البابا بنديكتوس والإسلام، مرّة أخرى
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
كثيرًا ما يتذمّر
العرب والمسلمون من النّظرة النّمطيّة إليهم في الغرب. وما من شكّ في أنّ ثمّة الكثير من الآراء المُسبقة الّتي يحملها الغرب تجاه العرب والمسلمين، وكثيرًا ما تظهر هذه الآراء في وسائل الإعلام الغربيّة المقروءة والمسموعة والمرئيّة. لكن، ومع كلّ ذلك، أليس من حقّنا بين الحين والآخر أن نطرح بعض التّساؤلات بشأن هذه القضيّة من خلال النّظر إلى أنفسنا قليلاً، ماذا نعمل وكيف نتصرّف؟ فإذا حاولنا النّظر إلى أنفسنا بعيدًا عن سيطرة العاطفة علينا سنجد أنّ بعض العرب والمسلمين، وبما يبدر عنهم من تصرّفات وأفعال، يشكّلون أحد الأسباب في تغذية هذه النّظرة النّمطيّة إلى العرب والمسلمين.
قبل عام كانت ثارت ثائرة المسلمين عقب ما نُشر عن محاضرة ألقاها البابا بنديكتوس السّادس عشر في جامعة ألمانيّة اشتمّ منها المسلمون ذَمًّا لهم ومسًّا بعقيدتهم. لقد خرج عرب ومسلمون كثيرون في أماكن مختلفة من العالم إلى الشّوارع في تظاهرات ضدّ البابا بسبب محاضرته تلك الّتي تناقلتها وسائل الإعلام. وكان سبب تلك العاصفة من الاحتجاج ما أُشيع في حينه من اقتباس البابا في محاضرته من أقوال الإمبراطور البيزنطي باليوغولوس الثّاني في مناظرة جرت بينه وبين عالم - فقيه - فارسي في القرن الرّابع عشر حول المسيحيّة والإسلام ومسألة العنف. إنّ الّذي أثار ثائرة العرب والمسلمين هو تلك الفقرة المقتبسة من أقوال الإمبراطور البيزنطي، الّتي وصفها البابا بأنّها تتّسم بالاقتضاب المذهل الّذي يبلغ حدّ الفظاظة في نظر البعض، حيث توجّه الإمبراطور للفقيه المسلم الفارسي قائلاً: "فقط أرني ما الّذي جاء به محمّد من جديد. لن تجد إلاّ ما هو شرّير ولا إنساني، كأمْرِه نشرَ الدّين الّذي دعا إليه بحدّ السّيف". لقد جاء كلام البابا في معرض حديثه عن العلاقة بين الإيمان والعنف مؤكّدًا على أنّ "العنف لا يتوافق وطبيعة الله، لا يتوافق وطبيعة الرّوح". كان يمكن أن تبقى كلمات البابا ضمن جدل فلسفي بشأن طبيعة الإله في المسيحيّة من جهة وطبيعة الإله في اليهوديّة والإسلام من جهة أخرى، غير أنّ الجدل الفلسفيّ غائب عن السّاحة العربيّة والإسلاميّة.
وها هي وسائل الإعلام الآن
تخبرنا عن حدوث لقاء تاريخي بين البابا بنديكتوس السّادس عشر وبين العاهل السّعودي، الملك عبد الله. وقد أكّدت الأنباء على أهميّة هذا الحدث واصفةً ايّاه بالتّاريخي إذ أنّ هذا اللّقاء كما ذُكر: "هو الاول بين رأس الكنيسة الكاثوليكية وملك سعودي"، وذلك علمًا بأنّ الملك السّعودي يحمل لقب خادم الحرمين الشّريفين. من هنا فإنّ لقاء مثل هذا يحمل من النّاحية الرّمزيّة على الأقلّ أبعادًا لها علاقة بعلاقة المسلمين بالمسيحيّين، علاقة الإسلام بالنّصرانيّة. كما أفادت الأنباء أنّ البابا وخادم الحرمين، في اللّقاء الّذي جرى بينهما، قد "دعوا خلاله الى إرساء السلام في الشرق الأوسط، وبحثا الحاجة الى تعزيز التعاون بين المسيحيين والمسلمين واليهود... مؤكدين خلال الاجتماع الثنائي والتاريخي، والذي استمر قرابة الساعة، أن العنف والإرهاب لا دين ولا وطن لهما، وان على جميع الدول والشعوب التكاتف في التصدي لهذه الظاهرة والقضاء عليها..."، ومؤكّدين "على أهمية الحوار بين الأديان والحضارات لتعزيز التسامح، الذي تحث عليه جميع الأديان ونبذ العنف، وتحقيق الأمن والسلام والاستقرار لكافة شعوب العالم." (نقلاً عن: الشّرق الأوسط، 7 نوڤمبر).
غير أنّ حادثةً حصلت في اللّقاء
قد غابت عن أعين القارئ العربي، إذ لم تتطرّق إليها الصّحافة العربيّة، أو لم تنتبه إلى أهميّتها في هذا السّياق الّذي نتحدّث عنه. لقد تعقّبت وسائل الإعلام العربيّة الّتي تطرّقت للّقاء غير أنّ وسائل الإعلام العربيّة قد تجاهلتها قصدًا أو دون قصد. وفي رأيي فإنّ هذه الحادثة هي من بين أهمّ الأمور الّتي حصلت أثناء هذا اللّقاء ولها أكثر من دلالة ومغزى. أقول هذا الكلام لأنّ لهذه الحادثة علاقة وثيقة بتلك النّظرة النّمطيّة تجاه العرب والمسلمين، والّتي يحاول العرب والمسلمون محاربتها، غير أنّهم وبأفعالهم يُغذّونها ويكرّسونها بوعي منهم أو بدون وعي.
لقد نُشر أنّه وخلال اللّقاء بين البابا والعاهل السّعودي، تمّ تبادل الهدايا بين الطّرفين، وهذا على كلّ حال هو عرف في لقاءات من هذا النّوع بين قيادات وزعماء العالم. فقد قرأنا: "وفي نهاية اللقاء قدم خادم الحرمين الشريفين للبابا سيفًا من الذّهب والفضّة مرصّعًا بالجواهر الكريمة وتمثالاً صغيرًا من الذّهب والفضّة يصوّر نخلة ورجلاً يركب جملاً، فيما تلقّى خادم الحرمين الشريفين من البابا لوحةً تمثّل الڤاتيكان تعود الى القرن السادس عشر" (نقلاً عن: الشّرق الأوسط).
والأمر المهمّ الّذي لم يصل إلى القارئ العربيّ
في هذه الحادثة هو: ماذا كان ردّ فعل البابا في هذا الموقف؟ لقد قرأت الخبر في الإنترناشيونال هيرالد تريبيون، وهذا يعني أنّ العالم الغربي أو العالم الّذي يقرأ الإنكليزيّة قد علم بما حدث، بينما ظلّ العالم العربي والقارئ العربي في ظلام دامس. لقد قرأ العالم بأسره باللّغة الإنكليزيّة إنّ البابا بنديكتوس السّادس عشر، وفي هذا الموقف: "قد أثنى على تمثال النّخلة وراكب الجمل، بينما لم يُعر السّيف اهتمامًا بالمرّة" (نقلاً عن: الهيرالد تريبيون). إنّه موقف ذو دلالة كبرى في لقاء من هذا النّوع. فعلى خلفيّة الجدل الّذي ثار في الآونة الأخيرة حول موضوع محاضرة البابا بشأن الإسلام والسّيف، ماذا سيفكّر البابا بينه وبين نفسه في وضع مثل هذا؟ وماذا سيفكّر العالم الّذي يقرأ خبرًا من هذا النّوع؟ لهذا السّبب ذكرت الأنباء أنّ البابا أثنى على تمثال النّخلة وراكب الجمل ولم يُعر هديّة السّيف اهتمامًا وبالكاد لمسه، ففي ذلك مقولة وأيّ مقولة لأُولي الألباب.
ما من شكّ في أنّ حادثة مثل هذه هي جزء من أسباب النّظرة النّمطيّة تجاه العرب والمسلمين. فتصوّروا على سبيل المثال، ماذا كانت ستكون ردود الفعل العربيّة والإسلاميّة لو قدّم أحد الزّعماء أو القادة من العالم هديّة لملك عربيّ أو زعيم روحيّ مسلم، هي عبارة عن خنجر أو سيف صليبيّين مثلاً، بدعوى أنّهما جزء من التّراث الغربيّ المسيحيّ. بالطّبع كانت ستثور، وبحقّ، ثائرة العرب والمسلمين إزاء تصرف كهذا. من هنا، يمكننا أن نخلص إلى القول إنّ بعض الأفعال - حتى وإن نبعت من نيّة طّيّبة- هي في الكثير من الأحيان السّبب من وراء النّظرة النّمطيّة تجاههم. أليس كذلك؟
والعقل وليّ التّوفيق.
salman.masalha@gmail.com
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية