دروس لمصر مِنْ لبنان
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
لأن لبنان الآن في بؤرة الحدث بالشرق الأوسط، فقد يكون مفيداً أن نضع تجربتها السياسية والدستورية في سياق التَطَوّراتِ الأخرى في العالم العربي، كما سيكون من الأهمية بمكان أن نستعرض الصلة بين الحالة اللبنانية والأحداث التي وقعت في تاريخ مصر المعاصر. فكلتا الدولتين يشتركان في مجموعة من العوامل التي لعبت دورا مؤثرا في تحديد هويتهما الوطنية وطبيعة العلاقات بين الأغلبية والأقلية.
فبين كُلّ دول العالم العربي، برزت لبنان نتيجة نظامها السياسي المعقد الذي يبدو وأنه قد خدم الحاجة المرجوة منه في الماضي. وفقا لبنات أفكار النظام الاستعماري الفرنسي، فإن النظام اللبناني كان قائما على نظام التمثيل الديني والذي قُصد منه إيجاد توزيع عادل للسلطة بين مختلف الجماعات الدينية داخل الدولة. وبَدا النظامُ مثاليُ لدولة مثل لبنان، وهي التي، رغم ضآلة حجمِها، كَانَت مستقرا لجماعات غير مألوفة مِنْ الطوائفِ الدينيةِ. ووفقا للتعداد السكاني لعام 1932، وهو الإحصاء الوحيد الذي تم في لبنان إلى الآن المسمى بالحلف الوطني، والذي سعى نحو إقامة دور مؤثر للقطاع المسيحي من السكان في الدستور. وقد أَسّسَ الإحصاءُ نسبة السكان بما يعادل 6 مسيحيين لكُلّ 5 مسلمين وفقا لنظام معقّد للاشتراك في السلطةِ الذي حَجزَ منصب الرئيسِ للمارونيين ومنصب رئيس الوزراء للسنة المسلمين. إن إقامة دولة لبنانية تحت الهيمنة المسيحية قد بدأت في وقت سابق بناء على اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 (وتأكدت في وقت لاحق عام 1920 بناء على اتفاقية سان ريمو) التي قسّمتْ إقليم سوريا العظيم التابع للإمبراطورية العثمانية السابقة إلى إقليمين واقعين تحت الانتداب الفرنسي. وإقامة لبنان منفصلة ضمن للمسيحيين موقع ديموغرافي مهيمن وأنقذهم من الذوبان في بحر المسلمين.
لسوء الحظ، فإن النظام الديني اللبناني قد تآكل على مرِّ السنين بسبب الخصائص السكانيةِ المتغيرةِ للبنان التي شهدت تضائل في التعداد السكاني المسيحي وتصاعد في التعداد السكاني للمسلمين. ونتيجة لذلك خاضت لبنان حربين أهليتين عامي 1958 و1974، فيما يتعلق بعدم الجدوى الدستوري. وعلى أية حال، فإن اتفاقية الطائف قد سعت نحو إنهاء الأزمة التي أدت إلى الحرب الأهلية الأخيرة عن طريق إدراج بعض التعديلات الطفيفة على الدستور، مثل تَوسيع اختصاصات رئيسِ الوزراء وتقييد اختصاصات الرئيسِ.وبالتالي تم حفظ نظام التمثيل الديني . الأزمة اللبنانية تمثل سقوطا للنظام القديم نتيجة بزوغ جماعة طائفية جديدة، وبالتحديد الشيعة اللذين يطالبون بمساهمة اكبر في السلطة بما يتعادل مع نسبة تعداداهم السكاني الذي يصل إلى 40%. الأزمة الحالية تمثل أيضا تقلص النفوذ السياسي والسلطة التي يتمتع بها المسيحيين والمسلمين الأوليغاركية.
ولكن ما هو الدرس بالنسبة لمصر، خاصة فيما يتعلق بالأقلية القبطية ؟ وبتقليب صفحات التاريخ المصري سوف ينكشف لنا فيما إذا كانت تجربة الدولة في الحكم الليبرالي والبرلماني يعد إنكار للفرصة عن الأقباط أم أنه استثمار قَيِّم في سبيل المستقبل الديمقراطي للبلاد. الرواية التالية سوف توضح لكم في عجالة ما تعنيه المساواة الديمقراطية والتعددية الحقيقية بالنسبة للأجيال السابقة من القيادات القبطية.
إنه أمر معلوم للكافة أن سكان مصر المسيحيين ساهموا كلية في أحداث ثورة 1919. ولكن ما لا يعلمه الكثيرون هو أن المسيحيين أظهروا أيمانا عميقا بأي حركة وطنية نادت بإجلاء البريطانيين عن مصر، حتى إذا تضمن ذلك مساندة الأحزاب الإسلامية. وهكذا، تعاون الأقباط والمسلمون في الحزب الوطني عام 1907 تحت قيادة مصطفى كامل الذي طالب بالجلاء الفوري للقوات البريطانية وباستقلال السودان. انضم المسلمون والأقباط للحزب الوطني خصوصاً بعد حادثة دنشواي والهجوم البريطاني الوحشي على فلاحيّ مصر. تَضمّنتْ اللجنة التنفيذية للحزب الوطني ِعضوان قبطيان، ويصى واصف ومرقص حنا. وقد استقال واصف في وقت لاحقاً بَعْدَ أَنْ نَجحَ محمد فريد في تولي منصب زعيم الحزب ودعم فيه العديد من الأفكار الإسلامية الخالصة. النبرة الإسلامية القاسية لمحمد فريد دفعت أحد الأقباط الأغنياء من أصحاب الأملاك، الدكتور أخنوخ فانوس، إلى إنشاء مجموعة جديدة أطلق عليها اسم حزب مصر. ورغم ذلك فإن كل من الأقباط والمسلمين على حد سواء أظهروا عداء شديد لهذه المحاولة، متخوفين من النتائج التي قد تترتب على مطالبته العلنية للحقوق القبطية.
وهناك تطور آخر هدد ببلبلة الميزان الاجتماعي المصري الهش، وذلك عندما عين أحد خيار الأقباط، بطرس غالي، في منصب رئيس الوزراء. وعلى الرغم من أنه ليس أول من يحقق هذا الشرف العظيم ( حيث قام الخديوي إسماعيل بتعيين نوبار باشا، الأرميني، رئيسا للوزراء في القرن التاسع عشر)، إلا أن غالي أُعتُبِر أحد أكثر رجال الدولة البارعين في هذا العصر. وكان اغتياله على يد مسلم، هو إبراهيم الورداني ، قد اُفتُرِض في البداية أنه تم بتدبير من الحزب الوطني. وكان غالي قد أصبح هدفا دائما لأي فدائي وطني نتيجة لسياسته المنبوذة، والتي تضمنت التدخل في محاكمات دنشواي وتدعيمه لاتفاقية الحكم المشترك للسودان وتمديده لاتفاقية قناة السويس وقوانين مراقبة المطبوعات. وقد تبين فيما بعد أن الورداني ينتمي إلى جماعة سرية معروفة باسم "جماعة التضامن الأخوي".
بالإضافة إلى ذلك، فقد دَعمَ الأقباط البارزون حزبِ الأمة وجريدتها الرسمية "الجريدة". وقد أسس أتباع الإمام محمد عبده حزب الأمة وأعلى المثقف البارز، أحمد لطفي السيد، شعار "مصر للمصريين". وعلى الرغم من اضمحلال الحزب والجريدة بحلول عام 1915، إلا أن برنامجهم القائم على ضرورة التطور الدستوري، وتحسين الريف، والتعليم العمومي للجميع بدلا من التركيز على الاستقلال الفوري، استمر في دفع وتشجيع الأمة. وقد نجح الحزب أيضا في وضع تعريف واضح للهوية السياسية المصرية كشيء مميز عن الهوية العثمانية. وهذا وحده مكن حزب الأمة من كسب دعم الأقباط البارزين من أمثال فخري عبد النور وسينوت حنا. وقد احتج حزب الأمة بقوة على الملاحظة اللاذعة التي أبداها اللورد كرومر قبيل رحيله عام 1907. وقد رد أحمد لطفي السيد بأن الحركة الوطنية لم تكن أبدا مسيحية خالصة وكذلك المصريين ليسوا متعصبين بطبيعتهم وذلك لأن الإسلام في ذاته متسامح. وقد أصر على أن المسلمين والأقباط متحدين بأواصر الروابط التاريخية والمصالح المشتركة.
وعلى الرغم مِنْ كُلّ هذا، فإن العلاقات القبطية الإسلامية استمرت في المُعَاناة تحت وطأة الضغط المشترك من قبل الحكم الاستعماري البريطاني والسياسة الخديوية ذات البعد الإسلامي الخالص. وقد تفاعلت فئة قبطية بقوة مع اغتيال بطرس غالي وقامت بعقد مؤتمر قبطي في 4 مارس، 1911 بزعامة أسقف أسيوط. وبالرغم من الاعتراض الشديد للبابا كيرلوس الخامس على جدول أعماله، إلا أن المؤتمر قد خرج بعدة مطالب عامة مثل: إعلان يوم الأحد كعطلة رسمية، أن تكون تعيينات الخدمة المدنية بناء على الجدارة والاستحقاق، زيادة التمثيل القبطي في المجالس التشريعية المختلفة، منح الدعم الضريبي للمدارس القبطية. وفورا، بزغ رد فعل طائفي إسلامي، عندما دعا محمد فهمي النضوري إلى عقد مؤتمر إسلامي مضاد. وقد دعم رياض باشا هذه الجهود علانية ودعا إلى ضرورة عقد حوار إسلامي-قبطي، ولكن الزعماء في حزبي الوطني والأمة ضغطا عليه من أجل الدعوة للوحدة الوطنية بدلا من ذلك. وقد استغل أحمد لطفي السيد هذه المناسبة لشجب المصطلح الجديد "الأمة القبطية" على صفحات "الجريدة". وكتب في 12 يناير، "نحن فراعنةَ مصر، ونحن عرب مصر ومماليكها وأتراكها. ونحن مصريين."وقد أخذ سلامة موسى، الكاتب الاشتراكي القبطي، هذه الفكرةِ كخطوة للأمام بإصراره على أنّ الحضارةِ المصريةِ هي سليلَ مباشر لتلك الخاصة بمصر القديمة.
وقد برزت أمام الأقباط فرصة عظيمة للمساهمة السياسية الطبيعية مع ثورة 1919 وتأسيس حزب الوفد. وكان سعد زغلول متحمس جدا لرغبة القيادة القبطية في الانضمام للحركة الوطنية، وطَلبَ مِنْ الجالية القبطية تَرشيح ثلاثة أشخاصَ إلى حزبِه. وقد تم ترشيح واصف بطرس غالي وسينوت حنا وجورج خياط. وعندما سُأِلَ حول الدورِ المُتَوَقّعِ من هؤلاء الثلاثة، أجابَ: "الأقباط لديهم نفس الحقوقِ مثل المسلمين. وعليهم نفس الالتزامات أيضاً، وذلك منذ أن كان كُلّ المصريون متساوون." كان ذلك بمثابة دعوةً مفتوحةً للمساهمة حيث أن الأقباط، رجال ونِساء، رَموا بأنفسهم بكل حماس في ثورةِ 1919. ولكن البريطانيون واصلوا اللجوء إلى الحيلة القديمة القائمة على فكرة فرق تَسُد وذلك عن طريق تعيين أحد الأقباط البارزين لرئاسة الوزارة وذلك عشية الزيارة المثيرة للجدل من لجنة ملنر عام 1920. هذا كَانَ يوسف وهبه الذي لم يكن تابع للحركة الوطنية. وقد أدى تعيينه إلى اجتماع أكثر من 2000 شخص في كنيسة المرقصية العظيمة للاحتجاج على هذا التطور. وبينما أمتنع الأقباط عن ارتكاب أعمال عنف ضده، فإن الأقباط لم يفعلوا. فقد واجه وهبه محاولة اغتيال حقيقية على يد القبطي عريان يوسف سعد.
وقد أظهرت نتيجة الوحدةِ الوطنيةِ سالفة الذكر نفسها عن طريق بزوغ رفض قبطي بإدراج السياسة الاشتراكية في الدستور المصري. فقد عقدت بريطانيا لجنة دراسة لصياغة هذه الوثيقة المهمة. لكنها قوطعت من قبل الحزب الوطني وحزب الوفد. فكلاهما أبدى اعتراضا شديدا على إدراج مبدأ التمثيل الديني في الدستور والمحاولة البريطانية لفصل مصر عن السودان. و صعد الوفد حملة قوية ضدّ اللجنةِ، بالإشارة إليه على أنها "لجنة الأشقياء". وكانت اللجنة مكونة من 32 عضوا، منهم 25 مسلم و6 مسيحيين ويهودي واحد. وعندما طرح موضوع التمثيلِ الديني للمناقشة في البرلمانِ، دعمه كل من توفيق دوس وإلياس عواده، مبرهنين على أنه أفضل وسيلة لحماية حقوق الأقلية. وقد أراد كلا النائبين أن يثبتوا أحقيتهم فيما يتعلق بإرجاء هذا النظام من قوانين الجمعية التشريعية لعام 1913. وقد فضل دوس هذه الفكرة خوفا من النقد الغربي ومن إمكانية وجود تشريع تمييزي في المستقبل ضد الأقليات في البرلمان الجديد. وعلى أية حال، فإن الحركة القومية صَعدتْ حملة ضدّ فكرةِ التمثيلِ الديني خارج اجتماعات اللجنةَ. هذا الجُهدِ كَانَ برئاسة عبد الحميد بدوي الذي أدعى، ردَّاً على دوس، أن الاتفاقيات الدوليةِ تجزم فقط على تَأكيد مبدأِ المساواةِ لكُلّ المواطنين، ولَيسَ على التمثيلِ الديني في البرلمانِ. وأشار إلى أنّ أكثر البلدانِ الأوروبيةِ تحضرا تَُصرُّ فقط على التمثيلِ السياسيِ، ولَيسَ تمثيل الأقلّياتَ الدينيةَ، معبرا على أنَّ تقرير دوس بالنسبة لتمثيلِ الأقليةِ سوف يُؤدّي في النهاية إلى تصاعد الضغطِ من جانب الأقلّياتِ الأخرى مثل السوريين واليهود والبدو واليونانيين والأرمن. وهكذا، صَوّتَ عبد الحميد بدوي بالرفضَ العامَّ تجاه تفتيت النظامِ السياسيِ، الذي سَيُشارُ إليه في وقت لاحق من الثمانينات بـ"لبنانية" السياسةِ المصريةِ ، وقال بدوي أن تبني الصيغة الاعترافية سيكون من شأنه فقط تدعيم نظام كرومر، محولا مصر إلى مجموعة من الجنسيات الصغيرة ولكن بدون هوية وطنية موحدة خاصة بها. وقد كان دوس مدعوما، بشكل ملحوظ، من قبل أعضاء اللجنةِ المسلمينِ والقبطيينِ، وكذلك من قبل العضو اليهودي، يوسف قطاوي. وقد تسربت معركة التمثيلِ الديني إلى الصحافةِ الوطنيةِ، يدعمها محمد عزمي ويعارضها القبطي عزيز مرهام. وجاءت الوثيقةُ النهائيةُ لترفض هذا المبدأِ لمصلحة الضمانات الدستورية للحقوقِ السياسيةِ والدينيةِ لكُلّ المصريين. وجاء دستورُ 1923 مشابه للوثيقةِ البلجيكيةِ. ولسوء الحظ، فقد علق الدستور المصري عام 1928 وأبطلَ كلياً أثناء وزارةِ إسماعيل صدقي عام 1930. لكن دستورَ 1923 أُعيدَ أخيراً عام 1935، وذلك حتى تم إبطاله نهائيا بثورة الضباط عام 1952. التعاون الإسلامي- القبطي الشامل استمر في توجيه روح القومية المصرية حتى عام 1944، عندما تم طرد مكرم عبيد، السكرتير العام للوفد، من الحزب.
المرحلة المبكّرة لفترةِ تحرر مصر والتي ناقشناها مسبقا تبين مدى ارتباط الأقباط ليس فقط بالسياسة الديمقراطية، بل أيضا بمبدأ التعددية، الذي يقلص الحاجة إلى الحصص التمثيلية في البرلمانات الحديثة. ومما هو جدير بالملاحظة في هذا السياق أن هذا الارتباط قد تم بينما كانت مؤشرات التعصب تحيط بهم. وهكذا، وضعت الأمة القبطية إيمانها في الالتزام الديمقراطي لرفقائهم من المواطنين المسلمين. ولم تفلح كل من المحاولات البريطانية لكسب الأقباط أو الحكم الخديوي المستبد في منع الأقباط من التمسك بالمبادئ العامة للقومية الديمقراطية. ونحن ممتنون أن النمط اللبناني المتضمن انضمام الأغلبية المسيحية، المارونيون، إلى السلطة الاستعمارية الفرنسية لم يتسرب إلى مصر. وعلى الرغم مِنْ كُلّ جُهود البريطانيينِ في مُزَاوَلَة سياستِهم المألوفةِ،القائمة على مبدأ فرق تَسُد، في مصر، إلا أن الأقباط بقوا مخلصين لفكرة الوحدة والتعاون الوطني. ولم يخدع الأقباط أبدا بفكرة وحدة الرابط الديني مع المستعمر البريطاني. ولهذا السبب، وبرغم أية براهين على عكس ذلك، فإن مستقبل الديمقراطية المصرية يبدو أكثر بهجة من أي شيء آخر قد ينشأ غداً في لبنان.
غادة تلحمي، أستاذ السياسة والمسئولة عن برنامج العلاقات الدولية في كلية "ليك فورست" بالولايات المتحدة. وهي مؤلفة خمسة كتب، ثلاثة منها عن مصر