كتَّاب إيلاف

الخلفية الثقافية للسياسة الدولية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

لا شك في ان العالم اليوم دخل مرحلة جديدة، تهيمن فيها "امتثالية ثقافية شديدة " ذات طابع تسلّطي، فالسياسة الدولية تشهد حراكًا مستمرًّا، يعكس بدون شكّ صور النزاعات الثقافية الكامنة وراءه، صحيح انّ العناوين المطروحة للنزاعات لا تبدو ثقافية للوهلة الأولى، لكن عند تمحيص مضامينها وسياقاتها تظهر بوضوح المعالم الثقافية الكامنة فيها، فهي مرحلة يتم السعي من خلالها إلى فرض رؤية أحاديّة للعالم، والتهرب من أي حسّ نقدي في سياق محاولتها منح شرعية فلسفية للقوّة الساعية إلى فرض رؤية ذات بعد واحد على بني البشر، والتي لا تكفّ عن الترويج لما تسمّيه التبادل الاقتصادي الحرّ.

إن النموذج الثقافي الذي يصنعه المحافظون الجدد للقرن الحادي والعشرين، مغايرتماماً لنموذج القرن العشرين الذي طغى عليه الطابع الأوروبي لفلسفة الأنوار، وصعود القوميات الوطنية وحرية الإنسان، والتحرّر من مختلف أشكال القمع والعبودية، ومبدأ حقّ الشعوب في تقرير مصيرها،فالإدارة الأميركية الحالية تفرض نموذجًا متعجرفًا مع عودة العامل الديني كحلقة محورية صلبة، تسم بسماتها المجتمعات الأخرى، وهويختلف عن النموذج الأوروبي السابق، لأن هذا الأخير منقسم بين ثقافات متعددة منها الاسكندنافية والفرنسية والجنوبية والأنغلوساكسونية وجرمانية وسواها، و التي لم تكن على وئام مع كل من الكاثوليكية والبروتستانتية والأورثوذكسية.

إن ذلك تدركه بوضوح إدارات الدول الأوروبية، التي تعي ضحالة الثقافة الأميريكية ومفرداتها، فأوروبا بوصفها قارة "قديمة" أعمق حضاريًّا واكثر احتكاكًا ومعرفة بالشعوب الشرقية من أميركا، وان ادارة الدول الاوروبية، وان وافقت الادارة الاميركية على "مشاريعها"، في الشرق والغرب والشمال والجنوب، إلا أن أفرادها يعرفون بعمق وحق المعرفة، أن ما تقوم به الادارة الاميريكية لا يعدُّ عملا حضاريا ولا يخدم الإنسانية، بل لا يخدم سوى مصالح "أفراد" يتحكمون "باقتصاد البشرية "، التي تصب أموال النفط والمصارف العالمية في جيوب كبرى "العائلات الثرية في العالم" وفي "ميزانيات مصانع الأسلحة الفتاكة "، فشركات النّفط كانت المستفيد الأكبر من سنوات الإدارة الحاليّة، فنحن أمام اشبه ما يكون بالمافيا، ولسنا أمام عمل مؤسساتي واضح المعالم كما اننا لسنا أمام "حرب عادلة"....

وعند تمحيص مضامين محادثات السلام نجدها مغايرة لما ساد في القرن الماضي لأنها تحمل في طيَّاتها هيمنة واضحة و تمارس على الشعوب عقدة "فوقيتها " من جهة، كماتدعي لنفسها "معرفة الحقيقة".....فأين "الديموقراطية " وهل الديموقراطية تعني مجرد "تمثال "يوضع على بوابة المدن....

فالمشهد الثقافي الحالي يعكس التداخل بين مفهوم الدولة ومفهوم الأيديولوجيا بوصفها مجموعة الأفكار والخطابات والتصورات التي تعتنقها النخب السياسية لشرعنة وجودها في السلطة او لممارسة عمليات الإقناع بأحقيتها في الوصول إليها، وان اوضح مسرح لتلك العمليات هو الشرق الاوسط.

والمؤسف أن "صدام الحضارات" الذي طرحه هنتنغتون، اجتاح عالمنا الثقافي، بالمعنى الديني، لأنه فرض نفسه كأيديولوجية جديدة، أو كنظرية ثابتة لا نقاش فيها فهذه النظرية ترى أن القرن الحادي والعشرين سيشهد مواجهة محتدمة بين عالم مسيحي ـــــ يهودي ـــــ ليبرالي، منفتح ومتسامح، ويحمل مشعل التقدم، وعالم "الإسلام الرجعي المتخلّف التسلطي والعنفي والمنغلق على نفسه".
هذا التصّور يدل على أزمة الأصولية المسيحية ذاتها، المتمثلة اليوم بالمحافظين الجدد في الولايات المتحدة. لكنّ هذه الإيديولوجية، تثير كذلك وعياً جماعياً ضدّ الغرب، لا يميّز بين قيمه الحضارية ومبادئه الديموقراطية من جهة، والاتجاهات الاستعمارية لبعض ساسته وحكامه من جهة ثانية. وعند التدقيق في حيثيات الخطاب السياسي السائد منذ 11 أيلول 2001، نجد أن بنيته نفسها هي التي كانت سائدة زمن الحرب الباردة، رغم كل المتغيّرات الكبرى في الساحة الدولية، فحلّ "محور الشرّ" مكان "إمبراطورية الشر"، وجاء مفهوم الإرهاب ذي اللون الإسلامي، ليحلّ محلّ التهديد أو الخطر الشيوعي.

إن المشكل الأساس يكمن في حصر مفهوم الحضارة بالدين فقط وهو الذي لا يشكل سوى إحدى مكونات الثقافة، إن هنتينغتون قصد من خلال أطروحته صراع الحضارات صراع الأديان فوقع في نفس المطب الذي وقع به سيد قطب من قبل عندما اختزل الحضارة بالاسلام فقط.

إن المقولات الشائعة مثل: "العالم العربي ـــــ الإسلامي"، "الغرب اليهودي ـــــ المسيحي" تحمل في طياتها الكثير من التبايات والفروقات الكثيرة، إذ إنّ الإسلام في المغرب العربي كموريتانيا يختلف عنه في الخليج كالسعودية وهو مغاير عن إيران أو باكستان أو تركيا أو مصر. كما أن الغرب ليس يهوديًّا أو مسيحيًّا...
إن الحديث عن صعود حركات إثنية و طائفية ليس بجديد، أما في أيامنا هذه فأصبحت الهوية الدينية تغلّف كل شيء، عبر مقولات ومصطلحات عديدة تكرس الهويات الطائفية،وربما تكمن الأزمة في أن الحركات الأصولية في المنطقة كانت انعكاس لإخفاقات التنمية وجور الأنظمة وكانت كمرآة للجيو سياسي على الدوام الأمر الذي أدى الى الوقوع في الحصرية التي تُحمّل الدين الإسلامي ما تمثّله الحركات الأصولية.

فهل نحن اليوم أمام "عودة" اللاهوتي الديني إلى المعترك السياسي، أم أن اللاهوتي يُستخدم كوسيلة في النزاعات السياسية؟

إن "المسألة اللاهوتية " شديدة التعقيد، ويمكن القول إننا لا نشهد عودة الدين إلى الساحة العالمية، بقدر ما نشهد استخدامه من طرف جماعات متشدّدة لأغراض سياسية واقتصادية لا علاقة لها بحقيقة الدين وجوهره بوصفه علاقة بين الكائن والمكوّن.

لذلك لا بد من إعادة طرح جملة من الأسئلة عن مآل الحداثة وأزمتها، وتجديد التساؤل بشأن إمكان الوصول إلى عقد علماني دولي، ينقذ العالم من دوامة العنف التي تكتسي طابعاً دينياً في أيامنا هذه كما ينبغي ان لا ننظر الى كل قيم الغرب على انها معادية،ومن الحلول المطروحة هو إعادة الاعتبار إلى فلسفة الأنوار بمبادئها الأساسية، والاستناد إلى ما قدّمته الحداثة من تقدّم وتطوّر، والاعتراف بالآخر رغم الفروقات والاختلافات، والوصول إلى عقد دولي يؤمّن السبل الأفضل لإنقاذ البشرية من "طاعون" التعصّب والطائفية والعنصرية.

كاتبة لبنانية
Marwa_kreidieh@yahoo.fr
Marwa_kreidieh.maktoobblog.com

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف