قضية الأنفال في مراحلها الأخيرة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
تتجه الأدلة لتؤكد أن الأفعال التي تم ارتكابها من قبل المتهمين كانت بقصد الإبادة الجماعية وارتكاب الجرائم البشعة ضد الإنسانية من قبيل القتل العمد دون محاكمة والحجز غير القانوني وممارسة الوسائل غير الشرعية والأبعاد والترحيل والنقل والحرمان والاضطهاد، وبشكل عام فأن تلك الأعمال الإجرامية كانت منظمة ويتم ممارستها مقترنة بسبق الإصرار الذي أكد عليه المتهم علي حسن المجيد في أقواله إمام المحكمة، حيث أقر أثناء مناقشته تلك الأدلة ولأكثر من مرة بمسؤوليته وإصراره لحد لحظة المحاكمة على انه لو أتيحت له الفرصة مرة أخرى لما أقدم إلا على نفس السلوك والممارسة والأفعال التي تتم محاكمته بموجبها، والقصد من كل تلك الإعمال إبادة شعب كوردستان العراق بأكمله بالأشكال التي أوضحتها الوثائق المعروضة من قبل الادعاء العام.
فقد عرض السيد المدعي العام منقذ تكليف الفرعون في قضية الأنفال العديد من السندات الرسمية من البرقيات والكتب المعتمدة والمستوفية للشروط القانونية المستوجب توفرها في السندات الرسمية من خلال صحة صدورها وماهية محتواها، ولم يطعن بها المتهمين ولا وكلائهم بالتزوير، مما جعلها حجة على المتهمين كل وفق ما قام به من أفعال مخالفة للقانون، ومساهمته واشتراكه في هذه المجزرة البشرية.
أن الوثائق المعروضة أمام المحكمة بحضور المتهمين برقيات وأوامر وكتب رسمية صدرت عن وحدات وجهات رسمية تتعلق بفعل المتهمين ومسؤوليتهم وترتبط بالأفعال التي اتهموا بها، وتتجه الأدلة لتؤكد أن تلك الأفعال تتطابق مع الاتهامات الموجهة للمتهمين.
وخلال تلك الجلسات وأمام تلك الأدلة الدامغة أقر المتهم علي حسن المجيد إقرارا صريحا وواضحا عن مسؤوليته أزاء تلك الانتهاكات الإنسانية والأفعال الإجرامية، غير انه برر أقراره بظروف ارتكاب الفعل، ويقول القانون إن للمحكمة السلطة التقديرية المطلقة لتقدير أقرار المتهم والأخذ بت، خصوصا وأن هذا الإقرار اقترنت به أدلة اخرى تعززه وتؤكد صحته. (المادة 217 من قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي).
وكان وكيل المتهم فرحان الجبوري قد طلب من المحكمة هدر وثيقة رسمية بسبب عدم وجود تأريخ، مع أنها تتعلق بموكله وتحمل توقيعه، مما يجعلها وثيقة تصلح إن تقبلها المحكمة وتقتنع بها عند صدور قراري الإدانة والحكم، والمحكمة تقبل أي دليل له علاقة أو ذو قيمة في عملية الإثبات كما تقول الفقرة ثالثا من القاعدة 59 من قواعد الإجراءات وجمع الأدلة الخاصة بالمحكمة الجنائية العراقية العليا.
وكانت النصيحة التي قدمها المدعي العام لوكلاء المتهمين بضرورة ترك الخطابات السياسية والتركيز على الدفاع عن موكليهم، وهم متهمين بجرائم خطيرة، تأتي من باب الحرص على تحقيق التوازن بين الأتهام والإدانة،وهي كلمة مخلصة من رجل قانــــون يعتمد العدالة والموضوعية في العمل القضائي.
وإذ تمضي المحكمة في جلساتها وتتراكم الأدلة المعروضة أمامها، والتي لم يتقدم الدفاع بدحضها أو تقديم ما يفندها، بالإضافة الى عجز المتهمين بشكل جزئي من تحضير شهود الدفاع، وعدم معرفة عناوين بعض منهم، وهي مهمة تقع على عاتق المتهمين ووكلائهم، جعل من الوقائع المترتبة في هذه القضية المهمة مؤكدة وقوع تلك الأفعال من قبل المتهمين، خصوصا وأن المحكمة استمعت ليس فقط لشهادة المشتكين والشهود، وإنما استقدمت خبراء علميين ودوليين في مجال اختصاصهم، واستمعت بشكل تفصيلي الى تقاريرهم واستنتاجاتهم في الوقائع التي كلفوا بتدقيقها وإعطاء رأيهم العلمي كخبراء فيها.
مسألة توافر الأدلة في قضية مثل قضية جرائم الأنفال مسألة غاية في الأهمية، من خلال تبيان الواقعة وظروفها وتحديد المسؤولية الجزائية لكل متهم، ومن خلال تلك الأدلة التي ظهرت للمحكمة، أخذ يتوضح دور كل متهم من المتهمين، بالرغم من حجم الضحايا، وتأتي الأدلة في سياق في سياق أثبات تلك الأفعال الإجرامية، وما ظهر للمحكمة منها من الدلائل والقرائن أثناء دور التحقيق والمحاكمة، وحتى يمكن للمحكمة أن تستند على تلك الأدلة والقرائن وتشير اليها في الأسباب التي توردها في قراري الإدانة والحكم، والتي من خلالها تقوم المحكمة ببناء قناعتها في إصدار القرار النهائي للحكم في القضية.
وبناء عليه فان المحكمة تحكم بناء على قناعتها التامة التي تكونت من خلال الأدلة المقدمة المتمثلة في الوثائق والكتب الرسمية التي تدمغ فعل المتهمين، وفي إقرارات بعض منهم، وفي شهادات المشتكين والشهود، ومن خلال محاضر التحقيق والكشوفات والتقارير الفنية التي قدمتها جهات مختصة ضمن تقارير علمية معتمدة، مع اطمئنان المحكمة للقرائن والأدلة التي برزت في دوري التحقيق والمحاكمة.
ووفرت المحكمة فرصا عدة للمتهمين ووكلائهم لإحضار شهود الدفاع، وبالرغم من انتهاء المدد الممنوحة، فقد عادت المحكمة لتتيح للمتهمين فرصة أخرى تحقيقا للعدالة، وبعد إن تستمع المحكمة لشهود الدفاع، ستستمع للمتهمين الذين سيقدمون دفاعهم ووكلائهم بصدد الاتهامات الموجهة لهم، وستأخذ المحكمة بالاعتبار ما دار من إفادات مدونة أمامها في جميع مراحل المحاكمة.
وبعد ذلك تدخل المحكمة في مرحلة تدقيق الأدلة التي توفرت في القضية ودور كل متهم فيها وعلاقته بالأفعال الإجرامية المرتكبة.
وظهر للمتابع لشهادة المشتكين والمدعين بالحق الشخصي وهم من الذين اكتفت المحكمة الاستماع إليهم، باعتبار إن المدعين بالحق الشخصي والضحايا في هذه القضية يتعدى مئات الآلاف مما يجعل عمل المحكمة صعبا في الاستماع لهذه الأعداد، حيث أن هيئة الادعاء قدمت طلبا رسميا الى المحكمة بضرورة الاكتفاء بالعدد الحالي للمشتكين في قضية الأنفال نظراً الى كثرة عددهم الذي يصل الى ما يقارب 1175مشتكيا'.
وقال أن عدد المشتكين في قضية الأنفال كبير جدا وقد ارتأينا أن نكتفي بإفادة سبعين أو ما يقارب ذلك منهم وسيحتفظ البقية بكامل حقوقهم' التي يضمنها القانون.
وكان السيد المدعي العام منقذ تكليف الفرعون قد أجاد دوره ومهمته المناطة به قانونا، كما برز دوره الوطني والإنساني في جميع مراحل المحاكمة، وحقا كان ممثلا صادقا للحق العام.
إن جريمة الأنفال من الجرائم المستمرة حيث لايمكن إن تختزلها قضية واحدة أوفعل أجرامي واحد، لأن الجرائم العديدة والتي لاتحصى والأفعال المخالفة لأبسط قواعد الدستور والقوانين واللوائح الإنسانية والأعراف الدولية لايمكن أن تختزلها لجريمة واحدة قد يفهمها المتابع أنها معركة أو واقعة واحدة، ولأن تلك الجرائم التي لاتتمكن الأضابير التحقيقية إن تختزلها ضمن قضايا متعددة ومتشعبة، فقد جوزت القاعدة 32 من قواعد الإجراءات جمع تلك الجرائم بقضية واحدة باعتبارها معاقب عليها بمادة واحدة من قانون واحد، حيث إن الاتهامات التي تضمنتها القضية تتحدد في الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة بحق شعب كوردستان وجرائم الإبادة الجماعية التي أودت بحياة 182 ألف مواطن مدني وتدمير وحرق أراضيهم وقرآهم وإبادة حيواناتهم واستخدام كافة أنواع الأسلحة الخفيفة والثقيلة والمحرمة دوليا ومنها السموم القاتلة والقنابل العنقودية و النابالم وثم حجز العوائل تمهيداً لتصفيتها وفق الخطة المقررة والتي بدأ تنفيذها من قبل بعض المتهمين الحاضرين باجتهاداتهم وبقرارات منهم وبرغبة الطاغية في ما سمي بعمليات الأنفال.
كما إن الأدلة الأخرى الخطية المتمثلة في الأوامر والتعليمات التي ضمتها قرارات المتهم الأول الذي اوقفت الأجراءات القانونية بحقه لوفاته بالإعدام شنقا حتى الموت وبقية المتهمين، والأوامر الصادرة بصدد التنفيذ وطرق التنفيذ، وما عرضه الادعاء العام من بينات وأشرطة تسجيلية ضوئية وصوتية تدعم ارتكاب هذه الجريمة.
كل تلك الدلائل والبينات تعزز الاتهامات الكبيرة في هذه القضية، والتي تلزم المحكمة إن تستند عليها في حكمها باعتبارها من الأدلة التي طرحت والتي عززتها الأدلة الأخرى، باعتبارها نموذج لمئات الآلاف من الحالات التي حصلت في قضية الإبادة الجماعية، باعتبارها من صفحة من صفحات إبادة شعب كوردستان الذي اعتقد الدكتاتور انه يستطيع القضاء عليه بهذه الوسائل البربرية، والحقيقة إن كشف الأساليب وطرق القتل والوسائل المستعملة في قتل المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ بالطريقة التي كشفتها تقارير الطب العدلي والخبراء الآخرين، وكما أوردته بعض شهادات المشتكين، وعززته الدلائل الأخرى وما ستقوم المحكمة باستنتاجه من قرائن يدلل على استمرارية الجريمة باستعمال الأسلحة الكيمياوية ضد المدنيين والعزل من المواطنين الأبرياء، بالإضافة الى حجم الجريمة المرتكبة والغاية من ارتكابها وفق التفاصيل التي وردت.
و قد عبرت القضية الى مراحلها الأخيرة مع كل هذا الكم الهائل من الأدلة والمستندات المعروضة في القضية، وتوفرت للمتهمين ضمانات عدة في المحاكمة العلنية والمحاكمة العادلة والنزيهة، ومعرفة كل متهم بالتهمة الموجهة له واطلاعه على المستندات والوثائق التي تم اعتمادها في تلك الاتهامات، وأتيح له الوقت الكافي لتمكينه من أعداد دفاعه والاتصال بالمحامين، ووفرت له الحق في طلب المساعدة القضائية وتوكيل محام منتدب على نفقة الدولة، ومساعدته في تأمين إحضار شهود الدفاع، بالإضافة الى حقه في الصمت وعدم الإدلاء بإفادة وأن لايتم اعتبار هذا الصمت دليلا على الإدانة ولا على البراءة. وفي كل الأحوال لن يكفي إنكار المتهمين دفعا لإثباتها عدم مشاركتهم في تلك الأفعال، ومما يزيد من قناعة المحكمة بعد إجراء جميع التحقيقات القضائية في دور المحاكمة والاطلاع على مجريات التحقيقات الجارية، لتكشف بحكمها القضائي صفحة مشينة من صفحات الانتهاكات الإنسانية سواء في إعدام المدنيين أو قتل الأطفال أو دفن المصابين والأحياء في حفر أو قتلهم بشكل غادر أو الأبعاد غير القانوني أو تهديم القرى والبيوت واقتيادهم كرهائن أو شن الهجمات العسكرية المنظمة ضد السكان المدنيين، أو ارتكاب الانتهاكات الخطيرة للقوانين والدستور المؤقت، والتعمد في إحداث أضرار جسيمة بحق السكان المدنيين وتشريدهم، واستخدام الغازات السامة والكيمياوية القاتلة أو أية غازات أخرى، واستخدام الرصاص الخاص في عمليات القتل مثل الرصاص ذا الغلاف الصلب أو المتمدد أثناء الإصابات، واعتماد التعذيب، والاغتصاب وأهانه الكرامة البشرية والحط منها، وتعمد تجويع المدنيين وحرمانهم، وتشويه وأصابه بعض منهم وأحداث عاهات جسيمة من خلال العمليات التي سميت بعمليات الأنفال، والتي راح ضحيتها على أقل تقدير 182 إلف مواطن.
والجدير بالملاحظة أن الضحايا جميعا لم تتوفر لهم ابسط تلك الظروف، ولاعوملوا معاملة تليق بالأنسان، وقد تم استعمال الغازات الكيمياوية لأكثر من مرة وبشكل واسع وهمجي، ودون أي اعتبار، ومن اللافت للنظر إن الضحايا لم تتوفر لهم أية حقوق تجاه معاملة من يتم إثبات ارتكابه الأفعال الإجرامية، من خلال الأتهامات التي وجهتها المحكمة و التي تطابقت مع ظروف الجريمة، حيث لم يخرج الوصف عن ظروف القضية التي تبلورت في تنفيذ صفحة إجرامية ضد الإنسانية بقصد إبادة أكبر مجموعة بشرية ممكنة من شعب كوردستان في العراق تحديدا، مستخدماً القوات العسكرية وسلاحها العسكري من خلال تحريك قيادات تلك القطعات العسكرية، وتهديم القرى وتجريف المزارع وتخريب الطبيعة وغلق ينابيع المياه العذبة، بالإضافة الى استعمال الأسلحة الجرثومية والكيمياوية المحرمة شرعاً وقانوناً ضد المدنيين أو حتى في جبهات القتال لقتل تلك المجاميع البشرية وهلاك حيواناتها وزروعها، كما أنهم أوعزوا باستخدام عمليات الإعدام الجماعي للمدنيين ودفنهم في مقابر جماعية أعدت لهذا الغرض، وحيث وردت الشهادات معززة للوقائع التي أثبتت الضربات الكيمياوية التي تمت في مناطق معينة من أرض كوردستان شخصها المشتكين والشهود بدقة، والتي شخصت مسؤولية بعض المتهمين المباشرة، حيث تفاوتت شهادة بعض المشتكين بين المشاهدة العيانية وكون المشتكين أحد أطراف القضية سواء بإصاباتهم بالأسلحة الكيمياوية، أو بخلاصهم شخصياً من تنفيذ أفعال الإعدام التي طالت مئات الآلاف من المدنيين، بسبب إصاباتهم وانسحابهم أو ظروفهم التي مكنتهم من التسلل والهروب من الحفر التي أعدت لردمها فوق جثث المصابين، ومساعدتهم من قبل بعض السكان المدنيين القريبين من أماكن المقابر الجماعية، بالإضافة الى مشاهداتهم عمليات التدمير والإحراق وإلحاق الضرر الجسيم بالقرى والقصبات المدنية، وتعززت تلك الشهادات بالإضافة الى اليمين التي أداها كل من المشتكين والشهود، تمتعهم جميعا بالإدراك وقوة البينة التي وردت على لسان المشتكين والشهود مما أزال عناصر الشك والريبة عن تلك الشهادات المهمة، فإنها كانت منتجة في القضية ومتطابقة مع الواقع، وتشير الى حقائق دامغة في إصرار المتهمين على تنفيذ أفعال الإبادة الجماعية بحق الضحايا مهما كانت أعمارهم أو أجناسهم بشرط إن يكونوا من أبناء الكورد، وبهذا عززت تلك الشهادات باعتبارها بينات على حقيقة ما تم توكيده في إحداث ضمتها صفحة من صفحات جريمة الأنفال، ليتم تطابق التهمة الواردة في قرار الإحالة طبقاً للاتفاقية الدولية الخاصة بمنع جرائم الإبادة الجماعية المعاقب عليها بتاريخ 9 كانون الأول 1948، والمصادق عليها من قبل العراق بتاريخ 20 كانون الثاني 1959.
وفي كل الأحوال تبقى عيون الضحايا من ابناء كوردستان ترنو الى البشرية بشكل عام تعرض ما أصابها بصمت، وتفضح بهذه الجريمة الحملة الإجرامية التي اعلن عن قتل 182 ألف مواطن مدني من الأكراد بجريرة قوميتهم، وتفضح ايضا العقليات التي كانت تحكمهم بالحديد والناس وتسلب منهم ليس فقط حقوقهم الشرعية والقانونية، وإنما تسلب حقهم الأنساني في الحياة.
الأطفال الرضع ومن لم يتعلم لغة الكورد، والشيوخ والعجائز الذين صاروا في أواخر اعمارهم جميعهم تعرضوا لتلك المجازر، وحق على الإنسانية إن تتعرف على معالم تلك المحنة التي مرت على الكورد في العراق، ومحن الكورد متعددة ومختلفة، لكن ما لحقهم من جراء أفعال شريرة وغادرة وهمجية، من قبل ساسة حكموا العراق وأصبحوا قادة لجيشه وكل امكانياته، وسخروها لقتل الناس بهذه الأعداد، وخربوا تلك القرى الكوردستانية الجميلة والمعطاء، ولوثوا الهواء وأفسدوا الحياة، من أجل أن تتحقق رغباتهم الشريرة وأفكارهم التي ستثبت للمحكمة أنها افكار لاتمت للأنسان بأية صلة.