كتَّاب إيلاف

البرلمان... الذكاء السياسي.... والتجربة اليابانية

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، واكتشاف الدول الغربية الدمار المرعب الذي خلفته، قررت شعوبها أن تنقل تجربة الحرب لمتاحفها، وأخذت تطور ديمقراطياتها، وحولت خلافاتها الداخلية لبرلماناتها، ونقلت خلافاتها الدولية لقاعات الأمم المتحدة. ومرت هذه التجربة بنصف قرن من الخبرة، ومع أن 90% من شعوبها مقتنعة بنظمها اللبرالية الديمقراطية، لكنها فقدت الثقة بسياسي برلماناتها، لتصل هذه الثقة في بعض الإحصائيات الأخيرة لحوالي 12%. فقد ارتفعت التكلفة الإعلامية للحملات الانتخابية لأرقام خيالية، وتدخلت الشركات العملاقة لتوفير الدعم المالي اللازم، ليهتم النواب بضمان مصالح هذه الشركات، بالإضافة لاهتمامهم بمصالحهم الحزبية والعقائدية، وأجلوا مصالح مواطنيهم المتعلقة بالصحة والتعليم والإسكان والعمل والتقاعد.
وقد انتقلت عدوى دول الغرب إلى ديمقراطيات الشرق الوليدة، مما أدى للاستياء المبكر للمواطنين لتجاربهم البرلمانية، وفقد ألأمل بدورها في إصدار التشريعات اللازمة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، مما أدى لابتعاد الفئات المؤهلة عن المشاركة الجادة، وتوجه فئات المعارضة للتطرف والعنف، معتقدة بأنها الطريقة المثلى للتغير. والسؤال كيف نحول معارضة التطرف والعنف إلى اختلاف الحوار والتنمية ببرلماناتنا العربية؟
فلنبداء عزيزي القارئ بدراسة الإطراف المسئولة عن المعضلة البرلمانية الجديدة ومسبباتها وطرق معالجتها. فالطرف الأول، المواطن، يشكو بان البرلمان لم يحقق شيء، بل زاد تكلفة إضافية على الميزانية، وبدون نتيجة فعالة في تطوير التنمية الاجتماعية والاقتصادية، بل أصبح عائقا لهذه التنمية، بانشغاله بانتقام المسائلة وبخلافاته العقائدية والحزبية. بينما يشكو الطرف الحكومي بان البرلمان ترك وظيفته الأساسية في التشريع، وتفرغ لتصيد الأخطاء على المسئولين وإعاقة تنفيذ خططهم الطموحة، واستمر بتكرار المسرحيات الإعلامية في الإساءة لهم، بل وأصبح عائق للتنمية الاقتصادية، ومهربا للاستثمارات الأجنبية. ويشكو الطرف البرلماني بان أنيابة متسوسة دستوريا، والسلطة التنفيذية غير متعاونة لتحقيق وعوده الانتخابية.
والسؤال لعزيزي القارئ هل مسؤولية الإخفاق البرلماني هي مسؤولية فردية أم هي مسؤولية مشتركة؟ وكيف يمكن أن تتحول قاعات برلماناتنا العربية مراكز لتعلم الحوار والانضباط واحترام الوقت، وموقعا للعمل المشترك وبتناغم جميل، بين المواطن والحكومة والبرلمان، لتنمية بلادنا العربية اجتماعيا واقتصاديا؟ فلنتدارس عزيزي القارئ التجربة اليابانية، ولنتعرف على كيفية تطور هذه التجربة مع تحدياتها المستعصية.
لقد بداءت اليابان ديمقراطيتها بعد دمار الحرب العالمية الثانية، وبدستور وضعه المنتصر الأجنبي، وفي ظل احتلال للجزر الشمالية التي تعتبرها جزء لا يتجزءا من أراضيها. وقد استلم البرلمان الحزب اللبرالي الديمقراطي، وبأسماء مختلفة. وقد كان حليفه الرئيسي حزب كوموتو، وهو الجناح السياسي لفئة بوذية يابانية. أما المنافس القوي المعارض فهو الحزب الديمقراطي الياباني. وقد نجح هذا الحزب المعارض في الصيف الماضي، بالسيطرة على مجلس المستشارين بأغلبية ساحقة. مما اضطرت الحكومة للاستقالة، وأنتخب الحزب الحاكم لرئاسته ورئاسة الحكومة الجديدة السيد يوسو فكودا، ابن رئيس وزراء سابق، وأحد القيادات اليابانية الحكيمة والمخلصة، "والصديقة جدا" للدول العربية، والداعمة للتعاون الصيني الكوري الياباني.
وقد أضطر الحزب الحاكم تغير فلسفة عمله في البرلمان بعد هزيمته في انتخابات مجلس المستشارين. فقد كان خلال العقود الخمسة الماضية مهتم لصياغة وتقديم التشريعات للبرلمان، التي كان يوافق عليها حزبه بأغلبيته البرلمانية الساحقة في المجلسين النيابي والاستشاري، وبدون صراعات حوارية حزبية. ومع التغيرات الجديدة، قرر أعضاء الحزب صياغة مستقبلية للتعاون مع الأحزاب المعارضة للمحافظة على استمرارية التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وذلك بالاعتماد على حكمة الحوار والذكاء السياسي للتعامل مع هذه المعارضة البرلمانية القوية. فلنناقش معا عزيزي القارئ هذه الفلسفة اليابانية في التعامل مع الخلافات السياسية.
يحتاج العمل السياسي في البرلمان لحجة الحوار، للوصول وبتناغم جميل بين الإطراف البرلمانية المختلفة، لقرارات وتشريعات تلعب دورا في استمرارية التنمية اجتماعيا واقتصاديا. ويلزم هذا الحوار المنتج النائب البرلماني بفصاحة التواصل، والذهن المنضبط في جمع المعطيات، والتعرف على المعضلات المجتمعية، وإيجاد السبل المناسبة لتعامل معها. كما يحتاج الحوار المنتج بتفهم طريقة تفكير الأطراف المعارضة وخلفيتها التاريخية والثقافية، واحترام اختلافاتها، وتهيئة الأرضية المشتركة للتفاعل معها بالمناقشة الايجابية، لبناء جسور الثقة بالحكمة والصبر. ويجمع علماء النفس تلك المميزات الشخصية بموهبة الذكاء السياسي، والشامل لمجمل القدرات العقلية الموروثة والمكتسبة، المكونة من الذكاء الجسمي والعاطفي والاجتماعي والروحي والذهني.
ويعرف الذكاء الجسمي بإصرارية المحافظة على الصحة الجسمية، بالالتزام بالعادات الغذائية الصحية، واستمرارية الرياضة، وتجنب الضغوط الحياتية، وتطوير الصداقات المجتمعية، والمشاركة في الخدمات التطوعية.
كما عبر أرسطو عن الذكاء العاطفي بالسيطرة على عاطفة الحوار بالتعبير عنه بطريقة حكيمة، في الوقت المناسب وبالطريقة المناسبة وبالدرجة المناسبة وبالمكان المناسب، وبتوجيهه للشخص المناسب ولأسباب مناسبة، وبتوازن ذهني حكيم، ليؤدي بنتائج ايجابية منتجة.
ويتعلق الذكاء الاجتماعي بحكمة التواصل مع الآخرين لخلق دائرة معارف كبيرة تجمع رباط الصدق والاحترام، والعمل المتناغم المشترك، بالإضافة لخلق جسور الثقة مع الأطراف المخالفة والمعارضة، وذلك بلطف الحوار والامتناع عن التلفظ بتصريحات مثيرة ونابية، فخير الكلام ما قل ودل وفاد ولم يسيء.
ويمثل الذكاء الروحي خلق التوازن بين الواقعية والمثالية وتوسط القيم وأخلاقيات السلوك بينهما. فالواقعية البحتة تهتم بالمصالح الشخصية القريبة، وتتناسى المصالح المجتمعية البعيدة الأمد، والمثالية المفرطة تسبح في عالم الخيال الوهمي والذي لا يمكن تنفيذه، وأما القيم والأخلاقيات فهي التي تقيد السلوك الإنساني للنائب وتحافظ على ثقة واحترام المواطنين له. كما يتميز الذكاء الروحي بالسماحة، والرحمة، والعفو عند المقدرة، وتجنب الانتقام، وتطهير النفس من الحقد والكراهية، والابتعاد عن التعصب، والاستعداد لتحمل أفكار الآخرين واحترامها، والتفاعل الايجابي لتفهمها والاستفادة منها. وتتفاعل مختلف أنواع الذكاء الأنفة الذكر مع الذكاء الذهني المتعلق بطريقة التفكير في حل المعضلات المنطقية والرياضية، ليجمع معطياتها العقل الباطن ويربطها بخبراته السابقة ويتفاعل معها، لإصدار القرارات البرلمانية اللازمة لتطوير التشريعات التنموية الاقتصادية والاجتماعية.
والسؤال لعزيز القارئ هل من الممكن أن نحول تجربتنا البرلمانية الوليدة في الوطن العربي تدريجيا، وبالصبر والمثابرة، إلى تجربة ناجحة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية؟ وهل سيطور تعليمنا الذكاء السياسي بين أجيال المستقبل؟ وهل سنطبق مبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب في اختيار النائب، وذلك بتقييم خططه وخبراته وكفائتة وإخلاصه، لا لونه أو طائفته، أو عقائده الشخصية؟ وهل سنشجع النواب للعمل من خلال اللجان البرلمانية بهدوء وحكمة، بعيدا عن التصريحات الإعلامية المثيرة للخلاف؟ وهل سنختار النائب المتميز بالذكاء السياسي والقادر على بناء جسور الثقة بين المواطن والبرلمان والحكومة، لإصدار تشريعات ترجع وطننا العربي للمشاركة في الحضارة الإنسانية من جديد؟

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف