كتَّاب إيلاف

بوتين في مدرسة أندروبوف

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

نحو فهم لغز بوتين وغموض سياسته الخارجية (1- 2)

تنبيه: وصلنا مقال الدكتور عزيز الحاج قبل زيارة بوتين ونتائج قمة قزوين، مما أكد استمرار الموقف الروسي في دعم المشروع النووي الإيراني انطلاقا من مشاكسة أمريكا ومن مصالحها التجارية الضخمة في إيران.

في مقالنا السابق تحدثنا عن محاولات الخبراء بالشأن الروسي فهم ما يعتبرونه 'لغز بوتين'، و ورد أن هناك خبراء يعتبرون تلميذا في مدرسة يوري أندروبوف.

كان أندروبوف لسنوات عديدة عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي مسئولا عن العلاقات مع الأحزاب الشيوعية. في عام 1967 وضع بريجنيف أندروبوف على رأس جهاز المخابرات السري.

كان أندروبوف شخصية له سمعة دبلوماسي هادئ، ومجامل، يحب النقاش العام، ويبدي إعجابا زائفا بالعالم الأنجلو- سكسوني، ويقرأ الكتب والمجلات الأمريكية، ويستمع للجاز، ولا يشرب غير الويسكي! كان أندروبوف يبدو ظاهرة جديدة إصلاحية تبشر بتغيير أساسي في الوضع والسياسة السوفيتيين. فما الذي حدث فيما بعد؟

لقد عرف كيف يحول الجهاز السري إلى أداة فعالة في فترة كان فيها الجهاز يواجه الصعوبات. و زاد بثلاث مرات شبكات التجسس في الخارج، وبدلا من القمع السافر انتقل إلى اضطهاد 'هادئ' للمعارضين، وكان يصرح بأنه أضفى على الجهاز دور رقابة وتأمل سياسي، بدلا من إدارة آلية القمع الفظ. كان يصرح بهذا، رغم أنه كان أحيانا يردد مقولات لستالين في تبرير القمع.

بعد وفاة بريجنيف عام 1982 أصبح لأندروبوف كامل السلطة، ومع الزمن حل جهاز [ك.ج.ب.] محل الدولة المتفسخة. كان الجهاز هو الذي يصوغ القرارات الهامة في أكثر الأحيان، مما اضطر الدولة للتخلي عن قسم من صلاحياتها له، وقد انكشف بعد الانهيار السوفيتي مختبر هائل في دائرة العلاقات الخارجية للحزب، فيه أرقى وأكثر أدوات ووسائل التجسس، من جوازات وهويات مزيفة لمختلف الدول، وختوم المؤسسات والأحزاب الغربية، وكل وسائل التنكر، كالشعر المستعار والشوارب المستعارة، ألخ..

كان الرجل يدرك أن سياسات بريجنيف تقود إلى كارثة، فبدأ بمكافحة الفساد من أعلى، والانتقال إلى انفتاح اقتصادي مع مواصلة سياسة القمع 'الهادئ'، وهذا قريب من النموذج الصيني، أي رأسمالية الدولة، واقتصاد السوق، ولكن بلا ديمقراطية. لقد أشرف حين كان سفيرا في هنغاريا بين 1954 و1957 على قمع انتفاضة بودابست، ولكنه وضع على رأس السلطة حكومة معتدلة نسبيا وفي الوقت نفسه موالية لموسكو، وفيما بعد سنوات، كانت تعليماته للسفير السوفيتي في أفغانستان كما يلي:

'ليس المهم أن تضرب القبضة بل أن تكون مشهرة دوما على رؤوس الجميع'؛ حكمة استوعبها بوتين في نهجه السياسي، سواء في التعامل مع المخالفين، أو مع الجمهوريات السوفيتية السابقة التي استقلت.

وضع أندروبوف، الجهاز الخاص في مركز الحسم، والقمع 'الهادئ'، وهذا ما يقتدي به الرئيس الروسي: من القمع بصمت، والتضييق المستمر على جماعات الدفاع عن حقوق الإنسان، ومن الاغتيال ':الهادئ' بالثاليوم، و القتل ثم التظاهر بالبراءة وادعاء إجراء التحقيق. إنها أساليب مستوحاة من مدرسة أندروبوف ممزوجة بأساليب ستالين.

أما في السياسة الخارجية، فقد انتظر بوتين سنوات للكشف عن الكثير من معالمها.

لقد انتخب عام 2000، وعند وقوع تفجيرات 11 سبتمبر أبدى مشاعر التضامن الحارة مع الأمريكان، وفي أحد تصريحاته تحدث عن 'العلاقة الإستراتيجية' مع الولايات المتحدة، كما عقد اجتماعات مع بوش.

أما في 2005، فقد تغير الخطاب والمواقف، بعد أن استطاع الرئيس الروسي تثبيت سلطته، ماسكا بكل مفاتيح الحكم، وبعد انحسار الإشاعات السابقة عن قرب تنحيه من الرئاسة.

إن العلاقات الروسية ـ الأمريكية الراهنة فيها الكثير من الخطاب والتصلب الروسيين زمن الحرب الباردة، لاسيما وإن المحيطين بالرئيس الروسي مشبعون بالعداء للغرب وقيمه، وللأمريكان على نحو مركز، إلا أنه، في الوقت نفسه، لا يمكن في رأينا أن تتردى العلاقات إلى عودة للحرب الباردة، وهو ما تناولناه في أحد مقالاتنا السابقة.

إن القضايا الأكثر سخونة مع الولايات المتحدة هي أولا قضية نشر نظام الدروع الأمريكية المضادة للصواريخ في كل من بولونيا وتشيكيا، وإن وجهة النظر الأمريكية أن هذا النظام سيحمي أوروبا من هجمات محتملة من دول كإيران. إن بوتين يرفض مشروع الدروع بقوة وعناد شديد بحجة أن المشروع، لو نفذ، فسوف يشكل 'تهديدا محتملا لروسيا، مطالبا بالتخلي عن المشروع كله، وفي لقائه أمام عدسات التلفزيون بوزيرة الخارجية ووزير الدفاع الأمريكيين بدا غاضبا وجافا للغاية، وكان قد تعمد عدم الدخول على الوزيرين إلا بعد 40 دقيقة من الموعد المحدد.

لقد طرح الوفد الأمريكي عدة مقترحات لتقريب الشقة، قال عنها وزير الخارجية الروسي إنها جديرة بالدرس، ولكن غير كافية. إن التقارير الصحفية الأمريكية تتحدث عن أن اللقاءات مع الوزيرين في الجلسات المغلقة، وبعيدا عن الكاميرا، كانت حارة نسبيا، ومع ذلك فقد هدد الرئيس الروسي بالانسحاب من معاهدة إزالة الصواريخ القصيرة والمتوسطة المعقودة عام 1987.

إن سببا آخر هاما جدا لغضب الروس من المشروع الدرعي هو كونه يقام على أراضي بلدين كانا يوما ما ضمن الدائرة السوفيتية، والخوف من أن تكون علاقات الدول الشرقية السابقة مع الناتو على حساب علاقاتها بروسيا؛ وقد كشف بوتين نفسه عن هذا في لقائه بالوزيرين قائلا: ''نأمل أن لا تندفعوا في علاقاتكم مع الدول الأوروبية الشرقية.'

إننا نعتقد أن الخلاف حول هذا الموضوع الشائك سيبقى، وإن كان الطرفان قد فتحا نافذة ما للاتفاق على مساومة ما، علما بأن واشنطن تبدو هنا أكثر مرونة وحرصا على الاتفاق.

أما الخلاف الكبير الآخر، فهو حول النووي الإيراني إذ ترفض روسيا فرض أية عقوبات جديدة على النظام الإيراني. إن الخلاف الروسي هنا ليس مع الولايات المتحدة وحدها، بل مع كل الغرب ومع الأمم المتحدة، وقد كشفت زيارة الرئيس الفرنسي لموسكو عن مدى الخلاف الروسي مع الدول الغربية حول البرنامج النووي الإيراني، وذهب بوتين لحد التصريح أمام الرئيس الفرنسي سركوزي بأنه 'ليس هناك دليل' على وجود برنامج إيراني للتسلح النووي. إنه يدعو إلى وضع القضية كلها في يدي الدكتور البرادعي بمواقفه المتميزة بالتمييع، والتسكين، والتسويف، والتي لا تخدم في النتيجة غير النوايا العسكرية لنظام ولاية الفقيه. يقول بوتين إنه 'لا دليل'، بينما أحمدي نجاد يصرح عشرات المرات بأنهم لن يتخلوا عن تخصيب اليورانيوم. ولماذا التخصيب إن لم يكن لإنتاج قنبلة؟!

الرئيس الروسي سوف يزور طهران قريبا جدا، فهل هو عازم على إبداء درجة ما من الضغط على إيران قبل انتهاء ولايته الثانية؟، أم هو الاستمرار في الموقف الراهن؟ الأمم المتحدة والغرب يطالبون بمزيد من العقوبات لإجبار إيران على التخلي عن برنامجها، ولكن روسيا تعارض بكل شدة، رغم أن سياسة أحمدي نجاد قد تقود إلى حافة الحرب.

أجل، لا نعتقد بعودة الحرب الباردة، ولكن الأرجح تدهور العلاقات مع الولايات المتحدة وحلف الناتو لحدود مقلقة، وعلى أية حال، فإن روسيا تعلم أنه لا أمريكا ولا والناتو يهددانها، وأمريكا من جانبها تدرك أن روسيا لا تشكل تهديدا للأمن القومي الأمريكي.

إن المستقبل سيكشف عن مدى إمكانية التفاهم المشترك مع الغرب والأمم المتحدة حول النووي الإيراني، وحول استقلال كوسوفو، آخذين بالحسبان أيضا المصالح الاقتصادية والتجارية، خصوصا وأن 57 بالمائة من الصادرات الروسية تذهب لبلدان الاتحاد الأوروبي، وثمة شركات واستثمارات غربية كثيرة في روسيا، وهذه من جانبها تطالب بفتح الاتحاد الأوروبي أبوابه أمام الاستثمارات الروسية. إن روسيا كما مر في مقالنا السابق تستخدم سلاح الغاز والنفط استخداما مثابرا في الدبلوماسية، وهي تستخدمه بشراسة تجاه عدد من الجمهوريات المستقلة التي انفكت عنها، وهذا ما دعا عددا من هذه الجمهوريات للاجتماع منذ ثلاثة أيام في عاصمة ليتوانيا لبحث سبل الاستقلال عن روسيا في مجال الطاقة. هذه الدول هي بولونيا، وأوكرانيا، وآذربايجان، وجورجيا، ولتوانيا.

إن السياسة الخارجية الروسية متشعبة جدا، والتحليلات عنها كثيرة ومتباينة، ولعل من المستحسن معالجة الموضوع في مناسبة أخرى.

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف