كتَّاب إيلاف

قد ينجح الكسلان

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

في الأيّام الأخيرة،
وكما يحدث بلا شكّ للكثيرين في هذه البقعة من الأرض، تساءلت بيني وبين نفسي، أين اختفى السيّد عمرو موسى وسيكاره؟ أليس هو "أمينًا عامًّا" كما يُسمّى، لما يُسمّى زورًا وبهتانًا جامعة الدّول العربيّة؟ غير أنّي سرعان ما فهمت أنّي كنت على خطأ، فلم يختفِ الأمين العام أبدًا، بل عاد إلى الواجهة من جديد. فها أنا أقرأ خبرًا قادمًا من القاهرة لمراسل "إيلاف" هناك يفيد بأنّه "عقب اجتماع لمجلس الجامعة لمناقشة قضية القدس، موسى يدعو لوزاري عربي للتنسيق لمؤتمر السلام".

وها أنا أعود وأقول لنفسي:
ها هو مرّة أخرى "اجتماع لمجلس الجامعة". هكذا إذن، كيف غاب عن ذهني أنّ للجامعة مجلسًا؟ ولمّا كان الأمر كذلك فما من شكّ في أنّهم يجلسون، فهذه طبيعة المجلس، وإلاّ لما اختاروا هذا المصطلح أصلاً. وإذا كانوا يجلسون، فهم بلا شكّ يشربون الشّاي أو القهوة. كلّ حسب هواه، فلا ضير في ذلك.

وإذا كانوا يجلسون في مجلسهم،
فما من شكّ أيضًا في أنّهم لا يضيّعون الوقت سدًى. لا، إنّهم يستغلّون كلّ دقيقة. أقول بيني وبين نفسي، إنّهم إذا جلسوا، وها هم قد جلسوا كما يفيد الخبر، فمعنى ذلك أنّ ثمّ أمورًا ملحّة يجب مناقشتها. وفعلاً، كما يذكر الخبر فهم يناقشون: "اجتماع لمجلس الجامعة لمناقشة قضيّة القدس". وهم لا يناقشون لمجرّد النّقاش، فذلك مضيعة للوقت أيضًا. إنّما يناقش هؤلاء السّادة من أجل اتّخاذ خطوات. أتفكّر في الأمر مليًّا فأصل إلى نتيجة مفادها أنْ هكذا يتّخذ هؤلاء الجالسون في المجلس خطواتهم: بلا شكّ، يستبدل الجالسون أرجلهم الملتفّة فوق بعضها، فمرّة ينقل بعضهم رجله اليسرى فيضعها على الرّجل اليمنى، ومرّة بالعكس، وكلّ على هواه واستنادًا إلى مدى خدر الرّجل الواحدة، وهكذا دواليك. هكذا عادة يفعل الجالسون في المجالس، أليس كذلك؟. فما بالكم إن كان هذا المجلس الموقّر يُسمّى "مجلس الجامعة"؟

وهكذا إذن، جلس مجلس الجامعة،
وبعد نقاش - ومع أنّي لم أحضر جلسة المجلس غير أنّي أعتقد جازمًا، مع أنّ الخبر لم يذكر ذلك نَصًّا، أنّ النّقاش كان مستفيضًا - خرج شاربو الشاي والقهوة ومدخّنو السيكار بدعوة على لسان أمينهم العام تقول: "موسى يدعو لوزاري عربي للتنسيق لمؤتمر السّلام". وعلى ما نعلمُ واستنادًا إلى ثوابتنا الحضاريّة، فلا يزر وزير وزر آخر. ومثلما استمتع هذا المجلس بالشاي والقهوة والسيكار، فلماذا لا يتلئم مجلس وزاري آخر "للتّنسيق"، كما يذكر الخبر، ليحظى هو الآخر بما لذّ وطاب من هذه الأكواب؟

بالإضافة إلى ذلك،
فإنّ عنوان الخبر "موسى يدعو لوزاري عربي للتّنسيق..."، هو عنوان كاذبٌ في الحقيقة. إنّه مجرّد لعبة صحفيّة ذكيّة، قد تكون من بنات خيال الأمين العام نفسه، أو الصّحفي الّذي أرسل الخبر، أو المحرّر. وكيف عرفت أنا أنّ الخبر كاذب؟ والجواب بسيط: لأنّي قرأت نصّ الخبر. فنصّ الخبر يقول: "قال عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية إنه سوف يدعو لعقد اجتماع لوزراء الخارجية لمزيد من التنسيق بشأن مؤتمر السلام المقترح". ألا ترون معي أنّ العنوان هو مجرّد لعبة ذكيّة؟ لا يظنّنّ أحدٌ، لا سمح الله كما يقولون، عدم وجود تنسيق بين "الأشقّاء"، فالتّنسيق موجود وقائم ولا خوف عليه. إنّما هنالك حاجة ماسّة وملحّة إلى "مزيد" من التّنسيق. هذا الـ"مزيد" هو ما ينقص، ليس إلاّ. ولا شكّ أنّ هذا الـ"مزيد" يشمل أيضًا مزيدًا من الشاي والقهوة والسيكار، ومزيدًا من الخطوات، رجلاً يمنى فوق يسرى، ويسرى فوق يمنى عندما يلتئم المجلس الوزاري الموقّر من جديد.

ولا يكتفي المجلس بذلك،
بل وكما يليق بهذا النّوع من المجالس فلا يمكن أن يَرْفَضَّ اجتماعُ المجلس بدون إصدار بيان. على الأقلّ بيان، ليش لأ؟ عيب بدون بيان. وحقًّا، تلقّفت الصّحافة العربيّة بيان الجامعة: "وفي بيان صدر اليوم الأربعاء عقب اجتماع لمناقشة الإجراءات الإسرائيلية بالقدس، طالب مجلس جامعة الدول العربية...الولايات المتحدة بتحمل مسئولياتها لإلغاء قرار انتزاع ملكية الأراضي الفلسطينية في القدس الشرقية ووقف بناء المستوطنات والجدار ووقف أعمال الحفريات في باب المغاربة وتحت المسجد الأقصى، محذرا من أن هذه الإجراءات من شأنها تقويض فرص عقد مؤتمر السلام".
هل حقًّا صدر هذا البيان اليوم، كما يذكر الخبر؟ على ما أظنّ فإنّ هذا البيان هو ذات البيان الّذي صدر منذ أربعة عقود، ولا يزال يصدر منذ ذلك الزّمان دونما أيّ تغيير في الصّياغة. فلماذا يكذبون علينا، إذن؟ فلا حاجة إلى ميزانيّة خاصّة وموظّفين ينكبّون على صياغة البيان. فهو حاضر بصياغته هذه منذ عقود، وفقط يمكن استبدال التاريخ فيه. قد تكون أكواب الشّاي والقهوة قد تغيّرت خلال هذه العقود، فالزّمن الّذي مرّ منذ ذلك الحين قد يؤثّر على المادّة الّتي صنعت منها الأكواب والفناجين، وقد تكون سقطت على الأرض فانكسرت واستُبدلت بأحسن منها. غير أنّ البيان الصّادر هو ذاته، واللّغة المُصَدَّرَة إلى وسائل الإعلام هي ذاتها، فما بُدّلوا تبديلا. ولا يكتفي البيان بهذا القدر، بل يمضي في مطالبه: "وطالب بيان الجامعة بفتح المعابر بين الضفة الغربية وقطاع غزة والمعابر الدولية...". طيّب! نفهم أنّ بيان الجامعة يطالب بفتح المعابر، لكنّنا لا نفهم يُطالب مَنْ. يُطالب أميركا؟ فهمنا. يُطالب إسرائيل؟ فهمنا. يُطالب المجتمع الدّولي؟ فهمنا أيضًا. لكن، لماذا لا يُطالب مصر "أم الدّنيا" بفتح معبر رفح؟ وهل أصلاً هنالك حاجة لمطالبة كهذه، بينما هم يجلسون ويشربون الشّاي والقهوة في "قاهرة المعزّ"؟

غير أنّ ما يلفت الانتباه
في هذا البيان هو بعض الصّياغات فيه، كما نُشر. فلنقرأ معًا: طالب مجلس الجامعة كذا وكذا... "محذّرًا من أنّ هذه الإجراءات من شأنها تقويض فرص عقد مؤتمر السلام". هكذا إذن، "من شأنها". فهل هنالك عربيّ واحد يفهم ماذا يعني تعبير "من شأنها تقويض"؟ طيّب، كلمة تقويض قد فهمناها، فماذا يعني "من شأنها"؟ فلنفكّر معًا. لأنّ الحديث يدور عن "مؤتمر السّلام" المُزمع عقده، فهذا يعني أنّ الكلام هو عن المستقبل، ولأنّه لا يمكن "تقويض" شيء لم يحصل بعد، فيمكننا أن نستبدل المصدر بالفعل المضارع فنصل إلى صيغة "من شأنها أن تقوّض"، غير أنّ هذا لا يكفي لفهم المعنى، لأنّنا بقينا مع هذا التّعبير "من شأنها". لا شكّ أنّ "من شأنها" تعبير مهمّ، وإلاّ لما أصرّ على البقاء هنا، فما العمل؟ نتفكّر قليلاً فنصل إلى نتيجة أخرى مفادها أنّ هذا الـ "من شأنها" قد جاء بدل حرف "قد" الّذي يدخل على الفعل المضارع. وهكذا صرختُ: وجدتها، وجدتها! المعنى هو إذن: "محذّرًا من أنّ الإجراءات قد تُقوّض فرص عقد مؤتمر السّلام". إذن، يُصبح المعنى "قد تُقوّض"، وليس مثلاً "ستقوّض حتمًا".
لنفكّر إذن في "قد"، هذه الملعونة. فكما نقرأ لدى رشيد الشّرتوني في كتاب "مبادئ العربيّة": "قد حرف يدخل على الماضي فيفيد التّحقيق ويُقرّب زمانه... وعلى المضارع، فيفيد التّقليل نحو: قد ينجح الكسلان". غير أنّ جملة "قد ينجح الكسلان"، كما نفهمها تعني إنّه قد ينجح الكسلان، وتعني كذلك إنّه قد لا ينجح. وعلى هذا المنوال، نعود إلى بيان الجامعة العربيّة لنرى ما نفهم منه. فبيان الجامعة يعني أنّ الإجراءات من شأنها تقويض، أي بكلمات أخرى، الإجراءات قد تُقوّض. وعلى غرار الكسلان من المثال السّابق، فهي تعني أيضًا إنّها قد تقوّض، وتعني كذلك إنّها قد لا تُقوّض.
غير أنّه بخلاف الكسلان من المثال السّابق، وعلى ما يبدو، فإنّ كسالى الجامعة "العربيّة" هذه لن ينجحوا أبدًا.
والعقلُ وليّ التّوفيق!

ملاحظة: المقالة القادمة بعنوان "هل هي حقًّا جامعة عربيّة، أم جامعة عبريّة؟"، وسنكشف لكم فيها حقيقة أخرى، وهي أنّ هذه الجامعة هي عبريّة أصلاً، وليست عربيّة، فانتظرون!
salman.masalha@gmail.com

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف