وعي التخلف: د. الأنصاري والتجربة اليابانية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
من مفكرة سفير عربي خليجي باليابان
كتب الدكتور محمد جابر الأنصاري في مسألة ألهزيمة يقول "فالخطاب الفكري العربي-لم يتجاوز بعد بشكل حاسم المقولات العاطفية والوجدانية المرتبطة باللغة والتاريخ والمصير...إلى المقولات العقلية الواقعية التي لها علاقة بالهياكل الاقتصادية والصراع الاجتماعي والتنمية والسياسة الدولية." فها هو أستاذنا الفاضل يدعونا لمراجعة تاريخنا العربي الإسلامي بدراسات بحثية عقلية واقعية. وقد بداء اليابانيون بدراسة تاريخهم منذ انتهاء الحرب وحتى اليوم. فقد صدر كتاب مؤخرا بعنوان "من جسر ماركو بولو إلى بيرل هاربر.. من هو المسئول؟" تصور بعد أكثر من ستون عاما تشكل لجنة من الصحفيين من الصحيفة اليومية الأكثر توزيعا يوميوري لبحث المسؤولية التاريخية. وتصور لمن كان إهداء هذا الكتاب؟ أهدي الكتاب لجيرانهم الصينيون والكوريون وباقي دول أسيا التي عانت من ويلات الحرب والاحتلال. اليابانيون بحثوا تاريخهم بصدق ووعوه بضمير ,استطاعوا من خلاله أن يستقرءوا ويقرروا المستقبل. فقد لاحظتم بعدما أعلنت كوريا الشمالية تجربتها النووية، لم ينفعل اليابانيون، مع إن تكنولوجيتهم النووية السلمية متطورة، بل أصروا على الحوار الدبلوماسي والضغط الاقتصادي وحافظوا على سياستهم اللانووية ومحاربة هذا السلاح الرهيب الذي عانوا من دماره.
سأحاول في هذه الحلقات أن أعرض باختصار التاريخ الياباني من خلال تحليلي المتواضع ومناقشات وقراءات لكتاب يابانيين وغربيين. فقد يساعد ذلك القارئ العربي أن يخرج من الإحباط الذي يعيش فيه حيث سيجد بأن التاريخ الياباني لم يفترق عن تاريخنا من معاناة الفرقة والحروب الطاحنة والاحباطات. وقد نستفيد من تجربتهم لدراسة حقيقة تاريخنا لبناء مستقبل أطفالنا.
يعتقد المؤرخون بأن شعب اليابان متعدد الأعراق ومن أصول مغولية مع قرابته من الشعب لصيني والكوري. وفي حوالي القرن المائة قبل الميلاد وفي عهد "الجومون" بدءوا حياتهم بالصيد والعمل في في صناعة الفخار وتطور مجتمعهم في عهد "اليايو" (300ق.م.) إلى مجتمع زراعي وبنظام ري متميز لزراعة الرز، ثم برزوا في عهد "تولمولوس" (300 ب.م) كمجتمع سياسي وبقوة عسكرية. وبيداء تاريخ اليابان بأسطورتي كوجيكني ونهون شوكي التي تروي قصة هبوط أبن الآهة الشمس للأرض ومباركته لتبدءا دولة اليابان تاريخها وفي عام 660 ق.م. وفي القرن الرابع قبل الميلاد برزت قبيلة "الياماتو"، والتي تعتبر بأنها أصل الشعب الياباني، كجماعات منظمة في وحدات متخصصة في مجالات مختلفة كالزراعة وصناعة الفخار والنسيج وإنتاج البضائع، ومحكومة بإدارة مدنية وعسكرية، ويقودها زعماء العشائر وبمباركة الآلة. وبدأت نشأة ديانة الشنتو والتي تعني الطريق الالاهي، والقائمة على تقديس أرواح الأبطال والأباطرة والقوى الطبيعية. وفي حوالي القرن الأول بعد الميلاد بداء اليابانيون التعرف على حضارة الصين وسلالاتها الحاكمة، وفي عام 552 أدخلت الديانة البوذية أانتقالا من كوريا. وخلال القرن الخامس والسادس كانت البوذية العربة التي انتقلت من خلالها الحضارة الصينية إلى اليابان. ففي عهد "نارا " (710-794) تعلمت اليابان الكثير من الحضارة والثقافة الصينية، وأما عهد "هيين" (794-1185) أتسم ببزوغ وأفول البلاط الحاكم، وفي عهد "الكاماكورا" (1185-1333) تحولت اليابان إلى دولة المحاربين. ففي عام 1268 أرسل حفيد جنكيز خان خطاب لحاكم اليابان طالبا منه الاعتراف بسيادته على البلاد ودفع الجزية، ولكن اليابانيون تجاهلوا طلبه. فقام بعدة محاولات شرسة ،حتى موته عام 1294، لغزو اليابان ولكن جميعها باءت بالفشل، لبسالة المحاربين اليابانيين، وشدة الرياح والطوفان الذي أدت لتحطم سفن العدو. واشتهرت منذ ذلك الوقت تلك الرياح والطوفان "بالكاميكز" أي الرياح الالاهيه التي حمت أرض لألهه.
وفي عام 1333 بدأت حرب أهلية طاحنة في عهد "مروماشي" (1333-1568) أدت إلى خراب البلاد وتوقف عملية التقدم. وفي عام 1543 وفي فترة الاضطرابات الشديدة، "سينكوجوا"، وصل البلاد ثلاثة من الرحالة البرتغاليين بعد تحطم السفينة الصينية، التي كانت تنقلهم للصين، على شواطئ اليابان. وقد كانوا أول مجموعة أوربية تصل اليابان، لتجدها ممزقة بحرب أهلية طاحنة، ولوردات حرب يسرقون أراضيها، وحكومة ضعيفة وعاجزة.
وفي عهد "ازوشي مونوياما" (1568-1600) توحدت البلاد بعد حرب طويلة طائشة بفضل ثلاثة من القيادات القوية المتتالية وهم نوبوناجا، هايوشي، واياسو. ويكرر اليابانيون مقولتهم في هؤلاء الزعماء الثلاثة الذين وحدوا اليابان وأنقذوها من دمار الحرب الأهلية بقولهم" إذا لم يغرد الطير فنوبوناجا سيقتله، وهيديوشي سيقنعه ليغرد، وأما اياسو سينتظره حتى يغرد. فقد حارب نوبوناجا بشجاعة وشراسة وكسب جميع المعارك التي خاضها. وأشتهر بالعنف والشراسة، فقد قتل أخوه وكثير من أفراد عائلته، وكان يحرق الجنود الأعداء بالآلاف بعد هزيمتهم، كما أنه ذبح الكثير من الرهبان البوذيين خوفا من توجهاتهم. وخلفه هيدياشي وحارب بشراسة أيضا، فوحد البلاد وحاول غزو كوريا والصين ولكن هزم، وتوفى بعد مرضه. أما اياسو فاشتهرت فترته بعهد"التـوكوجاوا أو الايدو" (1600-1868) بعد انتصاراته في معركة سيكييجارا. وقد فرض نظام اجتماعي يقسم المجتمع إلى طبقات تبدءا بطبقة السموراي المحاربين ثم المزارعين وبعدها الصناع ومن ثم التجار. وتحدد الطبقة منذ الولادة وقد كان أهم تقسيم المواطنين إلى العسكر السمواري وباقي الشعب. وكان الأمراء العسكر "الشوجن" يمتلكون ثلاثة أرباع الأراضي وجميع المدن والموانئ والمناجم. وقيدت حركة التنقل للمحافظة على الاستقرار، كما أحتاج السفر لوثائق مرور، ومنع التنقل بأية وسيلة تستعمل فيها العجلة، ودمرت الجسور لمنع حرية الحركة، وفرض حضر التجول في المساء. وكان التعذيب والإعدام شائعا كعقاب للسرقة، وفرضت المسؤولية الجماعية وبقسوة. كما نفذت قوانين قطع الرأس لمعاقبة الجريمة، وزادت معاداة الأجانب، وبدأت مرحلة " البلاد المغلقة". وأشتد العنف ضد المسيحيون لاعتبارهم متآمرين مع الغرب، وكانوا يصلبون ويتم إلقائهم في الأحواض المغلية. وقد أدى هذا العنف والصرامة في الحكم للخوف والاستقرار في البلاد. وبداء الناس يتساءلون بعد ذلك عن دور العسكر السموراي في الواقع الجديد، وحس الشعب بأنهم طفيليين على المجتمع. وتفهم السموراي الوضع الجديد وبدءوا بنشر أخلاقيات "البوشيدو" بينهم. وقد تزامن الاستقرار السياسي مع التطور الاجتماعي والاقتصادي. وبرزت طبقة قوية من التجار كما طورت الفلسفة الكنفوشسية التعليم والتفكير الذهني والإبداعي. وبداء الناس يتساءلون عن أهمية دور الأمراء العسكر في المجتمع وخاصة حينما برز عجزهم وفسادهم على السطح. وفي شهر حولاي من عام 1853 وصل القبطان ماثيو بيري لشواطئ اليابان برفقة أربع سفن حربية وبأوامر من حكومته الأمريكية للحكومة اليابانية بفتح الشواطئ اليابانية للسفن الأجنبية للتزود بالوقود والتجارة الدولية. ورحل ليعود في شهر فبراير من عام 1854 برفقة أسطول حربي مكون من تسع سفن واضطرت اليابان للفتح الباب للخصم الأجنبي.
ولنتوقف لنكمل في الحلقة القادمة، ولنلاحظ بأن اليابانيون مع إن ديانتهم الشنتو تقبلوا الديانة البوذية بحكمة واستفادوا منها كناقلة لنقل حضارة الصين العريقة إلى اليابان. كما استفادوا من التعاليم الكنفوشسية لتطوير التفكير التحليلي الذهني وتقدم تعليمهم. ولم يسلم الشعب الياباني من حكم الطغاة ولكن عرف كيف يتعامل معهم ويكمل تطور المجتمع.
كاتب المقال سفير مملكة البحرين باليابان