كتَّاب إيلاف

مصر بين إنكار حقوق الأقليات و نظرية المؤامرة

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

يعتبر إحترام حقوق الأقليات أحد المؤشرات الهامة على مدى تحضر الشعوب و تقدمها الإنسانى. و يرجع مفهوم حقوق الأقليات فى القانون الدولى إلى " إتفاقية وستفاليا" عام 1648.(1) و فى منتصف القرن الماضى إكتسب هذا المفهوم دفعة كبيرة بعد الحرب العالمية الثانية حيث تبنت دول العالم تحت مظلة منظمة الأمم المتحدة العديد من القرارات و الإعلانات و الإتفاقيات الدولية الحقوقية بداية من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان (الملزم أخلاقيا)، و مرورا بالعهد الدولى الخاص بالحقوق المدنية و السياسية (الملزم قانونيا)، و أخيرا بإعلان حقوق الأقليات عام 1992. و بالإضافة إلى الإتفاقيات الدولية هناك العديد من الإتفاقيات الإقليمية التى إهتدت بالقانون الدولى لحقوق الإنسان لتلزم الدول الأطراف إقليميا على إحترام و حماية حقوق الأقليات. و على الرغم من نجاح العديد من دول العالم فى تحقيق طفرات كبيرة على طريق إدراك هذه الحقوق بالإقرار بها و العمل على تحقيقها من خلال التطبيق على المستوى القومى للمواد القانونية الدولية المتعلقة بها، إلا أن مثل هذه الطفرات تكاد تنعدم فى بلاد أخرى مثل مصر التى تصر حكومتها على عدم وجود أقليات بها على أساس أن الشعب المصرى شعب واحد يتمتع أفراده بالمساواة أمام القانون، و ذلك رغم إلتزامها القانونى بمواد العهد الدولى (الأمم المتحدة) و بمواد الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب (الصادر عن منظمة الوحدة الأفريقية المعروفة الآن بالإتحاد الأفريقى). و تناقش هذه الورقة موقف مصر من مفهوم حقوق الأقليات من خلال مقارنة بموقف فرنسا و تداعيات كلا الموقفين فى ظل الإلتزامات الدولية لحماية حقوق الإنسان بشكل عام و الأقليات بشكل خاص.

مصر و العهد الدولى و إنكار وجود الأقليات
يتلخص الموقف الرسمى لمصر تجاه مفهوم حقوق الأقليات فى جزئين: الأول هو إنكار الدولة لوجود أقليات فى البلاد، والثانى أن الجهود الحقوقية من أجل إدراك هذه الحقوق ليست سوى حلقة من مسلسل المؤامرة الدولية التى تستهدف مصر و إستقرارها و وحدة شعبها.

و قد عبر على موقف مصر هذا مؤخرا أعضاء البعثة الديبلوماسية المصرية لدى الأمم المتحدة بجنيف (سويسرا) فى مداخلة مصر(2) ردا على أربعة ورقات قدمتها المنظمة المصرية الكندية لحقوق الإنسان عن وضع الأقليات فى مصر أثناء إنعقاد صلاحيات الجلسة الثانية عشرة من مجموعة العمل الخاصة بالأقليات و التابعة لمفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان بين الثامن والحادى عشر من أغسطس الماضى.

و جاء فى مداخلة الحكومة تبريرا لموقفها من إنكار وجود أقليات فى مصر أن "المجتمع المصرى لم يعرف على مدار تاريخه الطويل و حضارته العريقة مفهوم الأقليات،" و أن مصر تعد "بوتقة، انصهرت بداخلها على مر العصور مختلف الديانات و الثقافات و الأعراق، لتشكل نسيجا واحدا لشعب متجانس". و أشار مندوب الحكومة المصرية إلى نظرية المؤامرة التى تتبناها مصر، حيث إدعى فى مداخلته هذه أنه " لم يضع القانون الدولى تعريفا لمفهوم الأقلية، مما سهل من إستغلال هذا المفهوم لزعزعة استقرار الشعوب، و تفتيت وحدتها الوطنية لأسباب سياسية و إستراتيجية بحتة". و ترسيخا لنظرية المؤامرة هذه جاء بورقة مندوب الحكومة "أن المحاولات المغرضة لافتعال قضايا الأقليات، و المبالغة المتعمدة فى إبراز خلافات و الاختلافات بين الشعب الواحد، و ما يواكب هذا من تسييس لهذه القضية، لهو مدعاة للقلق حول أهداف من يقومون بذلك".(3)

وهكذا فالحكومة المصرية تؤمن بأن مفهوم الأقليات يتعارض مع الوحدة الوطنية بمعنى أن الإعتراف بوجود الأقليات يأتى على حساب الوحدة الوطنية، و أنه بنفس المنطق فإن الوحدة الوطنية و المواطنة و المساواة بين جميع المواطنين و التى تزعم الحكومة تحقيقها فى مصر تلغى -فى تصور الحكومة- حقيقة وجود الأقليات فى البلاد. و من الجدير بالتنويه أنه فى إطار مناقشة حقوق الأقلية القبطية المسيحية فى مصر فإن الحكومة تستشهد بقوة بتصور الكنيسة القبطية بعدم صلاحية إنطباق مصطلح "أقلية" على مسيحى مصر بدعوى أنهم جزء لا يتجزأ من نسيج المجتمع المصرى، وهو رأي كانت قد صرحت به القيادة الكنسية إبان إنعقاد أول مؤتمر أقليمي حول وضع أقليات الشرق الأوسط والذي قام مركز إبن خلدون بتنظيمه عام 1994.

و لاشك فى أن هذا الموقف الرسمي المصري يُعد من أكبر العقبات التى تقف أمام إدراك الحقوق القانونية للأقليات، و يعتبر مخالفا لإلتزامات مصر الدولية القانونية تجاه حماية الأقليات، و خاصة فى ضوء المادة 27 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (العهد الدولى)، والذى صدقت عليه مصر عام 1982.

وتعتبر المادة 27 من العهد الدولي من أهم مواد القانون الدولى لحماية حقوق الأقليات، حيث أن الإتفاقية ملزمة قانونيا على الدول الأطراف سواء إعترفت بالأقليات الموجودة داخل حدودها أم لم تعترف، إذ تنص على أنه:

"لا يجوز، في الدول التي توجد فيها أقليات اثنية أو دينية أو لغوية، أن يحرم الأشخاص المنتسبون إلى الأقليات المذكورة من حق التمتع بثقافتهم الخاصة أو المجاهرة بدينهم وإقامة شعائرهم أو استخدام لغتهم، بشكل شخصى أو بالاشتراك مع الأعضاء الآخرين في جماعاتهم".(4)

وكما ذكرت المداخلة المصرية الرسمية أعلاه، تستند الحكومة فى عدم إلتزامها بالمادة 27 على أن أحكام المادة "مشروطة بوجود أقليات فى الدول المعنية،"(5) و أنه حيث أن الحكومة لا تعترف بوجود أقليات على أرضها فإن هذه المادة فى تصور الحكومة لا تنطبق على مصر. و تعزز الحكومة هذا الموقف بالإدعاء بأن جميع المواطنين فى مصر يتساوون أمام القانون طبقا للمادة 40 من الدستور المصرى فى توافق مع المادة 2 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والتى تلزم الدول بتطبيق مبدأ المساواة أمام القانون لجميع المواطنين دون تمييز على أساس إثنى أو لغوى أو دينى.

الأقليات فى النموذج الفرنسى:
و لعل النموذج الفرنسى هو أقرب ما يكون للمنهج المصرى تجاه رفض الإعتراف بوجود الأقليات، حيث تعتبر الدولة الفرنسية أنه حيث أنها لا تمارس أى تمييز ضد أى مواطن و حيث أن الجميع متساوون أمام القانون إذعانا لمادة 2 من لدستور الفرنسى(6) و إلتزاما بالمادة 2 من العهد الدولى فإنه لا توجد أقليات فى فرنسا. و قد أعلنت فرنسا عن موقفها عند تصديقها على العهد الدولى عندما ألحقت تحفظا على المادة 27 بما يفيد بأن هذه المادة لا تنطبق على فرنسا(7) ، و هو شئ لم تقدم عليه الحكومة المصرية عند توقيعها على نفس العهد.

و لكن على الرغم من التشابه بين النموذجين المصرى و الفرنسى فى معارضة الدولتان لمفهوم الأقليات فإن هناك إختلاف جوهرى بينهما، ألا و هو أن الأخير يطبق فى دولة علمانية فى أساسها و مؤسساتها حيث من المفروض أن يتمتع فيها جميع الأفراد بالمواطنة الكاملة تحت الشعار الرسمى لفرنسا: "الحرية و المساواة و الإخاء".(8) و يتضح هذا الإختلاف بشكل كبير فيما يتعلق بحقوق الأقليات الدينية على وجه التحديد. ففى حين لا ينص دستور فرنسا على ديانة رسمية للدولة ينص الدستور المصرى على أن الإسلام هو "ديانة الدولة".(9) و فى حين أن الدستور الفرنسى لا ينص على أن قانون فرنسا يستمد مبادئه من أى ديانة، ينص الدستور المصرى على أن "مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع".(10) . و إحتراما لمبدأ فصل الدين عن الدولة لا يحق للرئيس الفرنسى أن يخلط بين ما هو سياسى و ما هو دينى، حتى أنه لا ينطق فى إطار الحياة العامة و الرسمية بإسم "الله"، ناهيك بالطبع عن الظهور أمام عدسات الإعلام أثناء زيارة دور العبادة كل أسبوع للصلاة، كما يحدث من القيادات الحكومية الرسمية فى مصر فى مخالفة صارخة لإدعاء الدولة بفصل الدين عن الدولة،و هو إدعاء تسخر منه المادة 2 من الدستور المصرى، و التى لا توجد على قائمة المواد الدستورية المقترح حلها.

و هكذا فعلى الرغم من عدم إعتراف فرنسا بوجود أقليات بها فالدولة تحمى المبادئ الدستورية التى تكفل الحرية و المساواة و الإخاء لكل فرنسى، و إن كان فضل كبير فى هذا يرجع إلى منظمات المجتمع المدنى التى تعمل على تصحيح مسار الدولة و دفع الحركة الحقوقية فى فرنسا للأمام.

موقف الأمم المتحدة من إنكار حقوق الأقليات:
و على الرغم من تفوق النموذج الفرنسى على نظيره المصرى من ناحية إدراك المادة الثانية من العهد الدولى فيما يخص المساواة و عدم التمييز إلا أن موقف كل من الدولتين فى رفض الإعتراف بوجود الأقليات يتساوى فى المخالفة القانونية للمادة 27 من نفس العهد. و فى هذا الشأن تقول لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان (اللجنة) أن:

"بعض الدول الأطراف التى تزعم أنها لا تمارس التمييز على أساس إثنى أو لغوى أو دينى تدعى بالخطأ بأنه بناء على هذا الأساس فقط لا توجد بها أقليات".(11)

و تعتمد اللجنة على تعريف الخبير الدولي كابوتورتى لمصطلح الأقليات فتقول أنه "لا توجد دولة فى العالم تخلو من الأقليات"(12) و أن تحديد وجود الأقليات لا يعتمد على رأى الدولة بل على مواصفات موضوعية مثل الإختلاف العددى و النوعى و"لا يعتمد على إعتراف الدولة".(13) و هكذا فإن تحديد وجود الأقليات لا يتطلب رأى الحكومة أو الكنيسة. و من ناحية أخرى، فعلى الرغم من أن وجود الأقليات يعنى إلتزام الدولة بحماية "حقوق فردية" طبقا للمادة 27 من العهد الدولى إلا أنه إيضا يضع على الحكومات العبء لحماية الحقوق الجماعية للأقليات، و ذلك من منطلق إلتزام الحكومة بالقيام بتدابير لحماية حق الجماعة من أجل أن توفر حق التمتع بهذه الحقوق للفرد.

المواطنة الكاملة دون حقوق الأقليات هى مواطنة منقوصة
و المشكلة الأساسية فى منطق إنكار وجود الأقليات هو إنكار حقوقهم على أساس منطق مغلوط يفترض بغير حق وجود تعارض بين مفهوم حقوق الأقليات و مفهوم المواطنة الكاملة الذى يرتكز على الحق فى المساواة و عدم التمييز،فمفهوم الأقليات و مفهوم المواطنة الكاملة ليسا بدائل لبعضهما البعض، و لكن يكمل كل منهما الآخر، و ذلك لسببين هامين:
أولا: لأن منظور الأقليات يعتمد فى أساسه على تواجد الأقليات فى مجتمع متكامل بحيث أن يتمتع أفراد كل أقلية سواء بشكل منفرد أو جماعى بخصوصيتهم فى حين أن كل أفراد المجتمع و بغض النظر عن الخصوصيات و الفروق يرون الوطن كشئ أكبر ينتمى إليه الجميع. أى أن مفهوم الأقليات يقوم على تكامل المجتمع لا تفكيكه،

ثانيا: فى حين أنه يجب أن يتمتع جميع الأفراد بالمواطنة الكاملة فإنه يلزم على الدولة أن تقوم بتدابير للتأكد من أن المساواة لن تنقص من حق الأفراد الذين لهم خصوصية معينة من التمتع بهذه المواطنة الكاملة. فعلى سبيل المثال يجب على الدولة أن توفر الظروف الملائمة التى تسمح لأفراد الأقليات بالمشاركة فى الحياة العامة مثل المجالس النيابية و غيرها من النشاطات العامة، و ذلك عن طريق التمييز الإيجابى الذى هو حق مشروع طبقا للقانون الدولى و ليس منحة تعطى أو تمنع بواسطة الحكومة.
.
و هكذا فإنه بنظرة عابرة إلى النموذج الفرنسى فإن المواطنة الكاملة التى تتمتع بها الأغلبية فى فرنسا تعتبر لحد ما منقوصة فيما يخص الأقليات فى هذا البلد لأنها لا توفر التمييز الإيجابى الذى يسمح بتمكين الأقليات المختلفة من المهاجرين من مستعمراتهم السابقة و من بلاد أخرى. أما فيما يتعلق بالنموذج المصرى فهو لا يقدم شيئا يذكر لا عن طريق مبدأ المواطنة و لا عن طريق مفهوم الأقليات الغير معترف به فى هذا البلد. فالمواطنة الكاملة التى تدعى الحكومة توفيرها و حمايتها كبديل لحقوق الأقليات لا وجود لها على أرض الواقع. و الدلائل كثيرة على قصور و عدم التناسق القانونى بالدستور المصرى، و الذى لن تصلحه التعديلات الدستورية التى إقترحتها السلطة التنفيذية مؤخرا. فعلى سبيل المثال لا الحصر على الرغم من المادة 40 من الدستور المصرى تنص على المساواة بين جميع أفراد الشعب نجد أن المادة 2 من نفس الدستور تنص على أن الدولة لها دين بذاته و أن مبادئ هذا الدين هى المصدر الرئيسى للتشريع، و هكذا يضع الستور أى مواطن غير مسلم فى وضع حقوقى منقوص لأن دولته التى ينتمى إليها لها ديانة غير ديانته، أو بمعنى أدق أن دولته التى ينتمى إليها لا تنتمى إليه. و من الدستور المصرى الحالى تنحدر ممارسات تخالف المادة 40 فيما يتعلق بقضايا هامة كثيرة للأقليات. فعلى سبيل المثال و فى إطار حقوق الأقليات الدينية فى مصر لا تعترف الدولة بالديانة البهائية و تنكر حقهم فى ممارستهم العلنية لدينهم. و لا يوجد فى مصر قانون موحد لبناء دور العبادة، فالحكومة تمنع رسميا البهائيين من بناء معابدهم و تقيم عراقيل كثيرة أمام قيام المسيحيون ببناء كنائس جديدة لهم أو ترميم القديم منها. و من مثل هذا القبيل نجد أن لوائح حكومية كثيرة تحمى ممارسة التمييز ضد غير المسلمين فى مجالات عديدة فى الحياة العامة مثل التعليم و الوظائف الحكومية و الإعلام و المشاركة فى الحياة السياسية و غيرها. و بعيدا عن التمييز على أساس دينى فهناك أقليات أخرى لغوية مثل النوبيين و إثنية مثل البدو لهم حقوق لا يمكن أن تدرك إلا من خلال المفهوم الحقوقى للأقليات.

حقوق الإنسان و نظرية المؤامرة:
أما عن الجزء الثانى من موقف الحكومة المصرية و المتعلق بنظرية المؤامرة الدولية لتفكيك وحدة مصر، فإما أنه يعكس القلق العام الذى يتملك الحكومة بسبب تسييس حقوق الإنسان بشكل عام و الأقليات بشكل خاص، أو أنه يعبر عن الموقف العام العدائى للحكومة تجاه الحركة الحقوقية و الذى تظهره مواقفها الرسمية كما جاء بورقة مندوب الحكومة أعلاه، وهو أيضا مايظهر فى تعنت الحكومة المستمر فى رفضها للمجتمع المدنى، ومحاولاتها الدائمة للتشهير بالنشطاء الحقوقيين أمام الرأى العام المصرى.

قد يتفهم المرء مخاوف الحكومة حيث يعود تاريخ تسييس حقوق الإنسان و إستخدامها كوسيلة للضغط السياسى إلى تاريخ حركة حقوق الإنسان نفسها. فعبر عقود الحرب الباردة سيس الغرب (الرأسمالي) نقطة ضعف الكتلة الشرقية (الحقوق االمدنية و السياسية) للضغط السياسى عليها، بينما ردت الدول لإشتراكية بتسييس الحقوق الإقتصادية و الإجتماعية و الثقافية للضغط على الغرب. و حتى بعد إنتهاء الحرب الباردة مازالت العديد من الدول تمارس تسييس حقوق الإنسان، فنجد أن بعض الدول المانحة للمعونات الإقتصادية أو العسكرية تمارس تسييس حقوق الإنسان من أجل خدمة أغراضها السياسية. و هناك العديد من الأمثلة الصارخة على مثل هذه الممارسات اليوم، حيث تظهر إزدواجية هذه الدول فى منهجها الإنتقائى و إصرارها على دفع "أجندة حقوق الإنسان" فى بلاد دون بلاد أخرى، حتى أن هذه الإنتقائية تصل إلى محاولة دفع الأجندة الحقوقية فى بلد معينة و فى أوقات معينة حتى تنال مأربها ثم تواصل سياستها المعتادة بإعطاء ظهرها لمخالفات حقوق الإنسان فى نفس البلد.

لا شك أن محاولات تسييس حقوق الإنسان قائمة، بل و ستستمر لأنه شئنا أم لم نشأ سيظل التسييس عند بعض الدول خيارا إستيراتيجيا و جزء من ديناميكية معادلة القوى فى إطار العلاقات الثنائية و المتعددة الأطراف تحت ظل التعاون الدولى. و لكن السؤال للحكومة المصرية: ما هو الأجدى: أن تحترم دور الأمم المتحدة و الإتحاد الأفريقى و التى تلتزم أمامهما بإتفاقيات حماية حقوق الإنسان التى وقعت و صدقت عليها، أم تصارع ضغوط سياسية من دول لا ترقى إلى أرضية أخلاقية للضغط على مصر بدعوى حماية حقوق الإنسان؟ الحل المنطقى للبلاد المتحضرة ليس فى التنصل من مبادئ حقوق الإنسان السامية و القانونية بل الإلتزام بالتعهدات الدولية الموقع عليها، مما سيقلل من حدة المحاولات الخارجية لتسييس حقوق الإنسان. و كذلك ليس من مصلحة الدولة أن تستخدم الإعلام لترويج نظرية المؤامرة والهذل و التحقير من المبادئ الحقوقية و التشهير بالنشطاء الحقوقيين و منظمات المجتمع المدنى لأن المجتمع المدنى أولا و أخيرا هو جزء فاعل من صميم المجتمع و بنى من أجل المجتمع و يعمل لصالح المجتمع و من أجل مصالح الدولة العليا، لا لمصلحة دول الخارج أو لمصلحة الفئة التى تحكم بالداخل.

و يبقى أن مفهوم الأقليات - المتعارف عليه اليوم دوليا - ينطبق على مصر و أن حقوق الأقليات هى حقوق مشروعة، لم يعد من الممكن الإلتفاف حولها، وليس من مصلحة أية حكومة مسئولة التنكر لها. و أن الحالة القانونية لأى أقلية لا يمكن أن تختذل إلى صفة تنقص من قيمة المنتمين إليها بسبب الخصائص التي تميزهم عن الأشخاص المنتمين إلى الأغلبية، فكلا الجماعتين يشكلان معا نسيج المجتمع بشكل منسجم عندما تسود العدالة والمساواة فى أوصال هذا المجتمع فى ظل التعددية على إطلاقها. هذا هو واقع اليوم فى المجتمع الحديث الديموقراطي، إذ لايمكن أن يقوم مثل هذا المجتمع إلا على أساس إحترام الحريات الشخصية و كرامة الفرد، كما أنه يستمد قوته و وحدته من التعددية و التنوع. أما ما يفكك المجتمع و يهدد إستقراره و وحدته فهو أن يعانى أى فرد من أفراده، أو أي جماعة من جماعاته من التهميش أو الإستبعاد بسبب خصوصيتهم.

هوامش:

1- جنيفر جاكسون بريس، "حقوق الأقليات فى أوربا: من وستفاليا إلى هلسينكى"،
(Minority rights in Europe: from Westphalia to Helsinki)، Review of International Studies، (1997)، 23: 75-92 Cambridge University Press
2- مداخلة مصر أمام مجموعة عمل الأمم المتحدة المعنية بالأقليات التابعة للجنة الفرعية لحقوق الإنسان:
http://www.ohchr.org/english/issues/minorities/docs/12/Reply_from_the_Egyptian_Government.pdf
3- المصدر السابق، ص 1
4- المادة 27 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية
- أنظر: المرجع رقم 2
6- أنطر المادة 2 من دستور الجمهورية الفرنسية:
http://www.elysee.fr/ang/instit/text3_.htm
7- أنظر: تحفظ الحكومة الفرنسية على المادة 27 من العهد الدولى:
ldquo;(8) In the light of Article 2 of the Constitution of the French Republic، the French Government declares that Article 27 is not applicable so far as the Republic is concerned.rdquo;
8- أنظر: المادة 2 من الدستور الفرنسى
http://www.elysee.fr/ang/instit/text3_.htm
9-الدستور المصرى، المادة 2
10-المصدر السابق
11-لتعليق العام رقم 23 للجنة المتابعة لحقوق الإنسان (1994)،فقرة 4
12- المصدر السابق
13- المصدر السابق

كاتب المقال خبير فى حقوق الإنسان والاقليات مقيم بنيويورك

azizabdelaziz@gmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف