كتَّاب إيلاف

الارهاب وجناية المثقفين

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

-1-

جناية المثقفين على الارهاب جناية كبيرة. وقد بدأ هذه الجناية الاخوان المسلمون حين باشروا بنشر فكرهم السياسي المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالارهاب، وأنشأوا (التنظيم السري) أو (التنظيم العسكري) في الأربعينات، الذي اغتال النقراشي باشا رئيس الوزراء المصري، وعدداً آخر من الرسميين المصريين. وحاولوا اغتيال عبد الناصر في ميدان المنشية بالاسكندرية 1954. وكذلك بدأت جناية المثقفين على الارهاب حين نشر سيد قطب كتابيه (معالم على الطريق) و (وفي ظلال القرآن) وغيرها، والتي توّجت سيد قطب لكي يكون، مفكر ومنظّر الارهاب الأول في الفكر العربي والإسلامي المعاصر.

-2-
كذلك، فقد كانت جناية المثقفين العرب على الارهاب من خلال أن معظم المثقفين والمفكرين العـرب من يمين ويسار ووسط تورّطوا في الخمسينات والستينات في أحزاب وفـرق وأيديولوجيات مختلفة، وانقسموا إلى فرق، وشيع، وقبائل، وعشائر، أخذت تتصارع وتغزو ديار بعضها بعضاً. وهذه الفرق والشيع ليست بين المفكرين العرب المعاصرين، وإنما هي أيضاً ظاهرة عالمية مثلها في أوروبا وأمريكـا. ولكن الظاهرة المميزة للمثقفين العرب في هذا العصر، هذا التعصب للأيديولوجيا على حساب الحقيقـة، وهذا الانتماء القبلي السياسي والفكري على حسـاب العدل. وكان ذلك مما أضعف حركة الحرية، وجعل منها هذا التعصب أزمة حقيقية ما زالت كامنة في الفكر العربي المعاصر حتى الآن. ومن هنا كان عدم انتماء مفكـر ما إلى "عُصبة وعصابات"، كما دعا الروائي الأردني الراحل مؤنس الرزاز الأحزاب السياسية في روايته " متاهات الأعراب في ناطحات السراب"، أو الانتماء إلى حركة "غوغائية كما دعا أُنسي الحاج الشاعر والكاتب اللبناني التيارات والأيديولوجيات التي كانت سائدة في هذا العصر (كلمات، ص61)، أو الانتماء الى قبيلة سياسية أو فكرية، نادرة من النوادر في الخمسينات والستينات من هذا العصر.
فإذا وُجد واحد منهم على غرار خالد محمد خالد، أو جبرا إبراهيم جبرا، ممن لم ينتسب إلى عُصبة أو قبيلة سياسية أو فكرية، كان ذلك من جادِ الزمان وزادِ المكان، لأن مثل هذين الرمزين أقرب إلى القديسين منهما إلى بني البشر حين رفضـوا التنازل، ولم يوسخوا تماسكهم الروحي بأي غوغائية، ووسط عالم عربي صاخب بالدعوات بقي هذا الكاتب عازلاً نفسه عن الخديعة مضموناً بحريته.

-3-
ويشرح لنا المفكر المصري حسن حنفي مؤسس تيار (اليسار الإسلامي) كيف كانت الثقافة والمثقفون جناية على الارهاب مما رفع من وتيرة الارهاب في العالم العربي، وجعل الارهاب فيما بعد هو خبز العرب وعسلهم. مما جعل من ظاهرة الارهاب الشغل الشاغل للمفكرين العرب المعاصرين، وذلك نتيجة للآثار الكبيرة والكثيرة التي تركتها ظاهرة الارهاب على المجتمعات العربية. ويتلخص شرحه بالنقاط التالية:

1- عدم نجاح أفكار وأيديولوجيات الخمسينيات والستينيات التي تبناها المثقفون، وظهرت فيها الدعوات القومية والاشتراكية والإسلامية والشيوعية. وتم التجويف التام لهذه الأفكار وهذه الأيديولوجيات، وانهيار مشاريع الإصلاح والنهضة، مما أدى إلى عدم القدرة على التعامل مع النظام العالمي الجديد، ومن الفشل على المستوى الثقافي والأيديولوجي والسياسي، والفشل في رؤية العالم في صورته الحقيقية. مما أصاب الأجيال بالاحباط، وجعلها تفتش عن وسيلة للانتقام الدموي.

2- سوء العلاقة بين المثقف الحديث وبين الإسلام. فمن المعروف أن هذه العلاقة ظلت علاقة رفض دائم للإسلام. فكان الذين يكتبون في الإسلام في نظر المثقفين الحداثيين والعلمانيين العرب متهمين بالرجعية واليمينية. فنشأ لدينا فكر الرفض غير المحاور، وغير المؤمن بالحوار، والذي أفرز في الأخير ظاهرة كظاهرة ابن لادن، التي لا تحاور، وإنما تستعمل لغة الموت وسيلة للحوار غير المجدي.

3- عدم حدوث انقلاب ثقافي في حياتنا العقلية. وعدم بدء حضارتنا الأخذ بمسار جديد ما زالت تتلمسه منذ حركات الإصلاح الديني الأخير، وبدايات الفكر القومي المعاصر، والاتجاه نحو الليبرالية في الفكر والحياة التي سرعان ما خبا باجترار ذلك الجيل من الليبراليين في النصف الأول وبدايات النصف الثاني من القرن العشرين القوالب الذهنية القديمة في أوروبا. وهذا أدى بالتالي إلى انفصام في شخصية وبنية الفكر العربي المعاصر، كما أدى إلى ازدواجية الشخصية العربية.

-4-
مما لا شك فيه أن العلاقة الملتبسة بين الإسلام والغرب أدت إلى حجب كل قراءة هادئة في الواقع الإسلامي للتجربة السياسية والمعرفية في الغرب. ويقول وجيه قانصوه المفكر اللبناني، أن كثيرين ظنوا أن حداثة الغرب يمكن أن تُشترى بالمال، وظن آخرون أنها تُكتسب بالمحاكاة. ورفضها آخرون بمقولة أنه يكفينا ما عندنا. وظل الغرب ذلك الآخر المعتدي الذي يُشك بنواياه ودوافعه. ولم يتمكن العقل الإسلامي من أن يفصل التجربة المعرفية والموقف السياسي. ولم تساعد مواقف الغرب وممارساته على مدى أكثر من قرن على تحقيق هذا الفصل. وهذا يُفسر سهولة استيعاب التراث اليوناني غير المعادي داخل الثقافة الإسلامية، وصعوبة هضم الغنى المعرفي والتقني للغرب الحديث رغم أن الفكرة اليونانية كانت بمثابة الأصل والمرتكز للفكرة الغربية نفسها.
فكانت هذه العلاقة الملتبسة واحدة من الأسباب الثقافية الكيميائية التي ساعدت في المختبرات المظلمة على تفاعل ظاهرة الارهاب وبروزها على هذا النحو فيما بعد.

-5-
علينا أن لا ننسى أن دفاع بعض المثقفين والمفكرين عن أنظمـة سياسية معينة، وعدم نقدها نقداً فكرياً موضوعياً، والتغنّي بمنجزاتها في مجال الحرية السياسية والفكريـة ما دام هؤلاء المفكرون جزءاً من السلطة الممدوحة، أو ممن تلقون العطايا المالية من هذه الأجهزة كما حصل - مثالاً لا حصراً - مع امير اسكندر الكاتب المصري في كتابه عن صدام حسين (صدام مفكراً ومناضلا ً وانساناً) وفؤاد مطر الصحافي اللبناني في كتابه (صدام الرجل والقضيه والمستقبل)، وحميدة نعنع في كتابها عن طارق عزيز (رجل وقضية) وعشرات الكتاب والكتب الذي زوّروا التاريخ وقبضوا اموالاً طائلة ثمناً لهذا التزوير . وهذا كله جعل القارئ في تيهٍ مما يقولون، ولم يعد يتبين الحق من الباطل، والليل من النهار، والأسود من الأبيض. واختلطت عليه الآراء والأفكار، وتاه بين العين واللسان وبين ما يُرى وما يُقرأ. ونضرب مثلاً آخر على ذلك وهو الباحث والسياسي السوري جورج جبّور الذي كان يشغل مديراً لمكتب الدراسات العامة في رئاسة الجمهورية السورية في الثمانينات. وحين أصدر كتابه "الفكر السياسي المعاصر في سوريا" امتدح واقع الحرية في سوريا في الفترة 1971وما بعدها، وقال مؤرخاً: "وقد تأكد اتجاه الحركة التصحيحية نحو صيانة حريات المواطنين وكرامتهم. وكان من نتيجة هذا التأكيد إلغاء كثير من التدابير القمعية التي كانت سائدة، ولوحظ أثر ازدهار الحريات في مجالات حياتية وفكرية شتى". (الفكر السياسي المعاصر في سوريا، ص303).
كذلك، فإن وقوف بعض المثقفين إلى جانب الديكتاتورية العربية ودفاعهم عن هذه الديكتاتورية بحرارة شديدة في ظل غياب الوعي، كان واحداً من أسباب أزمة الحرية العربية في الخمسينات والستينات على وجه الخصوص، عندما كانت أغلبية المثقفين العرب من اليسار إلى الوسط إلى اليمين يطبِّلون ويزمِّرون ويهلِّلون لعبد الناصر منصوراً كـان أم مكسوراً، صاعداً كان أم نازلاً، عادلاً كان أو مستبداً، مصيباً كان أو مخطئاً. فعندما حلَّ عبد الناصر الأحزاب في الخمسينات ووضع زعماءها في المعتقلات والسجون، ونفى الرأي الآخر، ونكَّل بالمعارضة، ثم جاء بالميثاق في العام 1962 وفصَّل ثوباً جديداً للحزب الديكتاتوري الواحد، هلَّل له بعض المثقفين الطليعيين، وقالوا له على لسان رجاء النقاش آنذاك: سَلِمَـتْ يداك "فالأمـل كل الأمل في الاتحاد الاشتراكي الذي نرجو أن يكون سدنا المعنوي العالي خاصة في هذه المرحلة التي بلغ فيها المد الثوري العربي درجة من القوة لم تُتح على الإطلاق للأمة العربية ربما منذ الثورة الإسلامية إلى اليوم" (التنظيم الشعبي والثورة الفكرية، مجلة الآداب، عدد9، بيروت، 1963). ومن الواضح هنا، أن رجاء النقاش كان يعني بالثورة الإسلامية هنا ظهور الإسلام. وبذا، وضع رجاء النقاش أهمية ظهور عبد الناصر وثورته جنباً إلى جنب مع أهمية ظهور الإسلام وثورته.
تلك هي جوانب من جناية المثقفين ومساهمتهم في ظاهرة الارهاب التي نعاني منها جميعاً الآن.

السلام عليكم.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف