بغداد من ابو طبر الى ابو درع
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يصفونها بـ ( دار السلام) واسمها يوحي بالسكينة والاطمئنان والخضرة والماء والاشجار فهي (باغ) اي بستان و (داد) اي الاغا او الحبيب والكلمة بالفارسية تعني بستان الاغا او بستان الحبيب كما هو مشهور بين ارباب اللغة والعهدة عليهم، ذلك هو ما يعنيه اسم ( بغداد) غير ان تاريخها لم يشهد الراحة او الاستقرار وعلى عكس وصفها (دار السلام) فانها -اي بغداد- لم تنعم بالامن ولا بالسلام منذ ان اسسها الخليفة العباسي ابو جعفر المنصور عام 145 هجري الموافق لـ 762ميلادي على انقاض مدينة تاريخية حيث شهدت بغداد في ايام حكمه احلك الساعات والليالي بسبب تعسفه وطغيانه الذي وصل الى حد بناء الجدران والاسطوانات على ابدان معارضيه ودفنهم احياء حيث ُجل ضحاياه كانوا من ابناء عمومته العلويين.
واذا كانت بغداد قد تحولت الى عاصمة الدنيا في ايام الرشيد حيث يقصدها العلماء وينشدها الادباء والشعراء واليها تشد الرحال ومن اجلها تصرف الاموال فان ايام ازدهارها كانت عدد وجمعها اضحى بدد بعد ان تحولت الى ميدان صراع بين الخلفاء العباسيين ذاتهم واستنجادهم بالغرباء في حروبهم تلك، فخُفتَ نور بغداد وأفِل نجمها واضحى الخليفة جليس داره وليس له من السلطان الا اسمه ومن الحكم الا رسمه فآل مآله الى غلمان الترك الذين ضجت بفسادهم دار السلام حتى اذا انقضى عهدهم واندرس حكمهم توشحت بغداد بالسواد من جديد بعد ان استباحها هولاكو ومن بعده تيمورلنك ليحكمها بالنار والحديد وحتى اذا انقرض حكمه واندثر اسمه ورسمه اجتاحها العثمانيون بعِدهم وعديدهم وليجثموا على صدرها اكثر من خمسة عقود عجاف اكلت الاخضر واليابس كان لدار السلام فيها أنين وأنين.
وحتى اذا أذن الله بزوال حكمهم ونهاية عصرهم دخلها (مود) محررا لا فاتحا كما اعلن في خطابه يوم حط رحاله فيها و لتبدأ معه بغداد رحلة أخرى من رحلات التيه حيث تلاقفها الانتهازييون والوصوليون تلاقف الكرة. نفس الوجوه التي كانت تخدم عند العثمانيين عادت لتخدم عند اسيادهم الجدد البريطانيين بعد ان استبدلوا جلدهم العثماني بآخر أنكليزي. سبع وثلاثون عاما من الحكم الملكي لم تر فيها بغداد سوى المؤامرات والانقلابات لينتهي ذلك العهد بانقلاب او ثورة وليبدأ مشوار جديد من عمر بغداد ذلك هو العهد الجمهوري الذي بدأ بسحل الجثث بالشوارع وبالدم لينتهي بالدم على يد أخس خلق الله البعثيون الذين أنسوا بجرائمهم من سبقهم وأتعبوا من جاء بعدهم. فاذا ببغداد تصحو على مسرحية لم تشهد لها من قبل مثيلا تلك هي مسرحية (ابو طبر) التي بدأ العفالقة بها حكمهم ليملؤا العراق رعبا ولينشروا الخوف في كل بيت بغدادي. ابطال هذه المسرحية هم رجال السلطة والحكم ذاتهم وبأسم (ابو طبر) راحت السلطة تصفي خصومها وتلاحق معارضيها وتدخل بيوت مواطنيها تحت ذريعة البحث والتفتيش عن (ابو طبر) ذلك المخلوق الذي يحمل (طبرا) سومريا يقتل فيه ضحاياه بلا رحمة حتى ما عاد البغداديون يهنئون بعادتهم في النوم ليلا على السطوح طلبا للنسيم في حر الصيف خوفا من ان يطالهم (ابو طبر). انها ظاهرة فريدة من نوعها تلك التي بدأ البعثيون بها عهدهم، القتل بالفأس او كما يسميه العراقيون (الطبر) الذي تحول الى منهج واسلوب عمل للسلطة. واذا ما شاء الله تعالى ان ينهي حكم العفالقة ليصدق فيهم قوله جل جلاله (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) وتحرر العراق من جلاديه، عادت بغداد لتشهد من جديد ظاهرة أخرى وكأنها على موعد مع ظاهرة ما عند كل تغيير تلك هي ظاهرة (ابو درع) فما الفرق بين الظاهرتين؟
ظاهرة (ابو طبر) عبرت عن ارهاب الدولة والسلطة والطغمة الحاكمة المنظم والمؤدلج وارهابها لرعاياها وعن طغيانها وفسادها وقسوتها تجاه من يعارضها اما ظاهرة (ابو درع) فهي تعبير عن ضعف السلطة وخواءها وغياب الدولة وفشلها في القيام بابسط مهمة من مهماتها المتعارف عليها تلك هي بسط الامن وسلطة القانون في ربوعها. ظاهرة (ابو طبر) قزمت الدولة بالحزب (القائد) الذي تحول بدوره الى منظمة سرية تعمل بطريقة مافيوية تحت الارض وخلف الكواليس وهمها الاول حماية القائد (الضرورة) وبسط هيمنته على الدولة من خلال استعمال مؤسساتها لخدمة مشاريعه الجهنمية واشاعة الخوف بين المواطنيين كآستراتيجية للحفاظ على كرسي الحكم اي ان ظاهرة (ابو طبر) عبرت عن خروج السلطة وتمردها على القانون من خلال اختطافه وتوظيف سلطة القانون -الذي تحول في النهاية الى فرمان يصدره الديكتاتور او احد جلاوزته في لحظة مزاجية - لارهاب المواطنين الذين يفترض بهم انهم محميون بالقانون ذاته، اما ظاهرة (ابو درع) فقد جاءت لتؤسس لقانون الردع وعلى طريقة من اوجدها بعد ان شعر بغياب القانون و سلطة الدولة التي عجزت عن حماية مواطنيها فاضطروا في النهاية لحماية انفسهم بانفسهم وعلى طريقتهم الخاصة من خلال (ابو درع).
(ابو درع) شخصية حقيقية انبثقت من بين الركام ومن ازقة الاحياء الفقيرة المنسية والمهمشة فهو ابن الطبقة الكادحة والشغيلة التي تحلم بالخبز والامان شأت الاقدار التعيسة ان يتحول الى قاتل وسفاح كما تصفه وسائل اعلام خصومه بينما هو بطل مغوار في نظر انصاره يقوم بواجبه (المقدس) في الذود عن حماهم، اما (ابو طبر ) فشخصية وهمية من صنع أجهزة السلطة القمعية واذا شئت الدقة فأن ( ابو درع) فرد اما (ابو طبر) فهو حزب يعمل بطريقة المنظمة السرية التي نزت على الحكم في غفلة من الزمن وسرقت الوطن وثرواته وجيرتها ضد المواطنيين ذلك هو حزب البعث العفلقي الصدامي.
وفرق آخر وهو ان الدرع آلة حرب تستخدم لصد سهام ورماح الاعداء اي انها آلة دفاعية وربما من هنا اختار (ابو الدرع) مفردة الدرع لكي يُكنى بها، كناية عن ان حركته دفاعية، اما (الطبر) فهو وسيلة قتل واعتداء ولهذا اختاره البعثيون عن قصد كشعار ارهاب ضد المواطنين فكنوا منهجهم الدموي وسياستهم الارهابية بـ(ابو طبر) وصح القول ان يسمى حزبهم بـ (حزب ابو طبر) ومن هنا تأتي اهمية سياسة اجتثاث فكر هذا الحزب وتطهير المجتمع العراقي ومناهج التعليم ومؤسسات الدولة منه ومن ممارساته الارهابية لانه حزب عدائي ارهابي فالمطلوب تخليص الحياة السياسية والثقافية والفكرية من ادرانه، اذ الغاية من سياسة الاجتثاث هو استئصال الافكار المريضة التي خلفها حزب(ابو طبر) وليس المطلوب اجتثاث الاشخاص الذين اجبر اكثرهم على الانتماء اليه. وما الاستثناءات التي اعلنت عنها هيئة اجتثاث البعث مؤخراً في اعادة الكثير من البعثيين المفصولين الى وظائفهم السابقة الا دليل على ان المقصود من الاجتثاث هو الفكر الشوفيني المريض لحزب البعث حزب (ابو طبر) وليس الافراد. ان مثل حزب البعث العفلقي والصدامية كمثل الغدة السرطانية اذا تركت دون استئصال انتشرت في بقية البدن وقتلته اي انها مرض سياسي خبيث لا يؤتي الا نكدا، اما ظاهرة (ابو درع ) فهي مؤشر على الخلل الامني الذي تعيشه الدولة ونتيجة متوقعة للفراغ الامني وكذلك للاخطاء المتلاحقة لقوات الائتلاف الذي تقوده الولايات المتحدة الامريكية واصرارها على هذه الاخطاء ولعل اكبرها تباطئها في نقل مسؤولية الملف الامني للعراقيين فأهل مكة ادرى بشعابها.
ومن نافلة القول ان ظاهرة (ابو درع) ليست وليدة يومها بل هي امتداد لظاهرة (الشقاوات) التي عرفتها محلات بغداد في آواخر العهد العثماني الذي شهد بداية غياب الدولة وتآكلها من الداخل وانحسار سلطاتها ضمن نطاق ضيق مما جعل الناس تلوذ بالشقاوات لحماية انفسهم من جور الاخرين حيث كان لكل محلة من محلات بغداد شقي -اي فتوة باللغة المصرية- تثنى له الوسادة وتؤل اليه القيادة وتهابه العباد ويخشى بطشه السواد ومن هنا نستنتج ان وجود شقي في بغداد ليس بجديد عليها لكن الجديد هو في تمذهب الشقي او طائفيته.
فظاهرة الشقاوات كانت فيما مضى من تاريخ بغداد تقترن بالبعد المناطقي او المحلاتي اما في الوقت الراهن اخذت تقترن بالبعد الطائفي فللسنة شقيهم وهو الزرقاوي وللشيعة شقيهم وهو ابو درع علما ان هذا الاخير جاء كرد فعل على ممارسات شقي السنة اعني الزرقاوي وبكلمة اخرى فان (ابو درع الشيعي) هو رد فعل طبيعي على (ابو درع التكفيري) اعني الزرقاوي ومن بعده خليفته ابو حمزة المهاجر الذي عاث ببغداد وبربوع العراق فسادا والدليل على ان ظاهرة (ابو درع) جاءت كرد فعل هو انها ظهرت على مسرح الاحداث بعد عامين من ظهور الزرقاوي الذي أوغل في قتل الشيعة المدنيين بتهمة عمالتهم للمحتل واخذ يتفنن بذبحهم وجز رؤوسهم بالسكين أحياءا (لسنة السلف الصالح) حتى نال وعن جدارة لقب (أمير الذباحين).
ان مقارنة بسيطة في حجم ضحايا الارهاب من الامريكيين ومن الشيعة تؤكد زعمنا هذا فمجموع ما قتل من الامريكيين ثلاث الالاف بينما وصل عدد الشيعة المقتولين بمفخخات التكفيريين الى عشرات الالاف او ما نسبته 77% من المجموع الكلي لضحايا الارهاب الاسود. لقد ظهر (ابو درع الشيعي) بعد ان عجزت السلطة والدولة -وقوات التحالف- عن حماية الامنيين من مواطنيها من شرور (ابو درع التكفيري). ولانريد هنا ان نبرر للجريمة والقتل ولكن لانريد ايضا ان نقفز على الواقع ونتجاهل الحقائق ونسكت عن الاخطاء التي رافقت العملية السياسية منذ بدايتها ولحد الان والتي تسببت في هذه الفوضى وبولادة هذه الظاهرة وغيرها.
جاء (ابو درع الشيعي) في سياق سياسة توازن الرعب والتي خطط لها لكي تكون وسيلة للجم غلواء ووحشية (ابو درع السني) الذي تجاوز بطغيانه كل الخطوط الحمراء وانتهك كل الحرمات وكانت الفكرة من وراء ظهور (ابو درع الشيعي) هو الضغط على ابناء المناطق التي توفر البيئة الحاضنة للزرقاوي (ابو درع التكفيري) من اجل التبرء منه ومن افعاله وطرده واشعار هذا الوسط انه غير بعيد عن ردود الفعل التي قد تصدر من ضحايا (ابو درع التكفيري) الذي يلوذ بحماية وعلى ما يبدو التأيد من ذلك الوسط. اذا الجديد في ظاهرة الشقاوات هو دخول البعد الطائفي فيها مما زاد الامر تعقيدا. واذا كانت القوة وحدها هي التي ازالت واسقطت نظام حزب البعث العفلقي حزب (ابو طبر) فانه ومن غير المؤكد ان تنجح في انهاء ظاهرة (ابودرع) وذلك لان المشكلة في العراق ليست امنية محضة حتى تحل بلغة السلاح والقوة بل هي امنية سياسية ولابد آنذاك من استخدام الحوار والتفاوض لتحقيق الامن في بغداد وفي ربوع العراق وتوفير فرص العمل واستيعاب العاطلين عن العمل وعندها سيلقي ابو درع وامثاله سلاحهم ليعودوا الى سابق عهدهم ويخطأ كل من يتصور ان اعتقال ابو درع او القضاء عليه سيحل المشكلة لانه اذا مات ابو درع ولد آخر من نفس بيئته مالم تعالج الاسباب التي ادت الى ظهوره ومالم تحل المشكلة حلا جذريا واول خطوات الحل هو في تجاوز المحاصصة الطائفية والعرقية والحزبية واعتماد قاعدة (الرجل المناسب في المكان المناسب) في شغل المناصب لاسيما وان تجربة السنوات الثلاث المنصرمة كشفت عن معادن الرجال وعن قدرات كل واحد منهم وامامنا فرصة التعديل الوزاري المرتقب لتصحيح الاخطاء السابقة وانزال الناس منازلهم والتي قد تكون الفرصة الاخيرة لانقاذ العملية السياسية الحالية والحكمة تقول (اغتنموا الفرص فأنها تمر عليكم مر السحاب).