن ان يكون له أثر وخيم على الفكر السياسى، وفى التطبيق الوضعى. فالقرآن لم يستعمل لفظ "الدولة" بالفهم المعاصر أبدا، لأن هذا المعنى لم يكن قد ظهر أو تحدد، وإنما استعمل القرآن لفظ "الأمة" بمعنى القبيلة غالباً، من ذلك أنه قال عن بنى إسرائيل (وقطعناهم اثني عشر أسباطا أمما) سورة الأعراف 160:7، وبنو إسرائيل كانوا قبيلة تتكون من إثني عشر سبطا هم احفاد يعقوب المسمى إسرائيل. وقد عاش بنو إسرائيل زمناً طويلاً، أمة أو قبيلة، حتى رغبوا في أن يكون لهم ملك (مثل باقى الأمم) فمسح لهم صموئيل الحبْر شاول ملكا، ومن بعده داوود (ت.ح 972 ق.م) ثم جاء ابنه سليمان الذي تزوج من ابنة الفرعون شيشنق ذى الأصل الليبي، وأرسل له هذا مع ابنته جماعة من البنائين المصريين (أى الماسون الاحرار) فبنوا لها هيكل (اى معبد) سليمان لتتعبد فيه مع مجموعة من الكهنة المصريين. ولهذا السبب فإن الاسرائيلين يحتفون بذكرى داوود، لأنه والد سليمان ولأنه هو الذى يعتبر المؤسس الحقيقى للدولة، بعد أن كان بنو اسرائيل مجرد أمة (قبيلة).
وفي المسيحية كوّن تلاميذ المسيح والمؤمنين برسالته كنيسة ولم ينشئوا دولة، وفي عام 313م اعترف الامبراطور قسطنطين بالمسيحية كديانة رسمية ضمن ديانات الامبراطورية الرومانية. ولما نشأت فكرة "امبراطور واحد وكنيسة واحدة أو بابا واحد" بدأ اضطهاد المسيحيين الذين لا يتبعون الكنيسة (الكاثوليكية) في روما، وساعد في ذلك كتائب الجيش الرومانى، وكان اضطهاد المسيحيين المصريين (الأقباط) في هذه الفترة شديداً، وهى الفترة التي تسمى عصر الشهداء (284- 305م)، ويبدأ التقويم القبطى اعتبارا من 284م أيام دقلديانويس) }وفي التقدير العلمى ان هذا الاضطهاد استهدف استئصال فرع آخر من (الدين) المسيحي، كان ينبني على ان الخلاص يكون بالمعرفة المقدسة (Gnosticism) وليس بمجرد الايمان وحده، ولعل أتباع هذه الفرقة كانوا يركنون الى قول المسيح (تعرفون الحق والحق يحرركم) وما جاء في سفر يعقوب من أن (الايمان دون أعمال ميّت). وقد اندثرت بالفعل هذه الفرقة الى ان عثر راع مصرى في نجع حمادى عام 1945م على جرة تبين ان بها بعض الاناجيل والاوراق التى تسمى أناجيل المعرفة، وقد تمت ترجمتها الى الانجليزية تحت عنوان مكتبة نجع حمادى Nag Hammadi Library {.
أما في الاسلام فقد كانت السلطة السياسية تُسمى بالخلافة، وكلما كانت تخرج منها سلطة تسمّى بالسلطنة او المملكة او الإمارة او تنسب الى اسم أسرة كالحمدانية والاخشيدية، وهكذا. وفي بداية "الخلافة العباسية" ظهر الفرس في السلطة، ثم بعد ذلك غلب البربر المغول الذين تسَمّوا بالترك نسبة الى لغتهم التركية، وسقطت السلطة في أيدى السلاجقة الاتراك، وكان الخليفة المتوكل الخليفة العاشر في ثبت الخلفاء العباسيين (847م - 232هـ) يقول :
أليس من الغرائب أن مثلى ... يرى ما قلّ ممتنعاً عليه
وتؤخذ باسمه الدنيا جميعاً ...وما من ذاك شئ في يديه
وبعد السلاجقة، وفي أواخر عهدهم، سادت قبائل تتارية مغولية أخرى تسمت باسم قائد لها يدعى عثمان وكونت السلطنة العثمانية. وكانت هذه السلطنة تعْتبِر البلاد العربية جميعاً إيالات (أى شئ آلت إليها ملكيته بحد السيف) وعاملت المسلمين كرعايا ليست لديهم أية حقوق، وعليهم التزامات غير معروفة ولا محددة، وتنزل عليهم من السلطة كالصاعقة. هذا في الوقت الذي بدأت فيه الدولة المعاصرة في فرنسا بعد الثورة 1789م، ثم نشأت الدول الحديثة - التي قوامها المواطنة وسنادها القانون وعمادها الدستور - تباعا في بريطانيا وألمانيا وايطاليا، ثم باقى الدول الاوروبية. وفي أمريكا قامت الولايات المتحدة، كدولة وكانت أول من ضمّن دستورها مبادئ حقوق الانسان. ومع مرور الوقت توطد نظام الدولة واستقر وأصبحت الدولة هى وحدة (Unit) النظام الدولى الذي تظهر مؤسساته في الأمم المتحدة ومجلس الأمن والبنك الدولى، والمنظمات المتخصصة الصادرة عن الأمم المتحدة مثل اليونسكو للثقافة، والفاو للزراعة.. وغيرها للصحة والمياه، وهكذا.
ورغم هذا التفاصل والتفاصم والتمايز بين لفظى الأمة والدولة ونواتجه، فإنه يَحدث تداخل وتخالط على الصعيد الواقعى في حالات كثيرة. فأمة الاسلام تتوزع على سبعين دولة وأكثر، قد يكون لبعضها خلافات في المصالح وشقاقات في النفوذ وغيرها، لا تفلح في رأبه الأمة ولا يُصلح من شأنه الشعور العاطفى الديني الذي تثيره فكرة الأمة، وذلك مثلما يحدث حالا (حاليا) بين ايران الفارسية من جانب والبلاد الخليجية وبعض البلاد الاخرى كمصر والاردن، وهو خلاف مصالح وصوالح لا يشفع في رأبه دين ولا يجتث شأفته شعور بالاخوة الدينية، هذا فضلا عن الخلاف بين العراق والكويت، والخلافات المستمرة بين البلاد ذات الاغلبية الاسلامية بعضها البعض.
وقد تكون الدول جماع أمم متعددة، مثلما كان الحال مع يوغوسلافيا السابقة، التي كانت تضم مع الصرب اجناسا اخرى، وكما هو الوضع حالا (حاليا) في الولايات المتحدة الامريكية، فهى دولة (State) ولكنها تتخذ لها شعاراً بأنها أمه الأمم، ذلك لان مواطنيها بحسب الاصل ايطاليون وايرلنديون وافريقيون ولاتينيون وغير ذلك، وكل فرد من هؤلاء يؤكد أصله ولا يتحرج من ذلك، بل ويقيم البعض احتفالية سنوية (Parade) للتأكيد على أصله، لكن مبدأ المواطنة في الولايات المتحدة قوى جدا بحيث يعتز الجميع بمواطنتهم لأمريكا قبل أن يذكروا أصول أجدادهم المهاجرين. ومبدأ المواطنة في الولايات المتحدة يحقق لكل مواطن من الكفاية والعدالة والأمان ما لا يجده في بيان أصوله التى تُذكر من باب ان القانون يجيزها ولا يمنعها، وأن المواطنين يجدون فيها دواعى للتواصل ولا يتخذون منها أسبابا للتقاطع.
ومع أن الدولة هى وحدة القانون الدولى والمجتمع العالمى، وهى التى يفترض ان تقدم الجنسية والرعاية والعدالة والكفاية والامان لكل فرد فيها، وعلى أساس المساواة، بلا تفرقة بين المعتقدات أو الاجناس او الاصول او غيرها، كما أن الدولة هى التى تضفي على كل فرد جنسيته وتصدر له جواز سفر، وتحمى مصالحه (فرضا) في كل مكان يوجد فيه على ظهر الارض، على الرغم من ذلك، فإن ثمة ايديولوجيات (الاسلام السياسي) بدأت تعتد بالعقيدة ولا ترتبط بالمواطنة، وهي بذلك لا تعرف ولا تفهم الفارق بين الأمة والدولة، ولا تضع حدوداً بين الشعور والقانون، فتهدم الاوطان أو تسعى الى ذلك، دون ان تُوجد البديل الذي يدافع عنها ويحمى رياضها ويذود عنها كل شر، كما هو الأصل في الدولة، ومن ثم فهي تهدم قبل ان تبني، وهى تفرّق ولا تجمّع ابدا، وهى تنشر العدمية (nihilist) ولا تنشر الإنسانية.
إن الفرد في هذه الايديولوجية (الإسلام السياسي) كل ولائه للتنظيم الذي يغسل عقليته (Brain Wash) ويجعل من شخصيته مضادة للأوطان، مفسدة للأديان، قاتلة للإنسان، شاردة دون استقرار، جامدة بغير نفع، يتمحض عملها وفكرها وقولها الى ضرر جسيم لها أولاً، وللجميع بعد ذلك.