كتَّاب إيلاف

الحقيقة بين صمت الفرد في عزلته وإجماع الأغلبية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

"من ذا الذي يستطيع أن يعلم أنه يعرف شيئا من الأشياء إذا لم يكن يعرف هذا الشيء من قبل؟" اسبينوزا

هل نتحدث عن حقيقة الإنسان أم عن علاقة الإنسان بالحقيقة؟ وهل نبحث عن تعريف لها أم عن معنى؟ هل يتعلق الأمر بالتفتيش عن مصدر أم بإيجاد معيار نميز به الصواب عن الخطأ؟ ولكن من يحدد هذا المعيار؟ هل هو الإنسان الفرد المنعزل أم مجموعة من الذوات المفكرة؟ لذلك ترجع في الغالب إشكالية الحقيقة إلى إشكالية من يملك ميزان الحق؟ هل هو الفرد أم المجموعة؟
أبيكتات يعترف أن رأي الواحد منا غير كاف إذن لتحديد الحقيقة لأن الآراء متناقضة وليست صائبة ولابد من البحث عن التأييد من خلال إجماع عدد كبير من الناس لكن ألا يوجد معيار يعلو على الرأي ويخلص الناس من جنون استعمالهم للظن.
أما ديكارت فانه أكد أن الإجماع علامة خارجية على صحة الحقيقة وبرهن على وجاهة رأيه بتأكيده أن الموضوعية ليست ما تتفق عليه الجماعة لأن هذه الأخيرة قد تتفق على رأي خاطئ في حين أن فرد واحد يمكن أن يكون على حق في عالم كله خطأ فمثلا النظريات العلمية والفلسفية الناشئة تعيش وضعا مأساويا في بداية تشكلها إذ يرفضها الأغلبية ويرونها متعارضة مع المألوف ولا تعطيها السلطة للمعرفية المسيطرة حق الوجود، كما أن لوحة راقية من لوحات الفن التشكيلي قد يعتبرها الجمهور مجرد رسوم عبثية وتعبير عن فن هابط.هكذا يكون الإجماع في حاجة إلى ظهور الحق لبيان شرعيته ولا يكون الحق في حاجة إلى تشكل الإجماع لأن الحقيقة دالة على قيمة الإجماع وليس الإجماع دالا على الحقيقة.إن العيب هنا كما يقول الغزالي أنهم يعرفون الحق بالرجال ولا يعرفون الرجال بالحق.
في الواقع لا يوجد تصور واحد للحقيقة بل عدة تصورات فهناك حقيقة علمية وأخرى فلسفية وهناك حقيقة دينية وأخرى فنية وترتبط الحقيقة الصورية باتفاق الفكر مع ذاته وتتوقف الحقيقة المادية على التطابق بين الحكم العقلي وعالم التجربة وبالتالي لم نعد أمام حقيقة واحدة مطلقة وثابتة بل عدة حقائق جزئية ونسبية ومتغيرة ولم تعد الحقيقة كذلك معطاة منذ الأزل وما على الإنسان إلا اكتشافها بل يبذل الفرد جهدا كبيرا من أجل إنشائها واختراعها.
إن المعتزل قد يكون على حق في بعض الأحيان وربما يغير نفر من الناس وجه العالم وحينما يصبح القلائل هم الأكثر عددا والأكثر إتباعا تفسد الحقيقة ويتحولون إلى رؤساء مذاهب وشيوخ طريقة وقد تكون لهم أفكارا مماثلة لأفكار الناس جميعا، وقد رأى البعض أن الحقيقة واحدة أما الخطأ فكثير وهو في الجمع وأكدوا أنه إذا كانت هناك عدة حقائق فان الحقيقة لن يعد لها وجود لأنه لا توجد سوى طريقة واحدة لكي نصبح أخيار بينما توجد ألف طريقة لكي نصبح أشرار.
المعتزل لا يفكر مثل الآخرين بل بشكل مختلف عنهم ولا يفكر مع بقية الناس بل ضدهم ومن أجلهم وقد يظن البعض أنهم يفكرون بينما هم يكررون فلسفات جاهزة ويتبنون شعارات شائعة وبالتالي ينبغي أن نميز بين توهم التفكير والتفكير الحاذق النوع الأول هو من صنيعة المنتفع والنوع الثاني هو من ابتكار مخيلة المبدع.
على هذا النحو فان الإجماع لا يمكن أن يكون مقياسا للحقيقة بل إن مجاراة المرء المفكر للذوق العام والبحث عن التناغم مع انتظارات الجمهور ينمط الأسلوب ويقتل القدرة على النقد والمساءلة ويضعف لدى الشخص روح المبادرة والقدرة على اقتحام المجهول وركوب المخاطر.
يميز أفلاطون في محاورة الغورجياس بين الشاهد والبرهان ويعتبر الشاهد حجة غير كافية للبرهنة على وجود الحقيقة بل يرى أنه يستعمل إما للتأييد أو للدحض فجلب عدد كبير من الشهود لا يغني ولا يسمن من جوع في مستوى قيمة الحقيقة إن كانت صادقة أو كاذبة وبالتالي لا ينبغي على الإنسان المتوحد المدرك للحقيقة أتن يستسلم أمام طائفة من أشباه الشهود ويغير رأيه في ماهو واضح أمامه تمام الوضوح.
في هذا السياق يصرح أفلاطون:"إني إن لم أجلبك أنت نفسك وبمفردك كشاهد وما لم أحملك على أن توافقني على ما أقوله فاني أقدر أني لم أفعل شيئا في اتجاه حل المسألة التي تشغلنا وانك لم تفعل شيئا يدرك ما لم أشهد أنا نفسي لصالحك وما لم تقصي كل هؤلاء الشهود دوني..."
بيد أن اسبينوزا له ٍرأي آخر يتمثل في أن الحقيقة تستمد من ذاتها صدقيتها وليس من الذات العارفة ولا من إجماع الناس إذ يقول في هذا السياق:" مثلما أن النور يعرف بنفسه ويعرف بالظلمات فان الحقيقة هي معيار ذاتها ومعيار الخطأ".
ننتهي إذن إلى أن الحق متعدد على الصعيد النظري وواحد على الصعيد العملي ومن واجب كل إنسان أن يعترف بالتنوع والاختلاف ووجاهة الزاوية التي ينظر منها الآخر على الصعيد المعرفي وأن يتخذ موقفا واضحا لا لبس فيه على صعيد الممارسة وأن يعتبر الحقيقة الفلسفية حائزة على هذا الطابع المزدوج الذي يجعل منها في نفس الوقت جزئية وكلية ألم يقل هوسرل:"إن الفلسفة هي من بعض الوجوه شأن شخصي لدى الفيلسوف وسعي إلى المطلق"، فكيف تنزع الحقيقة إلى الكوني إذا كان منبتها شخصي؟ ألا يتناسب ذلك مع تعريف هيدجر للحقيقة على أنها لا تحجب وانكشاف وحرية؟ لماذا طغى الآن على الصعيد الكوكبي التعريف البرغماتي الذي يقرن الحقيقة بالمفيد؟ وهل يمكن مناهضة ذلك نحو تصور أكثر انسانية؟
كاتب فلسفي

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
الحقيقة
خوليو -

هناك حقائق لايمكن نكرانها، فمثلاً لايستطيع أحد أن ينكر أن الطائرة تطير بثلاثمائة شخص إلى ارتفاع 30 ألف قدم إلا كل من لم يشاهد الطائرة تطير، وعندما يراها، ينضم لكل من رآها، فهي حقيقة،أي أن هناك حقائق لايمكن نكرانها وهي مرتبطة بالرؤية، نصدق عملية بناء الأهرامات لأننا نرى الأهرامات، المشكلة تنبع من التأكيد على وجود شيئ لم يره الشخص نفسه ولكنه يصّدق قول شخص آخر، ويشهد أنه حقيقة، بل ويجادل ويقتل شخص آخر من أجل حقيقة نسبية لم يراها، وهنا ينبع السؤال الأكثر تعقيداً :لماذا تصدق الكتل البشرية معلومات وقصص ويشهدوا كذباً على أنهم رؤوها؟ المتعارف عليه هو أن الشهادة هي من الفعل شهد أو رأى بعينيه، القاضي مثلاً لايقبل شهادة ضرير على أنه شاهد فلاناً يضرب فلان،الجدال يحدث عندما تُصر فئة على برهنة وجود شيئ لم يروه لفئة أخرى ترفض أساساً وجود هذا الشيئ، وهذا مانعاني منه جميعاً، افصلوه واتركوا هذا النقاش العقيم.

الحقيقة حقل ألغام
محمد المشاكس -

من جهل شيئاً عاداه. وللحقيقة مستويات فحقيقة إسبينوزا البسيطة غير حقيقة ديكارت التي تعتمد على العقل والإجماع مثلاً. وهكذا فالتحدث عن حقيقة شروق الشمس لا توازي البحث عن حقيقة تاريخية إختلف حول مصداقيتها الكثير وإن كان هناك إجماع على حقيقتها فلهذا فمايعرف بالحقيقة يجب أن يدرس من خلال العلاقة بالقوة المنتجة لتلك الحقيقة والسياق التاريخي المدعوم بالعلمية العملية وليس القيم الطوباوية والكلام المكرر المؤدلج الخادع. وعوداً إلى نقطة الجهل فالتعليم والعقل هما مفتاح الحقيقة أو الحئيئة كما يقول البعض...

الحقيقة هى
رمضان عيسى -

الحقيقة هى تصورتا،فكرنا ،تجربتنا ، عن الواقع وليس الواقع نفسه .والواقع لايكون كاذب أو صادق أنه موجود وحسب . ان فكرنا عن الواقع هو الذى يمكن أن يكون حقيقه .فالحقيقه عكس الضلال والخطأ . والحقيقه تكتشف بشكل جزئى ،شذرات . ومن هذه الشذرات تتكون الحقيقه ، ويتأكد من صحتها الانسان بالتجربة ، وما يتأكد الناس من صحته بالتجربة يكون جزء من الحقيقه المطلقه .ففى حياتنا هناك حقائق مطلقة مثل الاشياء على الارض بفعل الجاذبية الارضيه وأن الايدز مرض قاتل . فالحقيقة ليست رهنابعواطف الانسان ولابالأغلبية العددية ولا بالفائدة لفرد بل تقاس بمدى مطابقتها للواقع العاش والمجرب .