ما الذي يمنع الديموقراطية في الوطن العربي؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
في سوسيولوجيا الأسباب العميقة ثقافة ومجتمعا واقتصادا
تدعوني جامعة جنيف (تحديدا الأستاذين جان زجلر وجان إريك لانيه) سنويا لإلقاء محاضرات عن العالم العربي، عن إيديولوجياته المعاصرة، وعن الحركات الإسلامية، خطابا وسلوكا وعن حال الديموقراطية العربية. وكنت دائما انتهج مع الطلبة السويسريين وبعضهم القليل أوروبي أو حتى من العالم الثالث أسلوب تشريكهم في عملية التفكير حتى تصبح عملية جماعية وليست عملية فردية تنحصر في "عالم" يخطب أمام "جهلة"! كما هو الحال في أغلب الجامعات العربية! وأطرف سؤال كنت أطرحه عليهم هو ما الذي يمنع الديموقراطية في الوطن العربي؟ وكانت إجابتهم متعددة لكنها تتلخص في عوائق ثلاثة تقريبا: وهي غياب مجتمع مدني أو ضعفه، التخلف الاقتصادي، ثم الدين. وحقيقة أشهد أن لا أحد قال الإسلام ولكن اُستخدم فقط تعبير الدين وذلك باستذكار التجربة المريرة التي عاشتها الديموقراطية الغربية مع الكنيسة. كنت آخذ هذه الإجابات الثلاثة على محمل الجد وأحاول أن أعيد صياغتها باستخدام مفاهيم ونظريات العلوم السياسية. ثم اقسم المحاضرة إلى مجموعة أسباب: هي الأسباب الثقافية، أي ضعف الثقافة السياسية. ولا استخدم هنا هذا المفهوم بمعناه الأنتروبولوجي الواسع ولكن فقط بمعناه السياسي المحدود. ثم الأسباب الاقتصادية وأهمها عامل الضرائب الذي يعد المدخل المباشر والأساسي في عملية المشاركة السياسية. وكذلك طبيعة الدولة العربية الريعية غير الإنتاجية والمعتمدة على القطاع العام. وأيضا الأسباب الخارجية وأهما عدم تحمس القوى النافذة في الغرب لعملية دمقرطة كاملة في الوطن العربي.
أنبه منذ البداية إلى أن هذا المقال سوسيولوجي لذلك لن يعترف بالمقاربة الدستورانية القانونية. فهو سيتجاهلها ويعتبر أن أغلب الدساتير العربية، خاصة الجمهورية منها شديدة الديموقراطية وعادة ما تتشبه بالدستور الفرنسي أو السويسري، لكنه لا يكترث بمضمونها. يجب أن يعترف علماء القانون العام العرب بلاإجرائية مقارباتهم الدستورانية النصية وعليهم أن يتركوا المهمة لعلماء السياسة والاجتماع الذين لن يرو في هذه الدساتير سوى حجم التناقض المرعب بين الخطاب والممارسة في حياتنا السياسية.
عوائق الديموقراطية
لماذا لا تحل الديموقراطية في الوطن العربي مثل غيره من البلدان التى انتمت حديثا إلى هذه التجربة ونجحت فيها خصوصا في أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية حيث يعد أغلب بلدان هذه الأخيرة أقل نموا وتقدما من المجتمعات العربية؟ بل حتى السنغال البلد الإفريقي المسلم المتخلف اقتصاديا نجح في عملية الدمقرطة بشكل كامل.
الإجابة الأولى الشائعة، لكن دون أن تكون علمية، تعتمد مقولة حاكم قوي مستبد وشعب مغلوب على أمره. هذه المقولة صحيحة، لكنها تصف ولاتحلل، تحمل المسؤولية لطرف ولكنها لا تبحث في آلية الاستبداد، في أسبابها العميقة البنيوية الموضوعية المستقلة عن إرادة الأفراد. لا أحاول في هذا المقال أن أقدم إجابة لإشكالية حضارية يلزمها الكثير من البحث الجماعي المؤسساتي المختص. ولكني أحوصل بعض الأفكار آلتى يمكن أن تكون مجموعة فرضيات قابلة للتعميق، للبحث وللحفر المعرفي.
كيف يمكنني أن أبرئ الأنظمة السياسية العربية من كونها غير مسؤولة كلية عن الاستبداد لأنه مستقل عنها. أقدم الرأي التالي: يخترق الوطن العربي أنظمة شديدة التنوع والاختلاف الأيديولوجي والعقائدي، حيث نجد فيها الملكي والجمهوري والجماهيري، كذلك نرصد الاشتراكي، الوحدوي أو الرأسمالي، الإقليمى، أو الديني وشبه اللائيكي... يوجد اختلاف عميق. لكن في المقابل تتفق هذه الأنظمة جميعا على تجاهل الديموقراطية وانتهاج التسلط الدائم والمنظم. وهي تتميز، وهذا الأهم سوسيولوجيا، بأن القيادة السياسية العليا لا تتداول ألا من خلال القوة والعنف الثوري أو الانقلابي. الاستثناء الوحيد ينحصر في لبنان والجزائر حيث يتغير رئيس الدولة باستمرار لأسباب موضوعية تبشر بإمكانية التقدم الإيجابى. هذا التنوع الشديد الذي يقابله اتفاق كامل على اختيار النهج التسلطي يجعل من غياب الديموقراطية قضية موضوعية بنيوية وليست مجرد حكم قيمي يمس الأشخاص حتى وأن كانوا حكاما. ليس الحكام هم السبب الحقيقي في منع الديموقراطية وإنما المجتمع وتحديدا ثقافته السياسية هما المسؤولان. أعطي مثالا أوضح به معنى الثقافة السياسية. قائد الجيش الفرنسي يعطي أوامره لمساعديه بأن يعتقلوا رئيس الدولة جاك شيراك وتحتل قواتهم مباني الإذاعة والتلفزيون ويذيعون البيان الأول. فما الذى سيحدث؟ قطعا، سيعتقد الضباط بأن قائدهم اختلت مداركه العقلية وسيوقفونه عن العمل رغم كونه قائدهم المباشر. أن تصرفهم هذا يعكس الثقافة السياسية لكل فئات الشعب الفرنسي. مثال آخر، الرئيس جاك شيراك يطلب من أعوانه المخلصين أن يكون رئيسا لفرنسا مدى الحياة. لن يستمع إليه أحد. وسينحى عن السلطة قبل أن يبدأ في اتصالاته لتنفيذ مؤامرته. ما الذى يمنعه؟ الثقافة السياسية آلتى ترى في الديموقراطية ومبدأ التداول على السلطة ركيزة مقدسة للمجتمع والدولة.
عدم الحماس للمشروع الديموقراطي العربي
في الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط أرصد ما يلي: لم تنزل مظاهرة شعبية ولا حتى نخبوية واحدة تطالب بالديموقراطية. الشارع العربي تحركه فلسطين، الوحدة العربية في الستينات، العراق اليوم، مظاهرات الخبز آلتى استمات في الدفاع عن حقه في ضرورة مواصلة دعم الدولة للسلع التموين الأساسية: مصر 1977، تونس 1984، المغرب 1984، الجزائر 1988، الأردن 1997...لكن هذا الشارع نفسه الذى أثبت عديد المرات جرأته وأقدامه وعدم خوفه من الردع الأمني وتحديه السافر لنظام بلاده لم يتظاهر من أجل الديموقراطية وضرورة تنفيذها فورا. لا يوجد أذن وعي سياسي يدرك أن الديموقراطية كانت ومازالت وستظل مطلبا جذريا مشروعا. النخبة السياسية العربية ومفكريها لم تهتم بمسألة الديموقراطية بقدر ما اهتمت بضرورة الثورة.
ويتوضح ضعف الحماس للديموقراطية أيضا في الخطاب السياسي الأيديولوجي العربي. إن تحليل الخطاب السياسي العربي يحيلنا إلى مستوى الأفكار ويبعدنا عن الممارسة. لو رصدنا هذا الخطاب في القرن التاسع عشر لوجدناه يطمح بشدة الى تحول مجتمعاته نحو الديموقراطية. كان رفاعة رافع الطهطاوي، عبد الرحمان الكواكبي، خير الدين التونسي وأحمد بن أبي الضياف وآخرون غيرهم ممن عاصروهم في عصر النهضة يبحثون عن الحل للنهوض بالشرق المستبد، وبمجرد ما التقوا بالغرب، أو أوروبا أو فرنسا تحديدا تفطنوا إلى سر التقدم في عالم الآخر. وتأكدوا من حجم التخلف المفزع الذى تعيشه البلاد العربية. لكن المشكل أن هذا الاخر المتقدم الديموقراطي استعمر أراضيهم وتحكم في شعوبهم مما أحدث أزمة ثقة فيه وما عاد يمثل نموذجا يمكن تقليده. انتقل الخطاب السياسي العربي من مفهوم الإصلاح/النهضة إلى الثورة والانقلاب في القرن العشرين. كانت النخبة معادية بشكل عام للغرب الاستعماري الذى أصبح إمبرياليا. وكانت متلهفة إلى تحديث شامل لمجتمعاتها في زمن قياسي، فاختارت أسلوب الثورة أو الانقلاب على حد تعبير الأدبيات البعثية من أجل أحداث تحول جذري. مميزات هذا الخطاب أنه معاد بشكل عام للغرب ومن ثمة فهو يحتقر آلياته ومؤسساته ومناهج حكمه. يمكن تصنيف هذا الخطاب إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية : القومي العربي بتفرعاته الناصرية، البعثية بشقيها السوري والعراقي. الخطاب الماركسي العربي بمدارسه المختلفة (ماوي، تروتسكي، نهج سوفياتي، وحتى الباني!..). الخطابي الديني السياسي (من أخوان مسلمون، حزب تحرير إسلامى، الجماعات الإسلامية...إلى الإسلام الجديد بالمغرب العربي). تلتقي هذه الخطابات في نقطتين حاسمتين. أولا: معاداتها للغرب، فهي لا يمكنها استعارة آلياته، لأنه عدو وليس نموذجا للتقليد. وتستنفر لأجل ذلك الروح الوطنية السائدة المتبنية أصلا لهذا الخطاب. ثانيا: النفي والاقصاء المتبادل فيما بينها على المستوى الثلاثي أي اتجاهات عامة، وفي داخل كل اسرة فكرية.
المشروع الديموقراطي لدى القوميين
القوميون العرب يرون في الماركسين، سياسيا: عملاءا لموسكو الشيوعية، فكريا: موردي أفكارا أجنبية لاتنسجم مع حقيقة مجتمعاتهم ثم هم في نهاية المطاف أقليميين متحمسين لمثالية أممية وهمية على حساب قضايا أمتهم. في الممارسة عانى الشيوعيين من الاضطهاد البعثي والناصري على حد سواء. نفس الأحكام والعداوة مارستها القومية العربية ضد الإسلام السياسي. فهو رجعي، عميل لأكثر الدول العربية تخلفا وتقليدية ويخدم مصالح الغرب الإمبريالى بوعي منه أو بدون وعي. كما يعرقل عمليات التحديث الحاصلة متعلقا بأوهام الماضي البعيدة. واضطهد هذا التيار سياسيا: اعتقالات، ومحاكمات وأعدامات فردية أو جماعية. لم يفكر الخطاب القومي في تشريك خصومه في مشروعه الإستراتيجى الضخم وكأن الوحدة العربية لا تعني أحدا غيره.
دكتاتورية الماركسيين
مارست الماركسية العربية أصولية وتطرفا خاصين بها. فسرت فكريا المجتمعات العربية وتطورها بلغة لا تتحدث ألا عن "التحليل العلمي"، بينما كانت في الواقع تعديا منهجيا سافرا على المجتمعات العربية. تحدثت طويلا عن طبقة بروليتارية عربية ثورية كطليعة في التغيير الثوري الذى لم يتم، لأن هذه الطبقة وهم لم يوجد ألا في مخيلة الألنتلجنسيا الماركسية ذات الأصول البرجوازية! حقيقة، لا توجد طبقة عمالية في الوطن العربي، بل هناك عمال. فمفهوم الطبقة يستدعي الوعي بالانتماء. أما مفهموم العامل، فهو تقسيم مهني اجتماعي. لأذكر أن العمال العرب فتنهم الخطاب القومي العربي أو الديني الإسلامى أكثر من أي خطاب طبقي، أو هم في بعض الأحيان يعملون لصالح أجهزة أمن بلدانهم ضد حركات الأنتلنجنسيا الثائرة: مثال الحركات الطلابية، أو هم ثائرون ضد الترفيع في أسعارالسلع التموينية الأساسية، وهم في نهاية المطاف تقليديون وشديدو الارتباط بالأفكار التقليدية ومتدينون مخلصون.
فكريا: يعد الخطاب الماركسي غزير الانتاج. لكنه منبت، مغترب، يعيش على أوهام حركات اجتماعية لم توجد عمليا. ويعامل الآخرين بنوع من التعالي، اعتقادا في علميته، ويواجههم بمجموعة من الأحكام القيمية الجاهزة. فالقومية العربية فكر عنصري، شوفيني، برجوازي، قد يشبه بالنازية والفاشية. أما الحركات الإسلامية فهي رجعية، ضلامية، قروسطية مشتركة في مؤامرة إمبريالية أمريكية...في نهاية المطاف، تهدف الماركسية من خلال دولة دكتاتورية البروليتاريا نظريا، أو دكتاتورية الأنتلجنسيا إجرائيا، إلى التخلص من الطبقات من خلال العنف الثوري. ويعني ذلك التخلص من كل معارضة قومية أو إسلامية. لا يوجد تفكير في ضرورة تشريك الآخر، في ضرورة التداول على السلطة...في الديموقراطية و التعددية السياسية.
تكفيرية الخطاب الديني
صحيح، أن الحركات الإسلامية في الوطن العربي تعرضت لأكثر أنواع الاضطهاد السياسي كما ونوعا. لكنها في المقابل تتميز بأكثر الخطابات نفيا للآخر، وأكثرها عنفا في رفضه، واستعدادا في القضاء عليه بتهم لاتاريخية من نوع الردة والكفر. فالحاكمية لله و ليس للبشر. ومن ثمة يصبح الإقصاء نسقيا. هذا الخطاب، في شقه الأكثر أرثوذكسية، يتميز بلاتاريخيته، بقطيعة كاملة مع المرحلة العقلانية المعتزلية، الرشدية...هو امتداد لتحالف نظام الملك السلجوقي مع مدرسة الغزالي الفقهية، امتداد لابن تيمية: ارتبط بعصر الانحطاط، المتميز بالانكماش، والخوف من فكر الآخر. الخوف من العقل لأنه يهدد النقل. اليوم، يمارس إقصائية مرعبة فكريا وحتى عمليا حينما تتاح له فرصة السيطرة على فضاءات محدودة كالجامعات والمبيتات الطلابية مثلا. أخطر ما في هذا الإقصاء هو الاختزال والتكفير واستغلال لأرض خصبة مواتية شعبيا لأسباب متعددة، من أجل مواجهة الآخر. فالقومي: شيوعي متخف، والشيوعي كافر ملحد. والليبيرالي عميل للغرب خائن لمجتمعه وتقاليده وعاداته... لا ينظر إلى المضامين الاجتماعية والوطنية الإيجابية في هذه الأفكار. هناك اختزال وتسطيح نسقي يؤديا إلى رفض الآخر واتهامه بأبشع التهم. والديموقراطية وسيلة وليست غاية. نجد ذلك في خطاباتهم وممارساتهم. ويتعقد الوضع ببروز مرجعيات دينية منغلقة وتسليم العقل إلى شيوخ يفكرون نيابة عنا. ويبرز الشيخ المفتي كنموذج صارخ في احتكار عملية إصدارالقانون من قبل فرد وتجاوز بقية المواطنين الآخرين. فالفتوى لأنها لا تصدر عن مؤسسات منتخبة مثل البرلمان فهي عملية تسلط فردي على الآخرين. فمن أعطى لهذا الفرد الحق في إصدار الفتاوي، من رشحه، من انتخبه لمثل هذه المهمة؟؟؟
غياب الليبيراليين
الخطاب الليبيرالي العربي سقط أيضا في فخ الإقصاء والتحقير للآخر. فالقومي عنده أصبح قومجي، والإسلامي ظلامي والماركسي دكتاتوري توتاليتاري. هذا الخطاب لم يستطع أن يبلور نفسه ويقدم أطروحة واضحة بمعزل عن نفيه للآخر وإقصائه. كان الأولى بهذا الخطاب أن يردد مع مونتسكو قولته "إنني اختلف معك في الرأي ولكني أقاتل حتى الموت من أجل أن يكون لك الحق في إبداء رأيك". عوض أن يتصدى الخطاب الليبيرالي العربي لمهمة نشر الديموقراطية والدعوة لعقد اجتماعي يحترم فيه الجميع بادر بالتحقير ونفي الآخر دون أن يقدم له بديلا واضحا لأنه أراد نقل تجربة غربية دون نقدها، تمحيصها وغربلتها. لم يهتم بواقعة تاريخية تفيد بأن الأنظمة الغربية الليبيرالية مارست الديموقراطية في بلدانها ولكنها مارست استعمارا بشعا في الآراضي العربية. قتلت فرنسا أكثر من مليون ونصف جزائري أثناء احتلالها. كما ساندت هذه الدول الأنظمة الاستبدادية العربية. ولم يتخلص الخطاب الليبرالي العريي من تبعيته المفرطة للتجارب الأم. لم يستطع نقدها وتجاوزها والبحث عن عملية توفيق بين التربة العربية الإسلامية وبين التجربة الغربية التاريخية. اكتفى بتحقير شرائح واسعة من المجتمع... لذلك من الممكن التأكيد بعدم بروز كثيف لحركات ليبرالية ديموقراطية في الوطن العربي؟ وعلى المستوى الاقتصادي، نرصد وجود رأسمالية هجينة، بشعة، قمعية، لا ترى في الليبيرالية إلا وجهها الاقتصادي، فتستلمه وتشوهه. لا توجد رأسمالية عربية تنافسية تحترم السوق وقوانينه. هناك مافيا، وفساد في علاقة القطاع العام بالقطاع الخاص. فالثاني يرشي الأول ويفسده من أجل الخروج من قوانين السوق نحو الزبونية، الاحتكار، التحكم في السوق بمنطق غير رأسمالي. عمليا هذه الرأسمالية تمارس السلطة اليوم. ولا تعتمد إلا على أجهزة الردع أو القمع المتطورة. تعادي الديموقراطية وكل من يهدد مصالحها الاحتكارية وليست الرأسمالية.
من سيناضل من أجل الديموقراطية إذن؟
من سيحمل قضية الديموقراطية في الوطن العربي إذن؟ كيف ستدمقرط مجتمعاتنا دون وجود هذه القوة، هذا الخطاب المؤمن شديد الإيمان بأن الآخر اختلف معه في كل برامجي ولكني اتفق معه في حقه أن يكون له مكانا تحت الشمس، في الوجود، في التعبير، في نسبيتنا جميعا. أو ليست النسبية أهم قوانين الاكتشاف العلمي الحديث؟. بكل تأكيد الحقيقة المطلقة وهم. والاختلاف لا يعرقل ولكنه يثري بشرط أن يتم من خلال قنوات سلمية، من خلال عقد اجتماعي. من خلال إيمان عنيد، راسخ وقوي، بأن السلطة يجب أن تتداول، لا تورث، لا تنتزع بالقوة ولا حتى بالثورة، وإنما فقط من خلال صناديق الانتخاب. كل القوى السياسية العربية تحمل في ذواتها مشروعا توتاليتاريا، كليانيا، تصورا أحاديا لا يعترف بالغير.
الباطنية السياسية أو التقية!
عائق آخر واجه الديموقراطية في الوطن العربي، يسمى في العلوم السياسية "السلوك السياسي". فبماذا يتصف السلوك السياسي العربي؟ باطنية أو تقية: يلخصه من قال : قلبي مع علي وسيفي مع معاوية. بمعنى مصلحتي اليومية مالية وأمنية في الانسجام مع نظام الحكم، في التهليل له نهارا، في تأييده علنا... لكن ليلا أمام التلفزيون، مع الزوجة والأولاد، أنقد النظام وأتجرأ عليه وأريح ضميري وأنسجم مع مبادئي وقناعاتي. هذا السلوك طغى على السلوك السياسي في الإسلام: استنبطه الشيعة تفاديا لاضطهادهم من قبل السنة، لكنه أصبح سلوك الجميع: سنة وشيعة وخوارج. الخوف، التقية: أضهار عكس ما يضمره القلب. لإنجاز ديموقراطية، لا بد من التخلي عن إرث قرون طويلة من الزمن: إرث سيكولوجي، اجتماعي. دخل هجينا ثم تقنن وأصبح مؤسسا صامدا: لا بد من خلخلته.
مشكلة الديموقراطية لا تنحصر في تسلط الدولة فقط. أنها تبدأ مع الأسرة، أسلوب معاملة الطفل، بناء شخصيته تتم من خلال العنف والقمع. في المدرسة يتواصل نفس الأسلوب، ليصبح ذلك الطفل ذات يوم شرطيا عقيدته العنف والقمع هما ركائز النظام. كما كان الحال في الأسرة وفي المدرسة يستمر في المجتمع. دائرة عبثية مغلقة: العنف فيها يولد العنف.
العامل الاقتصادي
الدولة الريعية، نسبة إلى النفط، كما الدولة الأبوية التى اعتبرت نفسها مسؤولة على "الشعب القاصر"، على تطوره، تغذيته، تعليمه...اعتقدت في وهم تفوقها على المجتمع. منفصلة عنه : كأنها جاءت من كون آخر، تعتقد أنها تقدم هبات إلى الشعب، أنها تساعده، تمنحه. نسيت أن دورها ينحصر في التنظيم وأنها في النهاية ممولة من هذا الشعب. المواطن ينفق على الدولة وليس العكس. هو سيدها وهي خادمته. النفط العربي أعاق الديموقراطية، لأنه ريعي، تملكه الأسرة الحاكمة بمعنى ملكي أو حتى "جمهوري"، تتحكم في توزيعه وتمارس الكرم على المخلصين من الرعية. فتخلق علاقات زبونية تعتمد على الولاء وليس على العقد. الولاء مطلقا يخضع الى ثنائية الطاعة أو الردع، أما العقد فهو اختياري متجدد مبني على الرضى التام وقابل للإلغاء والتجديد. الدولة العربية مستقلة عن المجتمع، نادرا ما كانت مصادر تمويلها الضرائب. فقد استولت على الثروات الباطنية لتبيعها خاما حتى تمول نفسها. وقامت، بنفسها، بإنشاء مشاريعها الصناعية وحتى الفلاحية والخدماتية لتحافظ على استقلاليتها وتفوقها على المجتمع وسيطرتها عليه. لماذا تحافظ الدولة العربية "الرأسمالية" على القطاع العام وتتشبث به: لمراقبة المجتمع والسيطرة عليه لأنها لا تثق في دافعي الضرائب. المواطن، دافع الضرائب، يمكنه مراقبة دولته ومحاسبتها ومساءلتها عن مصير ما يدفعه من ضرائب.
العائق الخارجي
تعيق "الدول الديموقراطية" الديموقراطية حينما يتعلق الأمر بتحقيقها في الوطن العربي. تنسجم في ذلك مع مصالحها الاقتصادية والإستراتيجية. اقتصاديا، تجد نفسها أكثر قوة وأقدر مناورة على إبرام اتفاقيات لصالحها. لأن المفاوض المقابل يعيش الخوف من إمكانية ازاحته شعبيا أو انقلابيا، فيطلب مساعدة "الدول الكبرى" حتى يستمر. تساعده لأنه يدفع ثمنا اقتصاديا باهضا مقابل الحماية السياسية، العسكرية والأمنية آلتى توفرها له. مفاوض يمثل دولة ديموقراطية، تنتخب حكومتها انتخابا حرا مباشرا يصبح أكثر قوة في حماية مصالح بلاده. تستغل الديموقراطيات الغربية هذه الثغرة أحسن استغلال لفائدتها. ولأن علاقتها التاريخية مع بلدان الوطن العربي هي علاقة صراع ومقاومة، فأنها تدرك أن ديموقراطية نزيهة في هذا الوطن ستصعد حكومات مقاومة لاستغلالها، متصدية لنفوذها... هنا يكمن خطر الديموقراطية العربية على المصالح الغربية. لهذا تحبذ استمرار حالة البؤس السياسي، السلوك الباطني، الخلل الفاضح بين الخطاب والممارسة. لكن تبقى في الغرب قوى هامة يمكنها ان تساعد على تحقيق الديموقراطية في الوطن العربي. توجد قوى حية مخلصة في منظمات حقوق الإنسان، في الجامعات ولدى الأنتلجنسيا الغربية تقبل وتساعد على دمقرطة المجتمعات العربية وتقبل بجار قوي موحد ديموقراطي يؤدي دوره الحضاري إيجابيا.
أختم، لأقول بضرورة إعادة ترتيب الأولويات. الديموقراطية أولا: وحتى لا تصبح مفهوما غامضا أفصلها أكثر: تعددية حزبية، اعتراف كل واحد بالآخر وتعايش سلمي معه. التداول على السلطة، لا يمكن لأي حاكم عربي أن يتجاوز عددا معينا من السنوات حتى ولو كان معبود الجماهير. الخطاب السياسي العربي مطالب بتجديد نفسه، من التخلص من أخطائه، من الاستفادة من التاريخ...بالإيمان المخلص بالديموقراطية كقضية حياة أو موت. وهو مطالب أيضا بتحطيم الأساطير وتأليه الشيوخ أو مظري الأيديولوجيا أو مصدري الفتاوي. عليه بامتلاك ملكة النقد الداخلي والتشبع بروحه والقدرة على التجاوز الإبستومولوجي وبناء الجديد وتطويره دائما دون توقف.