كتَّاب إيلاف

تشخيص أوجاع وطن

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

*للأسف مجتمعنا يمتلك من الأجوبة أكثر ممايمتلك من الأسئلة وهذا سر فشله المزمن!
* المصريون يصفون المريض بإن عنده "فكر"!!
* وضع أساس التطرف يبدأ حين نمنع الطفل من التساؤل والجدل.
* مجتمعنا لايعرف علامات الإستفهام، فالإجابات قد حسمت منذ ألف سنة ولاداعى لإيقاظ فتنة الفكر والسؤال.
* السؤال هو فريضتنا المنسية.


المجتمع المتقدم الذى يحمل فى داخله بذرة النمو وجنين التحرر والإنطلاق هو المجتمع الذى يمتلك من الأسئلة أكثر ممايمتلك من الأجوبة !، هو المجتمع الذى تزيد فيه علامات الإستفهام وتتوالد بمعدل أكثر وأعلى من معدل توالد نقاط الإجابات، فالحرارة الكامنة فى علامة الإستفهام مصدر طاقة جبار تعوض صاحبها عن برودة الإجابة الحاسمة التى تزيف الوعى وتصرخ دائماً "كل شئ تمام" برغم أن معظم جبل الجليد الراكد بكل تناقضاته وفساده يكمن أسفل السطح المستقر.

قديماً تساءل الناس لماذا ظهرت الفلسفة فى بلاد اليونان ولم تظهر فى مدينة إسبرطةً؟، وكانت الإجابة أن اليونان كانت بلداً ديمقراطياً إزدهرت فيه الأسئلة أما إسبرطة فقد كان مجتمعاً عسكرياً لديه الإجابة على كل شئ، قانونه الطاعة وشعاره لاتناقش فالنقاش رجس من عمل الشيطان !، وكان الفيلسوف سقراط هو المتسائل الأعظم يخرج من بيته صباحاً فيقابله تلميذه قائلاً:صباح الخير، فيلتقط سقراط الخيط ليسأل هذا التلميذ عن معنى الخير، ويتلعثم التلميذ فقد كان يظن أنها بديهية، وتتوالد الأسئلة على لسان سقراط ويتوهج عقل التلامذه، وتخرج زوجة سقراط من الشرفة لتدلق المياه على رأس سقراط وتلاميذه فهى تريد الخضار من السوق وعمنا سقراط قاعد يناقش فى تلاميذه !!، وقد كان اليونانيون يطلقون على سقراط لقب ذبابة الخيل التى تقض مضاجع الخيل وتضايقه وتجعله يقظاً على الدوام، فهل نملك نحن ذلك المثقف الذى يتحول إلى ذبابة الخيل تلك ؟أم أننا لدينا أنماطاً أخرى من المثقفين المزغزغين والمهدهدين الذين لايريدون إقلاق راحتنا وكسلنا الفكرى، ولايرغبون فى إيقاظنا من أحلامنا الوردية اللذيذة حتى لانطلق عليهم وصف المثقف الغلس أوالرخم، فهم يتبعون شعار الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها والفتنة بالطبع هى فتنة التفكير، ويطبقون فى حياتهم شعار ليس فى الإمكان أبدع مماكان برغم أنه دائماً فى الإمكان أن نبدع أحسن مماكان.

لكن ماهى أهمية أن نمتلك القدرة على طرح الأسئلة، أليست راحة ألانسأل ونظل نجيب فقط ؟، والإجابة المنطقية هى بالطبع أن الراحة جميلة والكسل لذيذ وكما يقول المصريون عن المريض بالقلق والتوتر "ده عنده فكر " وكأن التفكير أصبح مرضاً يستدعى العلاج، ولكنى أؤكد على أن هذه الإجابة المريحة والفزع من السؤال هى التى أفرخت جنين التطرف فى أحشاء المجتمع العربى، أما كيف حدث هذا التطرف نتيجة ماأطلق عليه مرض الخرس التساؤلى؟، وهذا ماسأحاول الإجابة عليه بإختصار.

المتطرف هو إنسان عنده كل شئ محسوم من قبل، وكل شئ لديه إجابة جاهزة عليه، أما كيف يتشكل هذا المتطرف فهذا هو السؤال الخطير ؟، يتم تشكيل المتطرف فى الطفولة بمنعه من التساؤل والجدل الذى يعتبر فى نظر الأبوين نوع من "الزن" وأحياناً التطاول وقلة الأدب، ويدخل بعدها المدرسة ليحفظ فقط كلام المدرس المقدس ومنهج الوزارة الكهنوتى، وتكثر عنده المقدسات التى لاتناقش، ويصبح المدرس هو المشروع المبدئى لأمير الجماعة فيمابعد، ويصير منهج الوزارة هو مانيفستو التطرف والتكفير عندما يكبر، فالطاعة العمياء هى الدستور فى الحالتين، ويصبح التلميذ الذى يناقش أستاذه مشاغباً متطاولاً على الكبار، ومن يخرج عن منهج الوزارة فهو خارج عن الحدود، متجاوز للخط الأحمر، ساقط بالثلث، ويوصم المخالف فى المدرسة بأنه "قليل الحيا "، وبعد ذلك تتضخم التهمة فيتهم الطفل المطيع عندما يكبر من يخالفه بأنه كافر، وهكذا تبدأ المسيرة عندما نغتال كلمة لا، وعندما نخنق الدهشة، تبدأ كلمة نعم فى التضخم، وتبدأ الألفة والإعتياد فى النمو حتى تصبح ديناصوراً يلتهم الأخضر واليابس.
خنق الأسئلة لايؤدى للتطرف فحسب ولكنه للأسف يجعل الرؤية ضبابية و إكتشاف الجديد مستحيلاً، وسأعطى مثالاً واحداً لشرح ماأريد، لنفرض أن أول مريض بالسارس أو بالإيدز قاده حظه العاثر إلى بلد عربى للعلاج، السيناريو المؤكد أن الأطباء بمنطق الأجوبة المحسومة سلفاً سيشخصون السارس على أنه مرض صدرى من قائمة الأمراض الصدرية المعروفة، أو يشخصون الإيدز على أنه حمى مألوفة، ولكنهم للأسف لن يحاولوا أن يكتبوا فى خانة التشخيص علامة إستفهام أى أن المرض مجهول، هم قد كتبوا ذلك لأن مجتمعنا لايعرف المجهول، لايعرف علامات الإستفهام، فالإجابات قد حسمت منذ ألف سنة ولاداعى لإيقاظ فتنة الفكر والسؤال، هكذا يضيع منا إكتشاف الجديد ونظل فى دائرة التقليد لأننا فقدنا فضيلة الدهشة وإمتنعنا عن أداء فريضة السؤال.
[وسادة ريش النعام التى ننام عليها كمجتمع عربى تغرى بالنوم وأحلام اليقظة، نحن نحتاج إلى إستبدالها بوسادة المسامير التى ينام عليها الفقير الهندى لكى توخزنا كل فترة وتذكرنا بأن الخطر قادم وعلينا أن نخطط لمواجهته، هذا هو أهم مأزق فكرى نقع فيه نحن المجتمعات العربية الغارقة فى خضم الإجابات والتى تعانى من عطش التساؤل.
عندما أخرج على الكون وأنا أحمل جعبة من الأسئلة هنا وهنا فقط ستنفتح لى الأبواب ولو بعد حين، ولكن عندما أواجه قطار التقدم السريع بجعبة الإجابات الجاهزة سيفوتنى القطار وسأظل أنتظر على محطة التمنى سنين طويلة قانعاً بأننى الأفضل والأحسن وبأن الجميع يتآمرون على شخصى والحقيقة المرة أنهم لايبالون أصلاً بوجودى.

"ولدت وجئت إلى هذا العالم لأعترض "...عبارة هامة قالها الروائى الروسى الكبير مكسيم جوركى، ونحن لابد أن نواجه هذا العالم الجديد بالإعتراض والتساؤل، لأن عدم التساؤل يخلق حالة من الألفة والخدر اللذيذ، ونحن نعلم جيداً أن التخير يفقد الإنسان إحساسه بالزمان والمكان والألم، ونحن نحتاج إلى قليل من الألم لكى نحذر ونحتاط ونواجه، مثلنا مثل مريض الزائدة الدودية الذى ينصحه الأطباء بعدم تناول المسكنات حتى لايركن إلى تشخيص خاطئ ويظل ينتظر حتى تنفجر الزائدة ويحدث التسمم البريتونى، وحتى لايحدث هذا التسمم البريتونى للمجتمع العربى عليه أن يظل واعياً بألمه، حاملاً علامات إستفهامه وتعجبه، متسائلاً لماذا قبل أن يسأل ماذا ؟، وإزاى وليه قبل أن يسأل بكام ومنين !!، وكما قال الشاعر شيلى "لدى شهوة حارقة لإصلاح العالم "، لابد أن تكون عندنا شهوة حارقة لطرح الأسئلة والمعرفة حتى نتقدم، لأنه لاتقدم بدون سؤال ومعرفة.
الطفل الذى يفكك اللعبة أو الراديو أو الساعة ثم ننهره ونضربه بشدة، نحن نقتل فضوله المشروع وسؤاله المزمن عن ملامح وتفاصيل العالم المحيط به، والمراهق الذى يتحسس خريطة جسده ونعنفه بدون أن نشرح له تضاريس عالمه الصغير نحن نسجنه فى قفص مصمت بلامسام من اللحم والعظم متهماً بالدخول فى الممنوع والخروج عن النص، فنخلق مراهقاً بدرجة أخرس مزمن، وفى المدرسة نمنعه من العبث فى المعمل بحجة أن محتوياته عهدة على سركى ويظل يحفظ المعادلات الكيميائية ويحرز الدرجات النهائية وهو فى الحقيقة جاهل عظيم.

أما الشاب الذى يقولون عنه نصف الحاضر وكل المستقبل فالكل يخاف عليه من البلبلة والتشويش ولذلك يضعه المجتمع فى صوبة من البلاستيك المقوى تقدم إليه المعلومات عن طريق الرى بالتنقيط !!، ويمارس الكبار القمع على الشباب بإسم حمايتهم، مرة بإسم حمايتهم من الإباحية على الإنترنت والفضائيات، ومرة بإسم حمايتهم من ممارسة السياسة فى الجامعة حتى لاتشوش أفكارهم، ومرة بإسم منعهم من الإنزلاق فى الجدل الذى سيؤدى بهم حتماً إلى التهلكة.....الخ وتظل كرة الثلج القمعية القهرية تتضخم وتنزلق بالشاب حتى يفقد حماسه ويعيش مأساة الأحلام المؤجلة ويصبح معوقاً عاطفياً لايستطيع منح دفقة حب واحدة، ومعوقاً فكرياً يقتنع بأى فكرة سخيفة سابقة التجهيز تعبأ فى مخه، مثله مثل الطفل الذى نظل خائفين عليه من أن يقع أو يتكعبل فلا يتعلم المشى أبداً، ولذلك فشبابنا العربى للأسف مصاب بالكساح المعرفى والثقافى والإبداعى، يخاف عليه الجميع من البلبلة والتشويش فيظل فى حالة شلل وتصلب وهذا هو الحل السلمى والسليم فى نظر البعض.
بداية من سؤال الطفل لأمه" أنا جيت إزاى ومنين؟ "وإنتهاء بسؤال الشاب للمسئولين" إحنا رايحين على فين ؟"، لابد أن نسمح للجميع بطرح الأسئلة حتى تقل البديهيات ويصبح كل شئ مطروحاً على مائدة البحث، فالخوف من السؤال يولد بالضرورة الخوف من الجديد والخوف من التقدم.

توفيق صالح يدافع عن فيلم "الأيام الطويلة " ويقول صدام كان شجاعاً وعنيداً.

* لاأخجل من الفيلم ولو عاد بى الزمان سأخرج فيلماً عن صدام.
* الأيام الطويلة أكثر فيلم جماهيرى ناجح لى.
* صدام حسين أحرق النيجاتيف وقتل بطل الفيلم.
لايستطيع مؤرخ سينمائى أن يتناول تاريخ السينما المصرية بدون أن يضع المخرج توفيق صالح فى الصدارة من ضمن مجموعة الرواد الذين منحوا السينما المصرية مذاقها المختلف ونفسها المتفرد فى المنطقة العربية وذلك برغم أفلامه القليلة، ومن هنا كانت أهمية السبق الذى أحرزته الإعلامية سلمى الشماع بإستضافتها لتوفيق صالح وجعله يفضفض عن تجربة فيلم "الأيام الطويلة " الذى أخرجه أثناء عمله فى العراق وكان عن صدام حسين بتكليف من حزب البعث، وأهمية اللقاء ليس فقط فى الخبطة الإعلامية لسلمى الشماع، ولكن أهميته تكمن فى أنه وثيقة هامة لرصد مشكلة مثقفى العالم الثالث بشكل عام، والفنانين والمبدعين منهم بشكل خاص، اللقاء يطرح عدة أسئلة سأتركها مفتوحة للنقاش بدون إجابة قبل أن أستعرض ماقاله المخرج الكبير أثناء لقائه، الأسئلة كثيرة منها هل المطلوب من المثقف فى عالمنا العربى المتخلف أن يكون شهيداً وهو عار من أى درع يحميه ؟، ماهو مدى التسامح الذى لابد أن نتعامل به مع هفوات المثقف، أو هامش العفو الذى لابد أن نمنحه لسقطاته ؟، ولماذا يرتدى المثقف العربى دوماً ثوب المبرراتى طواعية ؟، وهل من ضمن مهامه تجميل القبيح وعمل ديكور لمخزن النفايات ؟، وهل العمل السينمائى مجرد شريط سيلولويد منفذ بحرفية وتقنية عالية أم أن الفكر الذى يحكمه هو الأهم ؟!.

عرض برنامج "إسهر معانا " مشهداً مفصلياً فى فيلم الأيام الطويلة وهو مشهد إستخراج الرصاصة من ساق صدام حسين، وهو المشهد الذى جعل الفيلم يواجه مصاعب جمة لأنه حسب تعبير توفيق صالح نقلاً عن حزب البعث أن الأجيال التى نريد إرسالها لكى تحارب فى فلسطين لاينبغى لها أن تشاهد الزعيم الملهم وهو يتألم ويتأوه، أى ببساطة لاينبغى أن يشاهد كإنسان ولكن كإله !!، ومن أهم ماذكره توفيق صالح فى هذه الحلقة المهمة "أنا لست خجلاناً من فيلمى، ولو عاد بى الزمن لأخرجته مرة أخرى "، أما من هاجموه فقد إتهمهم توفيق صالح بأنهم لم يشاهدوا الفيلم الذى وصفه بأنه أكثر فيلم جماهيرى ناجح لى وهو على المستوى الحرفى فيلم جيد، ووصف صدام بأنه كان رجلاً شجاعاً عنيداً وأنه عندما شاهد إعدامه عرف أنه كان على حق فى غضبه ورفضه لمشهد التألم من الرصاصة الذى قال أنه أعاد مونتاجه وأتى بالمشاهد التى يقف فيها الممثل مستعداً فى مرحلة ماقبل التصوير ليملأ بها فجوات الفيلم، أما عن مصير الفيلم نفسه فقد سمع توفيق صالح عن أنهم أحرقوا النيجاتيف بعد إغتيال بطل الفيلم بأوامر من صدام حسين الذى أصبح حماه وقاتله !!.
إنها قراءة لحلقة وثيقة أعتقد أن أسئلتها ستظل مطروحة بقوة على عقل المثقف العربى تستفزه هو ومجتمعه، وأهمها هل رصد حياة ديكتاتور دموى بدون أي سلبيات هو عمل فنى أم تزييف وعى ؟!!.


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف