يهود العراق: من هو المسئول عن الفرهود؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
يهود العراق، ذكريات وشجون، الحلقة (2/8)
بقلم أ. د. شموئيل (سامي) موريه
من هو المسئول عن الفرهود؟
الأيام الأخيرة في محلة حنون صغير في بغداد القديمة
قضيت طفولتي الباكرة في محلة حنون صغير في بغداد القديمة حيث كنا نسكن مع "سِيّدي" (جدي) الحاخام مئير معلم رحمين مؤلف كتاب "مقتطفات من كلام الرب" (بغداد، الحلقة الأولىمطبعة شوحيط، 1936-1939) في سبعة أجزاء باللغة العبرية. وكنت أراه طوال ساعات لا نهاية لها جالسا وهو يؤلف كتابه هذا دون ملل أو تعب، وقد ترك مهنة الصياغة التي اشتهرت بها عائلته ليتجنب الغش الذي يمارسه بعض الصياغ في خلط المعادن الثمينة بالخسيسة، وذلك عن تقوى وحبا في الأمانة وطاعة الرب وليتفرغ لواجباته الدينية في سبيل الدين والعلم، يحقق ويؤلف ويراجع المخطوطات والكتب الضخمة. ولكي يكرس وقته لوجه الله والعلم قامت جدتي "مسعودة" بإدارة مشغل للتطريز المقصيات بخيوط الذهب والفضة تعمل فيه ما لا يقل عن ثلاثين عاملة لإعالة العائلة. ولعل أخي مراد ورث منها موهبته الفنية في الرسم ورثت أنا منه هذه المثابرة على المطالعة وحب الكتب والتأليف.
ومنذ صغري أدركت بأني لا أصلح للتجارة التي كان يمارسها الكثير من يهود العراق. كنت في الثالثة من عمري، عاشقـًا لكحلا ابنة عمتي ريما، ذهب الجميع وبقينا وحدنا في البيت وقد أصابنا الملل. عرضتُ علي ابنة عمتي عرضا لا يمكن ليهودي رده: "تالي (تعالى) انبيع!"، قالت: "ميسيغ (ممنوع) تطلع للدرب لَيْكونْ يضغبك المسلم"، قلت: "وليش يضربني المسلم؟". أجابت: "ألم يحذرك والداك؟" لم آخذ تحذيرها بمأخذ الجد، فتشت عن بعض الملاعق والشوكات والسكاكين الفضية "من شغل العجم"، وهي من مهر والدتي
ربيع 1949 في ملعب مناحيم دانيال في البتاويين
أثناء مباراة بيني (الوجه الظاهر للكاميرا) وبين أحد
طلاب مدرسة شماس الثانوية (ظهره إلى الكاميرا)
وقد فزت بمدالية وزن الديك
الذي دقق والدي في الحصول على كل حاجة شرطها في وثيقة الزواج. فحسب تقاليد اليهود تقدم عائلة العروس الجهاز والمهر للعريس، تصل تكاليفها في بعض الأحيان إلى أن يقضي والد العروس العمر في تسديد ديونه. فتحت الباب بعد أن صعدت على كرسي ووضعت الملاعق الفضية وغيرها على طبق من الصيني. ضحك بعض المارة لصغر سن هذين "التاجرين": "هذولي غير أيهود؟ والله بعد مفقسوا (لم يخرجوا) من البيضي وقيشتغلون بالتجارة!". جاء "ويحد ليبس جراويـّة وزبون": "وِلْكُم هذا شِِنْهَـوْ ؟ هاضا بيش اتبيعونه؟"، قلت: "أبدينار"! حمل لابس الجراوية الطبق وسار في طريقه غير مكترث لصراخي وأنا متشبث بذيل دشداشته: "وين الدينار، وين الفلوس؟"، دفعني ومضى دون أن يجرؤ أحد على اعتراض طريقه. عدت باكيا إلى البيت، قالت كحلا، "مقلتولك لا تطلع للدغب (الدرب)؟". غضب الوالدان، وقالت أمي: "وي غماد! مقلتولك لا تطلع للدغب ليضغبك المسلم؟، الله سوالك نيس! (هذه كرامة من الله)، مليح ما طلع خناق الولاد وذبحك!". وقال الوالد: "قَـتْغيد أخلص خبزك هسّه؟ قلتولك كغة (مرّة) وألف لا تطلع للدغب ابحدك تغا يضغبوك!"، (أتريد أن اقضي عليك الآن! ألم أقل لك ألف مرة ومرة لا تخرج لوحدك، سيضربونك!" علق عمي يونا على الحادث: "هذا أشلون تاجر؟، ما شا الله علينو، من أول غزاته انكسرت عصاته!".
وأدركت منذ ذلك الحين، من تجربتي الأولي الفاشلة في التجارة بأنني لا أصلح لمثل هذه المهنة التي مهر فيها يهود العراق خاصة. ثم جاء الإثبات الثاني على عدم صلاحيتي للتجارة حين قالت لي الست فاطمة في مدرسة السعدون ضاحكة، بعد أن فشلتُ في حلّ مسألة في درس الحساب عندما امتحنتني بالرياضيات: "وِلَكْ انتَ شلون يهودي؟ أشو عجبا إنت ما شاطر بالحساب؟، مو كل اليهود لازمين البنوك والحسابات مال كل الدوائر الحكومية بالعراق والسوق بيدهم وحتى الإسلام يعزلون ويّاكم يوم السبت، هاي شلون ايهودي انت؟". صدقت الست فاطمة هذه المرة أيضا، فقد فشلت في كل صفقة تجارية عقدتها في حياتي، سوى في زواجي الأخير من فتاة فنلنديّة "خايفة رَبْها وغشيمة" مثلي.
وعندما كنت أسافر في كل عطلة صيفية وفي سنوات التفرغ للأبحاث لإنجاز الكتب التي بدأت بتأليفها (سلالة مثل جدّي) التقيت ببعض الأصدقاء ممن كانوا متفوقين في الرياضيات في مدرسة شماش، ووجدت ما شاء الله، أنهم قد أصبحوا من أصحاب الملايين في إنكلترا والولايات المتحدة. ثم يسألونني فيما إذا كنت نازلا في فندق هيلتون أو غيره، فأقول لهم بل في مضافة الجامعة، فيتعجبون قائلين: "ما انت صاير دكتور وبروفيسور! وكشخة وقلابالغ، لَكَنْ أحْسَـنِـلْـنا اشتغلنا بالتجارة! فنحن ننزل في أفخر الفنادق!" وعندما يعلمون بأن عليّ أن أقدم حسابات ووصولات للجامعة ولضريبة الدخل عن كل فلس أصرفه، وخاصة أجرة المواصلات والفنادق وشراء الكتب، قالوا: إذا فألقابك فارغة "ما تْطَعّم خبز". فإذا نسيت طلب الوصولات من سائق تاكسي مثلا، وكثيرا ما أنسى، "فقد راحت عليّ!". أما أحد الأساتذة "الشطار" فقد كان يذهب إلى محطات القطار والباصات ليفتش عن بطاقات سفر مهملة فيأخذها ويضيفها إلى قائمة المصاريف لكي لا تطلب منه ضريبة الدخل أعادة بقية المنحة.
***
بدأت العلاقات بين اليهود والمسلمين تتأزم يوما بعد يوم بعد أن أخذت أسماء مثل هتلر وموسليني والنازية والمحور والحلفاء والفتوة وكتائب الشباب، تتردد في نشرات الأخبار والصحف وفي حديث الكبار، وأخذت العلاقات الحميمة التي كانت تربطنا بجيراننا من المسلمين والمسيحيين تصاب بالبرودة والفتور ثم تتفاقم فتصبح عدائية وعنيفة أحيانًا.
خرجت أختي كلادس فرحة بثوب الدانتيلا الذهبي في يوم عيد رأس السنة العبرية "لتكشخ" (تفتخر) أمام جدتنا بثوبها الجديد الذهبي الزاهي، أمسكت بها "مْسِلمييّ كبيغي" (بالغة) حسدًا ومزقت ثوبها قائلة: "إي بنت السبت، اشو روحي عيدي، دنشوفك!" ورجعت باكية محمرة العينين وقد أصابها الهلع: "المسلمييّ شقتا الدغييتي (مزقت ثوبي) الجديدي!".
يتبع
تنبيه: هذه الذكريات كُتبت خصيصا لكي تنشر في إيلاف، الرجاء لكل من تستهويه رغبة إعادة نشرها، ذكر المصدر إيلاف احتراما لحقوق النشر المعمولة في العالم.