تاريخٌ تركيّ، بلا عِبْرة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
" إنّ الشعب التركي هو النموذج اللا إنساني الأكبر للإنسانية، ويجب على العالم المتمدّن أن يطرحه مع أسلحته وأمتعته خارج أوروبة " : هكذا كان تصريحُ غلادستون، الوزير البريطاني، عشيّة قمع العثمانيين، الفائق الوحشية، لثورة البلقان، العارمة، المندلعة في عام 1876 ( من كتاب : السلطان عبد الحميد الثاني وفلسطين، لرفيق شاكر النتشة ـ القاهرة 1990، الصفحة 52 ). يقيناً، إنّ هذا التصريحَ، الشديد اللهجة، كان سيَصمُ صاحبه بالعنصرية، لو قدّر له أن يصدرَ في أيامنا هذه عن مسؤول غربيّ، مهما كان سببه الموجب. وبالمقابل نقولُ، كم هيَ متشابهة ـ ومتطابقة في الواقع ـ تلك الظروف السياسية، الناشئة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، مع مثيلتها في زمننا الحاضر، الموافق لمستهلّ القرن الحادي والعشرين : فقمع الحكومة التركية لملة الكرد، اللا إنساني، بلغ طوال العشرين عاماً، الفائتة، حداً قصياً ما عاد له من مثيل، سوى في عهد جارهم البائد، صدّام حسين. لم يتبدّل شيءٌ إذاً في " النموذج التركيّ " ذاكَ، الموصوف آنفاً ؛ وما كانَ يجوز له تبديلا ! فأسلاف العثمانيين هؤلاء، وبالرغم من حقيقة أنهم الآن في أوج ضعفهم وإهتراء دورهم الإقليمي ( والإستراتيجي خصوصاً، بزوال الخطر السوفياتي، السابق ) ما فتئوا على إعتدادهم، المرضي، بأنفسهم ؛ بعرقهم النقي ـ كذا، حتى وهم يستجدون على أبواب أوروبة، التي سبق أن طردوا منها بأسلحتهم وأمتعتهم.
ما أفدحَ قحّة أردوغان، رئيس الوزراء التركي، وهو يتلو التصريح تلوَ الآخر، عن موجبات تدخل عسكره في العراق، لوقف ما دأبَ على وصفه : " التغيير الديموغرافي لمدينة كركوك، الذي يقوم به الكرد على حساب الأكثرية التركمانية ". لن نسألَ هنا دولة الوزير الأول، عن الطبيعة الديموغرافية لمدن كبرى، مليونية، متركنة على خارطة ما يُسمى بـ " جنوب شرق تركية " ـ كديار بكر، مثلاً، وما إذا جرى " تكريدها " أيضاً.. ولن نسأل دولته كذلك، عما إذا كان كرد العراق، المُحْدِقون بمدينة النفط تلك، همُ من نفس جنس " أتراكه الجبليين "، أم لا : فغنيّ عن التأكيد، على أيّ حال، أنّ البارزاني الأب، كان في عام 1974 الميلادية، قد أعلن ثورته على النظام البعثي التكريتي، من أجل مدينة كركوك، بالذات. أم أنّ تلك كانت ثورة تركمانية، وقائدها كان أباً للترك ( أتاتورك ! ) وليس أبَ مسعود البارزاني ؛ رئيس إقليم كردستان ؟؟ أم أنّ أهل مدينة " حلبجة "، كانوا ما يزالون على " الهوية العثمانية " حينما نحروا بالسلاح الكيماوي.. وكذا الأمر بالنسبة لضحايا " الأنفال "، المائة وثمانين ألفاً.. ؟؟ يقيناً، لو أنّ تركية دولة تحترم بحق نفسها ( ولا نقول : سمعتها ! )، لكان حرياً بحكومتها وبرلمانها وصحافتها وجنرالاتها و.. أن يبادروا على الفور للتحقيق في تلك المعلومات، الأكثر من خطرة، والتي تمّ تسريبها من محاكمة الأنفال، عن التعاون التركي ـ العراقي، الموثق، في تلك الجرائم ضد الإنسانية ( الجينوسايد ) في منتصف ثمانينات القرن المنصرم. أم أنّ الحال، وقتئذٍ، كان واحداً : حوالي خمسة آلاف قرية، وعشرات البلدات والقصبات، المحروقة عن بكرة بشرها، في الجانب العراقي من كردستان ؛ يقابلها العدد نفسه، تقريباً، على الجانب التركي من البلاد ذاتها، المنكوبة بشعب غيرَ مرغوب به من لدن سدَنة البعثية والطورانية، على السواء.. ؟؟
قضمَت الدولة الكمالية، عام 1939، لواء إسكندرون، السوري، وألحقته بخريطتها منذئذٍ، مستعينة بقوتها العسكرية ومتحدية ً الإحصاء السكاني الذي كان قد سبق لعصبة الأمم، وقتذاك، أن أجرته في عموم اللواء : كانت نسبة الترك، بحسب أرقام اللجنة الدولية القائمة على الإحصاء، لا تتجاوز 9 % من السكان ! نفس الواقعة، كما هوَ معروف، كررها العسكر التركي في جزيرة قبرص، عام 1974، حينما إجتاحها بشكل فظ، بحجة حماية " مواطنيه " هناك. لقد تمّ الإستيلاء على أكثر من نصف أراضي الجزيرة تلك، اليونانية، لخاطر ما زعم أنه حماية " الأغلبية التركية " في شمالها، والتي لم تتجاوز نفوسها عامئذٍ العشرين بالمائة من السكان !.. تلك الواقعة، الأولى، التي هُضمَ فيها الحق العربي، أضحتْ ملكاً للتاريخ. ولكنها، على كل حال، تحيلنا إلى تبجحات السلالة الكمالية، الحالية، عن حقوق " الغالبية التركمانية " في كركوك، وغيرها من المدن الكردستانية : فاللعبة ذاتها، يتعيّن على الحكومة التركية القيام بها في العراق، ما دامت قوتها العسكرية، الضاربة، قد حُشدت هناك على الحدود الشمالية، منذ لحظة سقوط الطاغية التكريتي. إنها لعبة، ما عادتْ تأبه بأسطورة " الغالبية التركمانية "، التي كانت إلى الأمس القريب تقدّر تعداد نفوسها، بنفسها، بثلاثة أربعة ملايين : إذ تجلت الأرقام الحقيقية في إنتخاب البرلمان العراقي، لما فاز " ممثلو " هذه الملة نفسها بمقعد واحد وحيدٍ، شبيهٍ بالصفر الرنان !.. هؤلاء الأخيرون، وقد عاينوا بحنق تبدد أوهامهم وإختلاقاتهم، ما عاد لهم من شاغل غير التغني بالدولة العراقية، المركزية : عجباً من منطقهم، وهمُ الممثلون المفترضون لمجموعة عرقية، عانت ما عاناه غيرها من أقليات العراق تحت سلطة الدولة القومية الواحدة ( العروبية )، ثمّ لا تجدُ حرجاً من المطالبة بعودة السلطة ذاتها، بإسمها ورسمها وعلمها.. وصدّامها ربما !؟
الدولة الكمالية، كما ذكرنا، سلبَتْ لواءنا، السوريّ ؛ إسكندرون. والنظام الأسدي، في عهد الوريث الجمهوري، قد إعتبَرَ هذه المسألة، الوطنية، سلعة للمساومة مع حكومة أنقرة. فما كان من نظامنا هذا سوى التنازل بطيبة خاطر عن الحق التاريخي باللواء، لقاءَ تعهد تلك الحكومة بالعمل على فك عزلته الدولية، خصوصاً بعيدَ قضية إغتيال الرئيس الحريري. فتمّ هكذا تغيير خارطة الجمهورية العربية السورية، رسمياً، لحذف تلك البقعة السليبة، أبداً، من حدودها. وبالمقابل، فإنّ مطالبة مواطن ما، كرديّ، بحقوق المواطنة في سورية ؛ مجرّد مطالبة، كافية لرميه وراء القضبان، ومن ثمّ تقديمه لمحكمة أمن الدولة، بهذه التهمة : " العمل على إجتزاء قسم من الأراضي السورية وإلحاقها بدولة اخرى ".. !! ولا أشنعَ من هذه وتلك، سوى قيام الأسد الإبن بتحريض الأتراك على التدخل السافر في شؤون جيرانهم، الداخلية، تتمة للسياسة الطائشة، إياها، المبتدئة منذ عهد الأب، الراحل، بما كان يُسمى " الإجتماع الدوري للدول المجاورة للعراق "، والمتحجج بالحرص على سلامته ووحدة أراضيه. ربما يتناسى حاكمُ الشام، الحالي، حقيقة أنّ المهدد الأساس لوحدة العراق، الجغرافية، ما هوَ سوى الجار التركي ذاك، المدجج بالسلاح حتى قمة رأسه ؛ الجار العدواني، التوسعي، المافتيء يستعيدُ رويداً وقطعة وراء الاخرى، أراضي خلافته العثمانية، الهمايونية، المنقرضة ـ كما جرى سابقاً لإسكندرون وقبرص، وكما يعدّ حالياً لكركوك وغيرها. لا عبْرَة لدينا أيضاً، من ذاكَ التاريخ التركيّ. فعروبيو العراق، الذين إتشحوا منذ سقوط الصنم البعثيّ براية السنية السياسية، وقبلوا مبدأ العملية الديمقراطية فضلاً عن نتائج الإستفتاء على الدستور ـ على الأقل، فيما يخصّ مسألة الفيدرالية لإقليم كردستان ؛ هؤلاء أنفسهم، يتمّ تحريضهم الآن من لدن منافقي أنقرة، الإسلامويين، للنكوص بمواقفهم تلك ومحاولة تخريب البلد. على أنّ المصالح السياسية، ستكون دوماً فوق مشاعر الأخوة الإسلامية أو القومية، المزعومة : كما يُعلّمنا التاريخ من شهر العسل التركي مع إسرائيل، والمتواصل منذ تأسيسها. وهذا ما يُنتظر من حماسة حكومة الباب العالي، الحالية، المنافِحَة زوراً عن التركمان، وهيَ التي تجاهلتهم طوال عقودٍ طويلة من الأعوام، لقاء العقود التجارية والإقتصادية مع النظام البعثي السابق ؛ والتي لن تلبث أيضاً أن تعيدَ سلوكها نفسه معهم، ما أن تحصل مجدداً على وعد الدخول للإتحاد الأوروبي.