كتَّاب إيلاف

خيرُ أمةٍ أُخرجت للناس

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

"أعود إلى ذاتي كلما سرت على هذا الطريق"، أشعر بهذا خلال الرحلة التي أقطعها مرتين سنوياً على أكثر تقدير، عائداً إلى مسقط رأسي بصعيد مصر، أعود بذاكرتي لأكثر من ثلاثة عقود خلت، حين كنت لم أزل استكشف العالم فتى يافعاً، يركض في حقول الأمل، ويتنفس الأحلام، ويلتصق بالأساطير حتى يوشك أن يكون أحد أبطالها، ويظن أن هذا الكون خلق من أجله.
أحمد الله أنني عشت طفولة رائعة رغم بساطتها، فكانت أسرتي تتحلق حول تلفزيون بدائي تحسدنا عليه الأمم حينها، وهو يبث الأفلام القديمة التي لازلت أدمنها، وحفلات "أم كلثوم" الشهرية وكانت تُفرض عليّ أيامها، إذ لم تكن مشاعري لتستوعب بعد آهاتها، ولا تتفهم سر تنهداتها، فكنت أنشغل بمراقبة المتفرجين من الحضور حينما تسلط عليهم الكاميرا. رجال يرتدون البدل الكلاسيك، وسيدات ترتدين ملابس بالغة الأناقة، على بساطة المتاح في تلك الأيام، ولم أشاهد بين الرجال من يتخفى بأقنعة الزيف المتفشية الآن، ولا بين السيدات من تختبئ خلف ذلك الزي المسمى النقاب، الذي ينتمي إلى الصحراء بقيظها ووحشتها، وللزمن البائد بجواريه وأسواق نخاسته.
الآن. وبعد عقود هبط علينا "مجاهدو الشر" بكتبهم الصفراء، وعبر فضائيات "التطرف فون" التي يبدو أنها باتت تجارة رابحة، ورحت أسأل نفسي:
هل كان كل هؤلاء الرجال "الكلثوميين" متهتكين عصاة؟
وهل كن هؤلاء "الكلثوميات" فاجرات كما يقذفهن مجاهدو آخر الزمان؟
..
هذا الطراز من مجاهدي الفضائيات الذين ابتليت بهم الأمة أخيراً، ليقدموها للعالم كبؤرة للتخلف والشر والكراهية، يمارسون الادعاءات الكاذبة ويعشقون الظهور ويبغضون الزهور، ويتحالفون حتى مع الشيطان لو كان ذلك سيكفل سحق مخالفيهم، ومغيبون لحد الهوس، وأغبياء لدرجة تستحق الشفقة لا السخرية.
لا ينسبون أفعالهم لأنفسهم، بل يفتئتون على الله بإلصاقها زوراً به، ولا يعتبرون ما يفكرون به "مجرد رأي"، بل هو حكم و"قضاء وقدر"، وعلينا أن نؤمن به ونطعمه لأطفالنا ثلاث مرات يومياً.
وما أن تشرع بنطق كلمتك الأولى حتى يهب "المجاهد الفضائي" ليقرعك بعصاه بطريقة "قل ولا تقل"، وإذا تجرأت على مناقشته يرعد ويهدد ويتوعد، ويحمل ميكرفون الجهل ومطرقة أبي جهل، ويبدأ بدق عظامك بجرأة لا يمتلكها سوى الطغاة.
والسؤال هنا: من أين أتوا؟
وأي شيطان رجيم أفسد أرواحهم؟
أما الجواب المر، فهو أنهم أتوا من نفس الخبز الذي تربينا عليه جميعاً، ومن ذات الكوب التي تجرعنا سمومها حتى الثمالة. أتوا من الدكتاتورية والاستبداد والبرك الآسنة والعقول الراكدة والقلوب المعطلة والعيون المسترخية على نفس المشهد اليومي القبيح.
مشهد الزعيم الأوحد والكاتب الأوحد والمعارض الأوحد والفقيه الأوحد.. أتوا من "أفعل التفضيل" التي نرددها بنفس بساطة القبلات الكاذبة، التي يتفوق رجالنا على نسائنا في تبادلها.
أما الشياطين التي تضافرت في صناعتهم، فحدث ولا حرج. شياطين تقتات على الأنانية والقبح والطمع وانعدام الضمير. شياطين تتحدث كل اللغات، وتجيد كافة الحيل والألاعيب، حتى تسكن خلايانا باطمئنان.
والغريب أننا لا نرى في تلك "الشياطين" ما يستحق الفزع، بل نألفها ونقدم لها بعضنا البعض قرابين على مذبح لا يرتوي أبداً من دمائنا، وربما نشعر بالافتقاد لو انشغلت عنا قليلاً.
..
هل أصبحنا أمة من الغجر؟
الجواب بالتأكيد: لا، لأني شخصياً اقتربت من الغجر في مشارق الأرض ومغاربها، فلم أجد من هم أكثر تماسكاً وحميمية منهم، كما أن الغجر لا يتشدقون بـ "الشرف الرفيع"، ولا يستخدمون "أفعل التفضيل"، ولا يلصقون أخطاءهم بالسماء، بل يعترفون بأنهم أبناء الأرض، ومهمومون بما يجري عليها.
إذن فهل أمسينا مثل "يهود التاريخ" التائهين في "الشتات"؟
والجواب أيضاً بالنفي، فاليهود متكاتفون لحد التلاحم، عاشوا الشتات لكنهم فرضوا احترامهم على العالم كله، لدرجة انحنى معها "الحبر الأعظم" الراحل للفاتيكان، معتذراً لهم نيابة عن "كنيسته وشعبها"، كما أن هؤلاء اليهود يكسبون كل يوم أرضاً جديدة وأصدقاء جدد، بينما نخسر الجميع بحماقات السفهاء منا.
طيب. من نكون إذن؟
وهل نحن حقاً مازلنا "خير أمة أخرجت للناس"؟
وإذا كان الرد بالإيجاب. فلماذا؟ و"بأمارة أيه"؟
..
في الماضي كان هناك من يضحّي حتى بحياته، تحت سحر البطولة والحبّ والوطن وكافة المعاني النبيلة، أما اليوم وفي ظل انحسار البطولات، وتفشي الخيبات وخفوت صوت العقل، لم يعد ثمة ما يستحق مجرد الاستفسار عما حدث ويحدث. فطوبى للقابضين على عقولهم.
Nabil@elaph.com

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف