القانون... حرية الرأي … والاستقرار السياسي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
من مفكرة سفير عربي في اليابان
لقد سببت ندوة الأسبوع الماضي بجامعة كولومبيا الأمريكية إرهاصات فكرية متباينة. ففريق استنكر عدم أعطاء سعادة الرئيس الإيراني احترامه وحقه في الندوة، وفريق آخر استنكر دعوة الرئيس المتهم بإنكاره للمحرقة النازية، والفريق الثالث أعترض لاعتقاده بأن الفكر المخالف والمتطرف ليس له حق التعبير في الجامعات الأمريكية، بينما الفريق الرابع أيد الدعوة لإيمانه بأهمية حرية التعبير لأي رأي كان ومهما كان مخالفا ومتطرفا.
والملفت للنظر، هو إصرار رئيس جامعة كولومبيا على دعوته للرئيس الإيراني مع علمه بأن هناك خلاف عدائي بين الحكومة الأمريكية والإيرانية، كما أن اللوبي الإسرائيلي، القوي جدا في مدينة نيويورك، والمتبرع السخي للجامعة، أستنكر بشدة الدعوة. فالسؤال لعزيزي القارئ ما سبب إصرار لي بولينجر، رئيس جامعة كولومبيا، على دعوة الرئيس الإيراني؟
تخرج البروفيسور لي بولينجر من جامعة اوريغن، وحصل على درجة الدكتوراه من جامعة كولومبيا، وبعدها التحق كأستاذ بكلية الحقوق بجامعة ميتشيغن ثم عين عميد لها عام 1987. وأنتقل لجامعة برنستون، قبل أن يعين رئيسا لجامعة ميتشيغن عام 1996. وقد أشتهر باهتمامه بالطلبة، فقد جمع حوالي مليار دولار من التبرعات لمساعدة الطلبة وإنشاء كليات جديدة لجامعة ميتشيغن. وعين في عام 2002 رئيسا لجامعة كولومبيا بنيويورك. ويعتبر من علماء القانون في الولايات المتحدة، والمعروف عنه بالدفاع عن التعديل المشهور في الدستور الأمريكي والذي يؤكد، "بأنه لا يحق للكونجرس أن يصدر تشريعا يقلل من حقوق حرية التعبير."
وقد أنشهر بولنجر بقضيتي رأي عام. أحداها تتعلق بالسماح بمظاهرة لمجموعة صغيرة من النازيين الجدد. والأخرى شكوى لطالبة أمريكية بيضاء اتهمت جامعة ميتشيجن الأمريكية، حينما كان بولنجر رئيسا لها، بالتفرقة العنصرية، وذلك لقبولها طالبة، أفريقية الأصل، لكلية الحقوق بدلا عنها، مع أن علاماتها كانت أقل. وقد دافع بولنجر بحزم عن هذا القرار، ولكن نقضته المحكمة، فرفعت الجامعة دعوة أستئنافية للمحكمة العليا، فربحت القضية. ومنذ ذلك التاريخ، اعتمدت الجامعات الأمريكية هذا القرار في اختيارها لطلبة الفئات الفقيرة.
وقد ألف بولينجر حول القضية الأولى كتابا، في عام 1986 بعنوان، مجتمع التحمل: حرية التعبير والتعبير المتطرف في أمريكا. ويناقش الكتاب القضية الأنفة الذكر والمتعلقة بمجموعة صغيرة من النازيين الجدد، الذين طلبوا في عام 1977 رخصة للخروج في مظاهرة بمدينة سكوكي الأمريكية، والتي يقطنها عدد كبير من اليهود الناجين من المحرقة النازية. وقد رفضت الحكومة المحلية طلب الخروج في مظاهرة. فقامت هذه الجماعة برفع دعوى قضائية، وربحت فيها القضية بسب التعديل المعروف في الدستور الأمريكي المتعلق بحرية التعبير. وقد تحولت هذه القضية لقضية رأي عام، واستمرت المناقشات حول السؤال: هل يجب أن يحمي الدستور حرية الآراء المتطرفة والتي تسيء للدين أو لطائفة عرقية معينة. ومع الأسف بأن الدستور الأمريكي لا يحتوي على إجابة صريحة لهذا السؤال، مما أدى لتنظير علماء القانون آراءهم المختلفة.
وهناك ثلاث نظريات قانونية حول هذا الموضوع. النظرية الأولى هي المعروفة بالنظرية التقليدية والتي تؤمن بأهمية حرية الحوار في المجتمع وضرورة رفع الحكومة يدها عن المساس بحرية الرأي، بحجة أن حرية الحوار في المجتمع ستظهر الحقيقة التي يمكن أن يستنير بها المجتمع. كما أن كبت التعبير عن الرأي يؤدي للعنف، وتتحول الأفكار المتطرفة والغير بنائه إلى انتقاد نضالي مترافق بتأيد جماهيري عاطفي. وتعتمد هذه النظرية على فكرة للمحامي اوليفر وندل هولمز وهي تقول، "بأن أفضل تجربة للحقيقة هي أن يتقبلها الناس من خلال عرضها في سوق المنافسة الفكرية." وقد أنتقد بولنجر هذه الفكرة لاعتقاده بأن سوق الفكر الحديثة هي الإعلام، والتي تحركها قوى سوق المال.
والنظرية الثانية هي نظرية الغابة، والتي تؤمن بأن الخطورة ليست سلطة الحكومة، بل هي سطوة رأي الأغلبية، الذي قد تتجاوز حقوق الأقلية. والمعضلة هي في كيفية حماية القوانين حقوق هذه الأقلية من سطو رأي الأكثرية، والذي يكون في أكثر الأحيان متأثرا بعدم تحمل الاختلاف في اللون أو الدين أو الثقافة المجتمعية، لا بسبب البحث عن الحقيقة. والخوف الحقيقي، هو حينما تشرع الأكثرية لأحكام تضر بالأقلية، ويضطر القضاة للرضوخ لها، وحتى أن لم تكن عادلة، وذلك خوفا من بطش رأي الأكثرية.
والنظرية الثالثة هي نظرية التحمل العام لبولينجر، والتي تجمع بين ضرورة حرية الرأي وعدم تدخل الحكومة، وبين التخوف من ضرر رأي الأكثرية على حرية تعبير الأقلية. ويقول البروفيسور، "حينما نخمد تعبير الرأي المخالف لعقائدنا وسلوكنا نشل تحمل حرية التعبير، والتي تعتمد على حرية التفكير والتساؤل وما تنتجه من إبداع، وبالنتيجة نهدد قيمنا وأمننا المجتمعي. ونحاول بالتحمل، أن نؤكد بأننا نستطيع السيطرة على عواطفنا في تعاملنا مع اختلاف الآخرين، كما نكتشف مدى التزامنا الأخلاقي بقبول تحمل آراء التي قد نعتبرها متطرفة. ولنتذكر بأن التعبير المتطرف هو أيضا انعكاس لعقول لا تتقبل تحمل الاختلاف، ويجب أن نمرن عقولنا لألا نكون منهم."
وباختصار مفيد، فهناك فريق يؤمن بمنع أعطاء الفرصة لحرية الكلام للأفكار المختلفة "والمتطرفة". وفريق آخر يعتبر حرية الرأي حق كل مواطن. ويعكس تطرف الفكر زيادة ضغوط والإحساس النفسي بالظلم والاضطهاد. وأن لم نسمح لهذه الضغوط لتنفس عن ما بداخلها من خلال حرية الكلمة، ستتحول إلى خطرا مجتمعي بعنف مادي جسدي، يؤدي إلى زيادة التطرف والإرهاب والانفجار الثوري العنيف الذي قد لا تحمد عواقبه.
وقد وضح بولنجير في نقاشه أربعة نقاط مهمة، وهي: بأن الجامعة هي مركزا للحوار وتفاعل الأفكار وإبداعاتها، لذلك من الضرورة أن يمارس الطلبة حرية التعبير فيها. كما يجب ألا يفهم بأن أعطاء الفرصة للآخرين للاستماع لأفكارهم، تعني تأيدها أو الرفع من شأنها. وفرصة الحوار لا تتعلق فقط بحرية التعبير للمتكلم، بل تتعلق أيضا بحقنا أن نستمع للآخرين ونحاورهم. وهناك ضرورة للتعرف على أفكار الخصم، لكي نمرن الشجاعة الذهنية والعاطفية لمجابهة الأفكار المخالفة. وهناك أيضا الحاجة للتحمل والسيطرة على المزاج والعواطف للتعامل مع الأفكار المتطرفة بطريقة صحيحة. وتوجهنا حرية التعبير بالسيطرة على عواطفنا، والتي قد تحبطنا من التعامل مع الأفكار التي نمقتها ونخافها. ويلتزم رجال العلم لمعرفة الحقيقة، فهم لا يملكون القوة، ولا يستطيعون أن ينشبوا حربا أو سلما، ولكن يستطيعون صنع العقول، ولذلك هناك حاجة للحرية الكاملة للتساؤل.
والسؤال لعزيزي القارئ هل من الحكمة أن تسمح مجتمعاتنا العربية للأفكار المخالفة والمتطرفة لتعبر عن رأيها بحرية؟ وهل كبت هذه الأصوات تزيد من تطرفها وتكسبها قوة جماهيرية عاطفية عارمة، قد تؤدي لانفجار ثوري مدمر؟ وهل حرية التعبير تطور الأنظمة وتزيد شعبيتها، وتساعدها اكتشاف نقاط ضعفها، وتكون صمام أمان أمام التطرف والإرهاب؟
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه