وداعا يا سوبر ستار المحبّة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يشيّع العالم اليوم الجمعة 26\1 الأب بيير، ويودّعه الكبير والصغير. ألوف من الناس قد مدّ إليهم يد المساعدة، وكانوا في اليومين الماضيين يتهافتون أمام كنيسة مستشفى ﭬال - دو - غراس في باريس، منتظرين دورهم ليودّعوا نصير المشرّدين والفقراء. وصرّح قصر الأليزيه أن الرئيس الفرنسي جاك شيراك سيحضر مراسم الدفن التي تقام في كاتدرائية نوتردام، "كجزء من إجلال وطني للأب الذي سخّر حياته للمشرّدين".
يودّعه الفرنسيون الذين أطلقوا عليه، في استطلاعات عدة للرأي، لقب "أكثر شخصية شعبية في فرنسا". هذه هي البساطة الإنجيلية والإنسانية وهذه هي الشجاعة اللتين
تحدّثت وسائل الإعلام، حتى العربية منها، عن مآثر هذا الكاهن التسعيني... الذي غادر هذه الدنيا شابا في القلب المحب، ومدافعا استفزازيا عن حقوق الناس جميعا. ولن أطيل الحديث عن شخصه، فهو بات معروفا للقاصي كما للداني، لكني أنظر إلى الأمر اليوم من باب احترام فرنسا له، بالرغم من أنّ مساعيه لم تكن لطيفة دائما، بل كان على عراك دائم مع السلطات من أجل المصادقة على القانون المنشود وأفنى أكثر من نصف قرن بالمطالبة به، صونا لحقوق الناس الأساسيّة بحياة حرّة وكريمة. وقاد عددا من الإضرابات من أجل هذا الأمر.
فرنسا اليوم تودّع ابنها هنري جروييه ( اسمه الأصلي). ولم يتردّد الرئيس الفرنسي بدعوة الأمّة الفرنسية كلها الى " يوم وفاء وطني شامل" إكراما لروح الفقيد الكبير، الكبير عمرا والكبير قدرا والكبير انسانية. واعتبره الكثير من رفيعي الشأن، وعلى رأسهم شيراك : " ضميرا انسانيا حيا". فيما صرّح مدير عام اليونسكو، كويشيرو ماتسورا، من باريس أنّه : "سيبقى في ذاكرتي رجلا استثنائيا، وضع طاقته الروحية والجسدية، طوال حياته في خدمة الأكثر حرمانا".
تعيش فرنسا اليوم المبادئ الثلاثة التي قامت عليها ثورتها في القرن الثامن عشر: أي المساواة والأخوّة والحريّة. فلا تتردّد أنْ تكرّم أحد روّادها قليلي المثيل في القرن العشرين. وهو رجل الدين الصارخ في وجه الظلم. رغم كونها دولة علمانية دعت قبل سنتين إلى حظر ارتداء الرموز الدينية من الحجاب والصليب والقلنسوة اليهودية في أماكنها العامّة. لكنّها اليوم تقف وقفة إجلال وإكبار نحو رجل دين خاض حروبا شرسة، من بعد الحرب العالمية الثانية التي شارك بها، وساعد أشخاصا كثيرين على النجاة بحياتهم منها، لكنّ " حروبه" السلمية الأخرى، والتي انطلقت بشكلها الرسمي بعد 1954 حيث أعلن عن تأسيس حركة " عماوس" المطالبة بحقوق قانونية للمشرّدين، هي حروب لاعنفية وذات رسالة متأصلة في قلب الإنجيل الذي خدمه، من أجل خير الإنسان وبخاصّة الأكثر عوزا وضيقا.
تحية لروح الأب بيير الذي رحل بينما كان مدافعا عن حقوق الإنسان، بغض النظر عن جنسه أو لونه أو دينه أو قوميته. انّه مثال للعالم أجمع وللعالم العربي في واجب العمل الحثيث على سنّ قوانين تمنح جميع المواطنين مساواة كاملة، دستوريا على الورق، وواقعيا على أرض الواقع، فتكون أساسا صخريا متينا للمجتمعات الديمقراطية. وليكن شعار عمّاوس": "الإيواء، قضيّة عدالة " شعارا لكل شعوب الأرض.
وتحية لفرنسا التي تعرف كيف تتخطى علمانيّتها بوجهها السلبي، لتقف وقفة رجل واحد، مشيّعة أحد روّادها البارزين في القرن العشرين، رغم كونه مطالبا استفزازيا بحقوق الإنسان. انّ فرنسا اليوم تعطي درسا بليغا لدول العالم، وعلى رأسها الدول العربية، في واجب تكريم روّادها المحليين ونشطائها في الحقول كافة، وفي واجب إعلان يوم الوفاءات الوطنية، ليس للقيادات والزعامات السياسية فقط، بل حتى للقيادات والسوبرستارز الفكرية والروحية والإنسانية والاجتماعية، وبنظرتها الى الإنسان كإنسان بغض النظر عن عرقه أو دينه أو مركزه الاجتماعي. ما حدث اليوم في فرنسا، درس وعبرة للشعوب العربية التي تحتاج الى عقد جلسات ونقاشات حادّة أحيانا، من أجل إطلاق اسم أحد المواطنين الراحلين على أحد الشوارع، فيبقى المشاركون في النقاش في دائرة الأسئلة العقيمة حول "دين" هذا الشخص. فرنسا "العلمانية" تكرّم أحد "رجال الدين" من أجل دفاعه المستميت عن الإنسان. فلمَ لا تنهج شعوبنا العربية "المتديّنة" بالسليقة هذا النهج النبيل ؟
وداعا أيّها الختيار الريادي، نم هنيئا في أبديّتك، وادعُ من أجل المحبّة في هذا العالم الغائص بالأوجاع والدماء وقلة العدالة وغياب المساواة.
وهنيئا لفرنسا على هذه النظرة التقديرية لأحد روّادها البسطاء والشجعان، الذي حمل قلب الأطفال من جهة وبسالة المحاربين من جهة أخرى.
أمّا أنت أيّها العالم، فلنبحث معا عن خليفة للأبي بيير، فلا يبقى المكان الإنساني الذي شغره... فارغا.