تنفيس النقمة.. إبراهيم عيسي نموذجا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
إذا كانت الدولة القومية قد حلت محل الإقطاع منذ نحو خمسة قرون،فقد حلت الشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للقوميات محل الدولة، والسبب في الحالتين واحد: التفوق التقني وزيادة الإنتاج والحاجة إلى أسواق أوسع. فلم تعد حدود الدول القومية هي حدود السوق الجديد بل أصبح العالم كله مجال التسويق، وأصبحت لغة السوق اليوم تتسرب بسهولة عبر كل المسام وتعصر في قسوة كل العلاقات الانسانية. ولتحقيق ذلك كانت الشركات تنشر أفكارًا تساعد على تحطيم موضوع الولاء القديم وهو الوطن والأمة وإحلال ولاءات جديدة محله وأفكار من نوع "نهاية الإيديولوجيا" و"نهاية التاريخ" و"القرية الكونية" و "الاعتماد المتبادل" إلي آخر هذه التيمات التي يصطلح استخدامها مع جميع الأمم.
أول من تنبه إلي ذلك كان "شارل فورييه " الذي قال عنه "والتر بنجامين": "أن فورييه الذي تم تسخيف خيالاته دائما، أصبحت رؤاة اليوم معقولة بشكل مدهش، فقد كان يحلم بكواكب مستثارة، ونظام جنسي متحرر، وفردوس من الطعام. حتي أفقر الفقراء يمكن أن يتناول الطعام خمس مرات كل يوم، ويكون له حق الاختيار من اثني عشر صنفا من الحساء، واثني عشر نوعا من الخبز والنبيذ، واثني عشر طاقما من اللحوم والخضر.
وأوصي بوجود محلفين في تذوق الطعام، وكان - كما أثبت كاتب سيرته - يحلم بيوم "تستبدل فيه حروب الحضارة بما يمكن ان يبلغ مباريات مطولة في الطهي" ولا يوجد أحد هاجم "دين التجارة" كما هاجمه فورييه، يقول: "ان الحكمة والفضيلة والأخلاق قد أصبحت كلها موضات بالية، وكل شخص يتعبد الآن لمقام التجارة وقبلتها. ان عظمة الأمة الحقيقية، والشئ الذي يعتبره الاقتصاديون مجدها الحقيقي، هو ان تبيع زوجا من السراويل أكثر مما باعت الدولة المجاورة، بدل ان تشتريه منها".
غير ان التحول الحاصل في بنية الاقتصاد العالمي أدي إلى تحول جوهري في دور "الدولة" ومن ثم مفهومها التقليدي، إذ أن انفلات رأس المال ماديًا وأيديولوجيًا من قاعدته القومية، أفرز مؤسسات اقتصادية وحقوقية ما فوق قومية تخدم مصالح رأس المال (المالي) الدولي المنفلت من عقاله. وبدلاً من أن يؤدي ذلك إلى انحلال أو اضمحلال "الدولة"، وإن كانت تعيش حالة عامة من التراجع والانحسار، تبرز الدولة وأهميتها من جديد، باعتبارها ضرورة للطبقات المسيطرة (لقمع) أولئك الذين يسوء وضعهم فيتمردون على النظام الدولي الجديد في الداخل أو الخارج.
وقد كان تزايد أهمية الدور القمعي الداخلي والخارجي للدولة الرأسمالية واضحًا في ضرب الاحتجاجات المناهضة للعولمة في واشنطن وسياتل وغيرها. "فإذا لم يعد بالإمكان، سياسيًا، وضع حد للضغط الفوضوي الناجم عن الأسواق المتكاملة، فإنه لابد من مكافحة النتائج بأساليب قمعية، الأمر الذي يعني أن الدولة المتسلطة ستغدو الرد المناسب على عجز "السيادة" عن التحكم في الاقتصاد".
من هنا فإن الدولة ستنفي صفتها "القومية"، لتؤكد صفتها "السلطوية" كدولة، من خلال ممارسة دورها الجديد. مما يعني أن الدولة القومية في ظل "العولمة" لن تنحل أو تضمحل، ولكنها سوف تكف عن أن تكون دولة قومية أو وطنية.
وخطورة هذا الاستنتاج يتمثل في "الصدع" أو "الشرخ" الذي أحدثته العولمة في بنية مفهوم الدولة التقليدي، إذ ينبغي أن نفرق من الآن فصاعدًا بين الدولة ككيان سياسي حقوقي، وبين الأمة ككيان اجتماعي تاريخي. ولعل هذا ما يفسر لنا حالات"الاستلاب" القومية " والأحباط " العام لشعوب وأمم بأكملها في صيرورة العولمة، والتي تشاهد بأم عينها "الدول" التي كانت تمثلها تدير ظهرها لها اليوم.
بيد ان حالة العجز عن التحكم في الاقتصاد، أوجدت بالضرورة طائفة جديدة من المنظرين والكتاب والإعلاميين يقومون بوظيفة صمام الأمان للتنفيس عن "النقمة" والاحتقان الاجتماعي والسياسي العام، بأن "تندس" داخل المعارضة وتتلبس دورها، وتتقمص ببراعة دور رجل الشارع المطحون ويكون صوتها أعلي منه أحيانا، وهذا مظهر ألفه نظام السوق منذ المرحلة الرومانسية، وهؤلاء لا يقترحون أي بديل عن النظام الذي يأويهم، فبدلا من أن يكونوا صوت الرشد المنفرد، ليسوا سوي جزء من الضوضاء المرافقة للنظام، ولكنها ضوضاء محسوبة.
لكن الذي بات واضحا للمراقب عن كثب لوضع هذه الطائفة وآليات عملها في مصر اليوم، هو فشلها الذريع إعلاميا ومهنيا، إلي درجة انها أصبحت عبءا علي النظام، تحتمي به ليصد عنها الضربات المتتالية والموجعة، الأخطر من ذلك اللجوء الي الوشاية واستعداء السلطة وتلفيق التهم الجاهزة لزملاء المهنة من المعارضين الحقيقيين.
لم ينتبه الكثيرون في قضية الصحفي إبراهيم عيسي، التي أصبحت أخيرا " جنحة عادية " وتأجلت إلي 14 نوفمبر القادم، من أن التهمة الموجهة إليه هي الإضرار بالاقتصاد القومي وانهيار البورصة وانخفاض تدفق الاستثمارات الأجنبية بنحو 350 مليون دولار، حين نشر في صحيفة الدستور التي يرأس تحريرها عن مرض الرئيس مبارك، وعلي الرغم من انه لم يكن الأول أو الوحيد، الذي تناول هذا الموضوع بل العديد من الصحف القومية والمعارضة والمستقلة - حسب التصنيف المتداول اليوم - فإن عيسي وهو معارض للنظام، قد نجح في سحب البساط، وبحرفية عالية، من تحت أرجل مانعي الصواعق ومنفسي النقمة الرسميين في الإعلام المصري، وأصبح قائد صمام التنفيس في الصحافة المصرية، وربما هذه هي جريمته الحقيقية.
أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
dressamabdalla@yahoo.com
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية
التعليقات
مقال ممتاز
حسين -عزيزي الدكتور عصام عبدالله تمتعنا دوما بمقالاتك الفلسفية العميقة علي إيلاف ، لكن هذا المقال له طعم خاص لأنه يرينا كيف تفيدنا الفلسفة في فهم الواقع وقراءته قراءة صحيحة ... ودعني اقتبس منك هذه الفقرة " 171;فإذا لم يعد بالإمكان، سياسيًا، وضع حد للضغط الفوضوي الناجم عن الأسواق المتكاملة، فإنه لابد من مكافحة النتائج بأساليب قمعية، الأمر الذي يعني أن الدولة المتسلطة ستغدو الرد المناسب على عجز 171;السيادة187; عن التحكم في الاقتصاد187;.من هنا فإن الدولة ستنفي صفتها 171;القومية187;، لتؤكد صفتها 171;السلطوية187; كدولة، من خلال ممارسة دورها الجديد. مما يعني أن الدولة القومية في ظل 171;العولمة187; لن تنحل أو تضمحل، ولكنها سوف تكف عن أن تكون دولة قومية أو وطنية.وخطورة هذا الاستنتاج يتمثل في 171;الصدع187; أو 171;الشرخ187; الذي أحدثته العولمة في بنية مفهوم الدولة التقليدي، إذ ينبغي أن نفرق من الآن فصاعدًا بين الدولة ككيان سياسي حقوقي، وبين الأمة ككيان اجتماعي تاريخي. ولعل هذا ما يفسر لنا حالات171;الاستلاب187; القومية " والأحباط " العام لشعوب وأمم بأكملها في صيرورة العولمة، والتي تشاهد بأم عينها 171;الدول187; التي كانت تمثلها تدير ظهرها لها اليوم.
شكرا لإيلاف
مجدة أحمد -أقول لكل من شكك في حصول إيلاف علي جائزة مؤسسة الفكر العربي في مجال الإعلام أقرأوا مقالات كتاب إيلاف لتعرفوا السبب الحقيقي لفوز إيلاف دائما بكل الجوائز المحترمة .. انها تحترم عقل القراء يا سادة ؟.
صدقت يا دكتور
الأحمدي ابراهيم -بات واضحا للمراقب عن كثب لوضع هذه الطائفة وآليات عملها في مصر اليوم، هو فشلها الذريع إعلاميا ومهنيا، إلي درجة انها أصبحت عبءا علي النظام، تحتمي به ليصد عنها الضربات المتتالية والموجعة، الأخطر من ذلك اللجوء الي الوشاية واستعداء السلطة وتلفيق التهم الجاهزة لزملاء المهنة من المعارضين الحقيقيين .. صح يا دكتور وشكرا لصراحتك وموضوعيتك .
كله في المحاكم يابا
مرمريتا -أستاذي الفاضل الكاتب الصحفي ابراهيم عيسي ليس أول من جرجر إلي المحاكم ولن يكون الأخير .. ولا أقصد مجال الصحافة فقط ولكن كل المهن التي تتعامل مع الرأي العام من فنانيين وأساتذة جامعة وإعلاميين وشعراء وادباء وقضاة ومنظمات أهلية ومجتمع مدني .... كله أصبح مادة إعلامية نتيجة لجرجرته في المحاكم ورفع قضايا ضده من أول قضايا الحسبة لحد غزدراء الأديان وسب الذات الإلهية والذات الإنسانية كمان ...
سبيكة نادرة
الجبرتي -تحياتي للكاتب الكبير عصام بك عبدالله علي هذه المقالة المتميزة الأشبة بالسبيكة النادرة التي يصعب فصل مكوناتها الممتزجة بالسياسة والاقتصاد والتاريخ والفلسفة والاعلام والواقع المر أيضا !!!
الصحافة في خطر
هاني -يبدو ان المصريين غير مدركين خطورة ذلك علي الصحافة في مصر ، فبعد هجرة العقول والكفاءات المهنية خارج مصر تتعرض المهنة لضغوط من السلطة ورجال الدين والأعمال ، وقريبا سيحدث ما لا نحمد عقباه ... وتحياتي للكاتب علي هذه الاضاءة القوية
عنوان شديد
karim -قوة العنوان في هذا المقال من قوة المضمون ، ولكن للأسف لقد ادمنا النقمة وسدت كل اماكن وخروم التنفيس من زمن بعيد ولم يعد امامنا إلا الدعاء !!!!!
يستحق الحبس
مفروس -لم ينتبه الكثيرون في قضية الصحفي إبراهيم عيسي، التي أصبحت أخيرا " جنحة عادية " وتأجلت إلي 14 نوفمبر القادم، من أن التهمة الموجهة إليه هي الإضرار بالاقتصاد القومي وانهيار البورصة وانخفاض تدفق الاستثمارات الأجنبية بنحو 350 مليون دولار، حين نشر في صحيفة الدستور التي يرأس تحريرها عن مرض الرئيس مبارك، وعلي الرغم من انه لم يكن الأول أو الوحيد، الذي تناول هذا الموضوع بل العديد من الصحف القومية والمعارضة والمستقلة – حسب التصنيف المتداول اليوم – فإن عيسي وهو معارض للنظام، قد نجح في سحب البساط، وبحرفية عالية، من تحت أرجل مانعي الصواعق ومنفسي النقمة الرسميين في الإعلام المصري، وأصبح قائد صمام التنفيس في الصحافة المصرية، وربما هذه هي جريمته الحقيقية.... وهي دي جريمة عادية . يسحق الحبس فعلا !!!
كلهم فراعنة
سيد خليل -أولمرت أعلن للعالم كله حقيقه مرضه ومدي خطورته علي صلاحيته في الحكم وحكامنا كلهم أصحاء أطال الله في عمرهم كمان وكمان وبيحكموا حتي من القبر همه واولادهم وأحفادهم .