كتَّاب إيلاف

سنن الوجود (2 من 2)

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

تحدثنا في سُننُ الوجود (1/2) مقالة سابقة عن أن الخالق العظيم قد أبدع هذا الوجود على نهج من السنن (= القوانين) المُطَّردة التي لا تتغير ولا تتبدَّل ولا تتحوَّل، وعرضنا صفات هذه السنن التي تحكم كل ما في هذا الوجود من مخلوقات بما ذلك حياة الأمم والأفراد، إلا أن بعض الباحثين يشككون بهذه الصفات متذرعين ببعض النظريات المعاصرة التي تتحدث عن قانون الاحتمالات نافين بذلك القول بثبات السن واطرادها، ونناقش اليوم هذه الإشكالية.

السنن والمصادفة:
ورب معترض يرفض هذه النتيجة التي انتهينا إليها، محتجاً بأن سجلات التاريخ حافلة بالوقائع التي تدل دلالة واضحة على دور المصادفة في تسيير هذا الوجود، وبخاصة منه التاريخ البشري الذي لا يفتأ، بين الحين والآخر، يفاجئنا بحوادث غير متوقعة، تحرف التاريخ عن مساره وتغير مجرى الأحداث تغييراً جذرياً، وقد تعجل حصول بعض النتائج، أو تؤخر حصول بعضها الآخر.. فأين هي تلك السنن الصارمة التي تزعمون أنها تنتظم مسيرة الوجود؟!
وعند التدقيق في هذا الاعتراض نجد أنه في الحقيقة لا يقوم على أساس من العلم، فالقول بتغيير مجرى التاريخ ليس سوى ظنٍّ ووهم، فمن أدرانا أن التاريخ كان يفترض أن يسير على هذا النحو أو ذاك؟ إن هذه المسألة غيب لا يعلمه علم اليقين إلا الله عزَّ وجلَّ، وتقدم لنا سجلات التاريخ الدليل تلو الدليل على أن لمسيرة التاريخ منطقاً آخر لا يطابق في كثير من الأحيان توقعاتنا أو تصوراتنا.. وقد ذكرت كتب التاريخ وقائع طريفة جداً عن حوادث عرضية تافهة أدت إلى نتائج عجيبة غريبة فاقت كل التوقعات، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر أنه (حينما امتنع القائد العسكري Bajazet بسبب إصابته بالنقرس عن السير إلى وسط أوروبا، فإن المؤرخ جيبون لاحظ أن مزاجاً حاداً يصيب شخصاً ما قد يمنع أو يؤخر بؤس أمم عديدة، وحين توفي الاسكندر اليوناني نتيجة عضة من قرد مدلَّل فإن تلك الحادثة افتتحت سلسلة من الأحداث دفعت السير ونستون تشرشل إلى القول: إن ربع مليون إنسان ماتوا نتيجة عضة القرد تلك. أو لنأخذ تعليق الزعيم الروسي تروتسكي على الحمى التي أصابته حين كان يصطاد البطَّ البريَّ وقد أصابته في لحظة حاسمة من نزاعه مع زينوفييف وكامنييف وستالين في خريف 1923، فقد علق قائلاً: بوسع المرء أن يتنبأ بثورة أو بحرب، ولكن يستحيل عليه أن يتنبأ بعواقب رحلة خريفية لصيد البط البري) .
فهذه الحوادث وأمثالها لا تدل على أن المصادفة هي التي توجه مسيرة الوجود، بل تدل على قصور رؤيتنا لخط التاريخ ومآلاته النهائية التي قد لا تظهر إلا بعد زمن طويل، ولعل خير دليل على ما نقول بعض قصص القرآن الكريم، فهل كان مثلاً إلقاء نبي الله يوسف عليه السلام في الجُبِّ ثم التقاطه من قبل بعض المسافرين العابرين، ثم شراؤه من قبل امرأة العزيز في مصر ووصوله إلى أعلى المناصب.. هل كان ذلك كله مجرد مصادفات لا ضابط لها؟ وهل كان إلقاء موسى عليه السلام في اليَمِّ، ثم التقاطه من قبل آل فرعون ليتربى في حِجْر عدوِّه فرعون، ويقضي على ملكه آخر المطاف، هل كان ذلك كله مجرد مصادفات عشوائية لا طائل من وراءها؟
لا.. أبداً.. فإن هذه الشواهد ـ وأمثالها كثيرة في القرآن الكريم وفي سجلات التاريخ ـ تدل دلالة قاطعة على أن وراء الأحداث مدبراً قادراً حكيماً هو الذي ينظم حركة الوجود وفق سنن ثابتة مطردة لا تتبدل ولا تتحول، ربما أدركنا بعضها، ولكن مازلنا نجهل الكثير، وهذه السنن التي نجهلها تحتاج منا الكثير من التفكير والجهد والبحث حتى نستطيع اكتشافها وتسخيرها، وكلما اكتشفنا واحدة منها ازدادت مساحة تمكيننا في الأرض، وازدادت معها قدرتنا على التنبؤ بالمستقبل وتوظيف أحداثه في صالحنا (انظر فصل: آفاق المستقبل).
والخلاصة، فإن القول بالمصادفة في نظام هذا الوجود ما هو إلا تعبير عن عجزنا عن فهم هذه النظام والسنن التي تحكمه، والذين لا يؤمنون بهذا النظام وهذه السنن، ويستسلمون إلى وَهْم المصادفة والعشوائية، إنما يُلقون بمصائرهم في مهب الريح، ويرتكبون بحق أنفسهم، قبل غيرهم، خطأ جسيماً سوف يدفعون ضريبته مستقبلهم كله.. والويل لمن يفرِّط بمستقبله!

نظام كوني متكامل:
ومن الجدير بالملاحظة هنا أن السنن التي تحكم هذا الوجود لا تعمل منفردة، كل واحدة على هواها، بل هي تعمل معاً بانسجام تام، وتشكل فيما بينها نظاماً واحداً مترابطاً يدل بانسجامه وتكامله على وحدانية الصانع سبحانه، ومما يدل على هذا التكامل والتداخل والترابط بين السنن قول النبي : ((لم تظهر الفاحشةُ في قومٍ قَطُّ حتى يُعلنوا بها إلا فَشَا فيهم الأوجاعُ التي لم تكنْ في أسلافهم، ولم يَمْنَعوا زكاةَ أموالهم إلا مُنِعُوا القَطْرَ من السَّماءِ ولولا البهائم لم يُمْطَروا، ولم يَنْقُضوا عهدَ اللهِ وعهدَ رسولِهِ إلا سُلِّطَ عليهم عدوٌّ من غيرهم فيأخُذَ بعضَ ما في أيديهم، وما لم تَحْكُم أئمتُهم بكتابِ اللهِ إلا جُعل بأسُهم بينهم)) ، ففي هذا البيان النبوي البليغ دلالة واضحة على ارتباط السنن بعضها ببعض، ومنها ارتباط ظهور أوبئة جديدة بتفشي الفواحش في المجتمع، وما ظهور داء الإيدز في أواخر السبعينيات من القرن العشرين إلا دليل دامغ على هذا الارتباط الذي يمثل سنة إلهية مطردة، فقد جاء هذا الداء القاتل نتيجة حتمية لتلك الموجة العارمة من الإباحية الجنسية التي تفشت في أعقاب الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، ووصل الأمر بمروجيها أنهم أباحوا الزواج المثلي رسمياً بين الرجل والرجل، والمرأة والمرأة، ورخصوا رسمياً لنوادي العراة، ونقابات الشاذين والشاذات!
ومن الدلائل على تكامل هذا النظام السنني أيضاً ما أشار إليه النبي  من ارتباط نزول المطر بإخراج الزكاة، بالرغم من أن هطول المطر ظاهرة مناخية تتطلب درجة معينة من الضغط الجوي والحرارة والرياح، أما الزكاة فهي فعل اجتماعي محض، وكذلك الارتباط ما بين تبعية المؤمنين لأعدائهم وبين الحيدة عن منهج الله، وتفشي النزاعات في المجتمع عندما لا يحتكم ولاة الأمر إلى كتاب الله!
وهكذا نجد الدليل تلو الدليل على تكامل السنن الإلهية التي تنظم مسيرة هذا الوجود، وهذا ما أثبته العلم أخيراً بما لا يدع مجالاً للشك، فقد عرف العلماء في غضون القرنين التاسع عشر والعشرين أن الكون كله ـ بما فيه من ذرات وكواكب ونجوم ومجرات ومخلوقات وظواهر ـ محكوم بقوى رئيسية أربع، هي (الكهربائية، والمغناطيسية، والنووية، والجاذبية)، وقد ظل العلماء حتى عهد قريب يظنون أن هذه القوى لا علاقة بينها البتة، إلى أن أثبتت المشاهدات العلمية الدقيقة والتجارب العملية أن هذه القوى المتباينة في ظاهرها يمكن توحيدها أو إرجاعها إلى أصل واحد، وقد بدأت مسيرة التوحيد هذه مع عالم الرياضيات (اسحق نيوتن) الذي وحد بين ظاهرتي الجاذبية الأرضية والجاذبية بين الأجرام السماوية الأخرى، وصاغ قانون الجاذبية العام.. ثم جاء عالم الفيزياء الاسكتلندي جيمس ماكسويل (1831 ـ 1879) فوحَّد بين ظاهرتي الكهرباء والمغناطيسية في ظاهرة واحدة سماها (الكهرومغناطيسية) وصاغ لها المعادلات الشهيرة التي مازالت تحمل اسمه حتى اليوم، وقد أثمرت هذه النظرية حتى الآن الكثير من الاختراعات الحديثة، كاللاسلكي والراديو والهاتف وغيرها كثير من المخترعات التي انتقلت بالبشرية نقلة واسعة إلى رحاب عصر التكنولوجيا المعاصر.
وفي عام 1927 عممت نظرية ماكسويل في النظرية التي عرفت باسم نظرية الإلكتروديناميك الكوانتية أو نظرية الكم (Quantum Theory) التي صاغها في مطلع القرن العشرين الفيزيائي الألماني ماكس بلانك (1858 ـ 1947)، وقد أسفرت هذه النظرية أيضاً عن عدد هائل من المخترعات الباهرة التي جاء في مقدمتها اختراع الترانزستور (Transistor) عام 1947 على أيدي العلماء الأمريكيين (والتر براتن، جون باردين، وليام شكولي) الذين نالوا عليه جائزة نوبل في الفيزياء عام 1956، وسرعان ما أصبح الترانزستور أساس الأجهزة الإلكترونية الحديثة على اختلاف أنواعها، فأحدث بذلك ثورة علمية واسعة في دنيا الإلكترونيات!
وفي أواخر القرن العشرين أيضاً، نجح نخبة من العلماء منهم العالم الفيزيائي الباكستاني محمد عبد السلام (1922 ـ 1996) في توحيد القوة الكهرومغناطيسية والقوة النووية الضعيفة في نظرية واحدة أطلق عليها اسم النظرية الكهروضعيفة.
وفي أعقاب هذا النجاح الكبير ازداد أمل العلماء بإمكانية جمع ظاهرة التفاعلات النووية القوية في إطار هذه النظرية المأمولة، وأطلقوا على النظرية المرشحة لذلك اسم النظرية الموحدة الكبرى (Grand unification theory) أو نظرية كل شيء ( Theory Of Everything , TOE) ويفترض في هذه النظرية حين إنجازها أن تمثل التعبير الموحد والرائع رياضياً عن كل القوى الفاعلة في الكون، من القوى التي تحافظ على بقاء الأرض في مدار منتظم حول الشمس، إلى القوى التي تقي نوى الذرات من الانفجار الداخلي على نفسها، ووفقاً لمقولات فيزيائيين كثيرين فإن هذه القوة العليا الموحدة ستكون حسب تعبير أحد المزاولين المتميزين (منبع الوجود كله) ، وهكذا يبدو جلياً أن السنن الإلهية التي تنتظم الوجود كله تشكل حلقة واحدة تحركها يد الخالق العظيم.
ونظراً لأن الإنسان هو الخليفة وحامل الأمانة في هذا الوجود فقد أودع اللهُ عزَّ وجلَّ في أبي البشرية آدم عليه السلام العِلْمَ بحقائق هذا الوجود من غير تحديد ولا تعيين، كما نستشف من قوله تعالى: ((وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلَّها)) سورة البقرة 31، وقد ورث البشر هذا الاستعداد الفطري للعلم والتعلم عن أبيهم آدم عليه السلام، وراحوا بهذا الاستعداد يكتشفون من أسرار الوجود وسننه ما مَكَّنَهُم من السَّيطرة على الكثير من مخلوقاته وظواهره، ولولا أن جعل الله فيهم هذا الاستعداد الفطري لظلوا عاطلين عن الفعل الحضاري، ولما كان حالهم اليوم بأحسن من حال بقية المخلوقات الحية الكثيرة التي تشاطرهم العيش في هذا الوجود ولكنها لم تستطع على مدار تاريخها الطويل الذي بلغ ملايين السنين أن تغير شيئاً من أحوالها، بينما استطاع البشر أن يغيِّروا وجه الأرض، وراحوا يستعدون بهمة ونشاط لتغيير وجه الكواكب والنجوم والمجرات البعيدة على الرغم من أنهم أتوا هذا الوجود في آخر القافلة.. ولله في خلقه شؤون!

هوامش:

[i] - إدوارد كار : ما هو التاريخ ؟ ص 109 ، مصدر سابق .

[ii] ـ أخرجه ابن ماجة والبزار والبيهقي واللفظ له .

[iii] - سبقت ترجمته .

[iv] - المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب : الثقافة العالمية ، ص 193، العدد 116 ، الكويت 2003 .

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف