مؤسسة الشلة تحكم مصر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
تبدو الأجواء في مصر خلال هذه المرحلة الانتقالية، غائمة مرتبكة، وكأنها حيال موسم لتقسيم "التورتة" وتخاطف قطعها، وفق القواعد الراسخة في ثقافتنا الشعبية ـ النابعة من الداخل ـ بدءاً بقاعدة "الغايب مالوش نايب"، مروراً بنظرية "طباخ السم لازم يدوقه"، وصولاً إلى قانون "شيلني واشيلك".
ومن ثقافة "التشييل" هذه يتبلور مفهوم "الشلة"، كأحد أهم وأقوى الكيانات الأكثر حضوراً وتأثيراً في حياتنا الخاصة والعامة، ولا يقتصر دورها على الحياة السياسية فحسب، بل يمتد إلى كافة أنشطة الحياة، من أصغر مكتب حكومي في قرية نائية، إلى أخطر دائرة لاتخاذ القرار على قمة هرم السلطة.
وبالطبع تتضاعف شراسة "الشللية" كلما كبرت اللعبة، وازداد حجم الغنيمة، فمثلاً لا يجد المتابعون لما يجري في مصر الآن تفسيراً لتلك الحملات الضارية، لتي تشنها بعض الصحف الحكومية على مسؤولين ووزراء بين الحين والآخر، لكن بقليل من التأمل والاستقصاء، سنكتشف أن وراء هذه المعركة لحظة اصطدام بين "شلتين"، أو تحفز للانقضاض على قطعة من "التورتة" والمغانم.
وكما يتعاظم دور الشللية داخل دوائر السلطة لحد تبدو معه صراعات بعض أجنحة الحكم كأنها خصومة فاجرة، فإنها تتوحش في أوساط المعارضة أيضاً، فمثلاً الناصريون واليساريون والإسلاميون أصبحوا مجموعات متشرذمة من "الشلل"، لا تجمعها أو تفرقها خصومات فكرية وسياسية بالضرورة، بل صراعات شخصية تعبر عن نفسها من خلال "الشلة"، التي تتوافق مصالح أعضائها.
إنها "الشلة" إذن، التي تجاوزت دور المؤسسات في مصر، ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إنها باتت تحل محل الدولة المركزية، فهذه الأخيرة وقد تحولت إلى "صنم مقدس"، لم تعد قادرة على تلبية طموحات الجيل الجديد من اللاعبين على الساحات المختلفة، السياسية والإعلامية والفنية والثقافية والاقتصادية وغيرها، وبالتالي صنع هؤلاء الطامحون كيانات موازية هي "الشلل"، التي قد تمتطي ظهر الدولة حيناً، وتتجاوزها أحياناً، لكنها في نهاية المطاف لا تخدم إلا أعضاءها الذين يتبعون قواعد غير مدونة لكنها بالغة الصرامة، تشبه الأجواء الماسونية في سريتها وتنفذها، وتبدو كالأشباح التي يخشاها الناس حتى لو لم يروها.
ففي أوساط الصحافة والإعلام مثلاً، انتشرت "الشللية" لدرجة ربما لا يجد معها من لا يحظى بالانتماء إلى "شلة ما" أي فرصة للتنفس، ناهيك عن الصعود والارتقاء، فهناك أعداد لابأس بها من الزملاء المحترمين في مصر ينظمون فيما بينهم فرقاً موسيقية، قد تكون مجرد "تخت شرقي" بسيط، وقد تصل إلى حجم "الأوركسترا" الضخم، فهذا يجلب لرفيق شلته فرصة عمل "طرية"، وذاك يفتح أبواب الفضائيات لرفاقه، وهم بدوره يكتبون أنه الأعظم والأعمق، والأنصع موهبة، وكل ما تجود به صيغة "أفعل التفعيل" من معانٍ.
وفي كل الدوائر الحكومية ستكتشف نفوذ "الشلة" كلما اقتربت من مركز تلك الدوائر، ولن يكون بوسعك إنجاز أدنى تقدم لو لم تكن فاعلاً في واحدة من تلك الشلل، وحتى في الشركات الخاصة هناك "شلل" تحاصر صنّاع القرار من ملاك الشركة ومديريها، وهناك أيضاً شلل عابرة للشركات والمؤسسات وحتى القارات مثل شلل "الإخوانجية" أو "القومجية" أو "الليبرالجية" أو "الحقوقجية" أو "الحكومية"، ولا يتطلب الأمر أن يتفق أعضاء الشلة في توجهاتهم الفكرية، بل يكفي أن تتفق مصالحهم في هذه اللحظة.
وخلافاً للمؤسسات التقليدية، فإن مؤسسة "الشلة" تبدو أكثر مرونة، فهي ربما تقبل أعضاء جدد، أو تستغني عن قدامى انتهت الحاجة إليهم، لكنها أكثر صرامة في التزام كل الأعضاء بأهداف الشلة غير المكتوبة، والتي تتمثل باختصار في ترضية الرفاق ودعمهم.
كما أن الشلة ليست كياناً مؤبداً، فربما تنقسم إلى اثنتين أو أكثر، خاصة حينما يجد الرفاق مصالحهم وقد تعارضت، هنا ينقلبون ويسعون لاستقطاب العناصر الأكثر أهمية في الشلة الأم، وتندلع معارك صامتة حيناً، وصاخبة أحياناً، ويقع المساكين خارج منظومة الشللية في ارتباك بالغ، لعدم فهم حقيقة ملابسات ما يجري، ولا يجدون تفسيراً لانقلاب الأصدقاء على بعضهم.
أما في الوسط الفني فحدث ولا حرج، فلا يمكن لمخلوق أن يسير خطوة واحدة في حقول الألغام الفنية دون مساندة شلة، مدعومة بالمال والإعلام والنفوذ والعلاقات، وقديماً كان يؤسس هذه الشلل فنانون أو منتجون، أما الآن تؤسسها دول، ورجال أعمال كبار، يستثمرون المليارات في حقل الإنتاج والإعلام الفني، وراجع تجربة "روتانا" مثلاً، وفي كل الأحوال فإن إحراز أي تقدم في الفن لا يكفي له أن يكون المرء موهوباً وجاداً في مجاله، بل لابد من "شلة" تحدد له الإطار الذي يتحرك من خلاله، وتمهد له الطريق، وتوفر فرص النجومية، وتسوقه إعلامياً، وتدعمه مالياً، وتثقفه إذا لزم الأمر أن يبدو "مثقفاً"، وتقتنص له الأفكار المبتكرة، وتحيطه بسياج من الحماية، و"الغموض الاستراتيجي".
باختصار أصبحت "الشلة" الآن هي البديل الأكثر فعالية، وقد أفرزته ظروف الفوضى العارمة التي تضرب كافة مناحي الحياة، سواء في السياسة والثقافة والصحافة والبزنس والفن والجامعة والأحزاب وكل مكان، وشخصياً فقد استأذنت شلتي في الأمر، قبل أن أقدم على كتابة هذه السطور.
والله المستعان
Nabil@elaph.com
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية