تاريخ مقت الكتابة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
لم أعد أنزعج كثيرا حين تصادر مطبوعة أو يمنع موقع الكتروني في منطقة الشرق الأوسط، لأن هذه هي سمة معظم المجتمعات الأبوية في كل العصور، والتي تحكمها الميتافيزيقا حتي في عصر ثورة الاتصالات، وكما لاحظ دريدا فإن الميتافيزيقا عموما تمنح الكلام أفضلية على الكتابة، فهي تعطي امتيازًا خاصًا للكلمة المنطوقة لأنها تجسد حضور المتكلم وقت صدور القول، وتلزم متلقيًا، فليس ثمة فاصل (زماني أو مكاني) بينهما، فالمتكلم يستمع في الوقت الذي يقول فيه، وهو ما يفعله المتلقي في الوقت ذاته، إن سمة المباشرة في حقل الكلام تعطي قوة خاصة في أن المتكلم يعرف ما يعني، ويعني ما يقول، ويقول ما يعني، ويعرف ما يقول، وهو قادر، فضلاً عن ذلك على معرفة فيما إذا كان الفهم قد تحقق فعلاً أم لم يتحققrdquo;.
إن تفضيل الكلام على الكتابة، وهو ما اصطلح على تسميته بـ ldquo;التمركز حول الصوتrdquo; - Phonocentrism إنما هو سمة كلاسيكية من سمات التمركز حول العقل - Logocentrism، وهو مثله مثل ldquo;تمركزاتrdquo; عديدة أخرىrdquo; ldquo;كالرؤية أو الضوءrdquo;، دعمت هذه المركزية حول ldquo;العقلrdquo; أو اللوغوس - Logos.
وإذا كان الصوت في الكلام يمثل ldquo;الحضورrdquo;، حضور المتكلم، فإن الكتابة تمثل الغياب، غياب المتكلم. وحسب دريدا ldquo;فإنه يبلغ من تشبع لغتنا بميتافيزيقا الحضور أنها لا تعطينا إلا هذا البديلrdquo; ويرجع دريدا ذلك إلى أفلاطون الذي أكد في محاورة ldquo;فايدروسrdquo; أن الكلام يحمل طابع ldquo;الحيويةrdquo; الذي تتصف به النفس، وrdquo;الحقيقةrdquo; التي هي حوار الروح الصامت مع نفسها، أما الكتابة فهي وسيلة جامدة صماء، وهي محاكاة ldquo;ميتةrdquo; للفعل الكلامي الذي يتضمن حيوية خاصة.
والواقع أن الآراء قد انقسمت بشأن ldquo;الكتابةrdquo;، منذ القدم، بين مادح وناقد. أكبر المتحمسين كان ldquo;ديودورسrdquo; الذي قال: ldquo;الكتابة هي الوسيلة التي تتحقق بها أهم وأنفع مشاغل الحياة: التصويت، الخطابات والوصايا، القوانين وغيرها من الأمور الضرورية من أجل تسيير الحياة بشكل صحيح. من ذا الذي يستطيع أن يعطي الكتابة حق قدرها؟ hellip; بفضل الكتابة يبقى للأموات ذكر في أذهان الأحياء، وبواسطتها يتقارب الناس في البعاد ويتواصلون ببعضهم البعض، أما عن المعاهدات التي تتخذ وقت الحروب بين الملوك أو الشعوب، فإن الأمان والسلام توفره الكلمة المكتوبة، وهي أحسن ضامن لاستمرار الاتفاق. فضلاً عن أن الكلمة المكتوبة بوجه عام هي التي تحفظ أقوال الحكماء والوحي الإلهي (للآلهة) مثلما تحفظ الفلسفة والثقافة وتقوم بنقلها للأجيال المتعاقبة إلى أبد الآبدين. فإذا كان صحيح أن الطبيعة هي سبب الحياة، فإن سبب الحياة الطيبة هو التعليم المبني على الكلمة المكتوبةrdquo;.
أما النقاد ففي مقدمتهم المؤرخين: ldquo;هيرودوتrdquo; و ldquo;توسيديدسrdquo; نظرًا لما تعلموه في عملهم من أن الكلام المكتوب لا يستحق الثقة. أضف إليهما ldquo;أريستوفانrdquo; في مسرحية ldquo;الطيورrdquo; وتنديده بالكلام المكتوب المنسوب للآلهة بالكذب والافتراء.
لكن أهم هذه الانتقادات جاء من أفلاطون بالفعل، ويمكن تلخيص نقده للكتابة كما جاء في ldquo;فايدروسrdquo; في ثلاث نقاط. 1- أن هذا الاختراع سينتهي بمن يستعملونه إلى ضعف التذكر لأنهم سيتوقفون عن تمرين ذاكرتهم حين يعتمدون على المكتوب، وبفضل ما يأتيهم من انطباعات خارجية غريبة عن أنفسهم وليس بما بباطن أنفسهم.
2 - الكتابة لا تنقل الحقيقة بل مظهرها، ومن يتعلمها يبدو كأنه قادر على الحكم في كل الأمور بينما هو جاهل ومن أشباه الحكماء.
3 - لكن الشيء الأخطر في موضوع الكتابة هو الشبه بينهما وبين التصوير، فهي تظل صامتة لو أننا وجهنا إليها سؤالاً، ولا تستطيع أن تدافع عن نفسها. فالكتابة تجري من اليمين إلى اليسار دون تمييز بين من يفهمونها ومن لا يعنيهم منها شيئًا على السواء، وهي تردد نفس الكلمات. فالكتابة ليست إلا تقليد خداع للكلام المنطوق.
هذا هو نقد أفلاطون الذي استند إليه دريدا، ولكن أفلاطون من ناحية أخرى، هو أول من نادى في كتاب ldquo;القوانينrdquo; (الجزء السابع) بضرورة إنشاء مدارس التعليم الإجباري في مدينته المثالية ونص على فرض تعليم ldquo;الكتابةrdquo; والقراءة على جميع الأطفال دون تمييز بين الذكور والإناث. والسؤال هو: كيف وفق أفلاطون بين النقد الهدام للكتابة وبين الدعوة لتعميمها؟
يقول مصطفى صفوان: ldquo;1 - إن ظهور الكتابة اقترن بالقداسة، إذ أخذت شكل الحقيقة المنزلة. 2 - أفلاطون أراد رفع صفة القداسة عن الكتابة، لأنه رأى أن مجال الوصول إلى الحقيقة ليس هو الكتابة وإنما الجدل (الكلام المنطوق) الذي يتضمن ثلاثة أطراف: المتكلم والمخاطب واللغة المشتركة بينهما. بحيث يمكن القول أن ldquo;أفلاطونrdquo; للمرة الأولى في تاريخ البشرية، استخلص بنقده فكرة ldquo;العقلانيةrdquo; في حد ذاتها، مجردة من كل خلط بالاعتقاد. وهذا فتح لا يقل أهمية عن اكتشاف الكتابة نفسهاrdquo;.
لقد كان أفلاطون واعيًا بمغزى نقده، والدليل على ذلك هو أنه بدأ بالإشارة إلى الأسطورة المصرية التي تفسر ظهور الكتابة بأنها هدية من الإله ldquo;تحوت. كذلك تمييزه المستمر بين الموضوعات التي يستطيع العقل أو الجدل أن يقول فيها كلمته، والموضوعات التي يضطر فيها إلى اللجوء إلى الأساطير والمعتقدات كي يسد ثغرات جهله.
فإذا كان قد نادى بعد ذلك بالتعليم الإجباري للجميع، فلأنه كان ضروريًا للاشتغال بالوظائف العامة، وهذا كان واجب على أعضاء المدينة الأحرار ولتدبير الاقتصاد المنزلي وهذا كان واجب المرأة. ومن المؤكد كذلك أن الفصل بين الجدل والاعتقاد في مجال الفكر الإنساني كان خطوة لا يمكن تصورها خارج تجربة الديمقراطية كما ظهرت في أثينا مدة قرنين: الخامس والسادس قبل الميلاد.
وتكشف كتابات دريدا في ldquo;مجموعهاrdquo; عن أنه كان واعيًا بالدور الخطير الذي لعبه أفلاطون في تاريخ الفلسفة، ومساهمته الأصيلة في مسألة ldquo;الكتابةrdquo;، الدليل على ذلك أنه خصص دراسة مستقلة له هي ldquo;صيدلية أفلاطونrdquo;. فضلاً عن استشهاداته العديدة بأعماله وهذه الدراسة تحديدًا تعد نموذجًا أساسيًا ومبكرًا على قراءة دريدا لمحاورة ldquo;فايدروسrdquo; والنقد السقراطي العريق، وكيف أن أفلاطون استخدم الحيلة البارعة المتمثلة في الزعم بأنه لا يقوم بما هو أكثر من إعادة تسجيل كلام أستاذه وأبيه الفلسفي سقراط. والحال أن أفلاطون كان يقوم بإحياء سقراط حين يعيد كتابة أقواله، وكان أيضًا يقتل سقراط حين يخرق قانون الأخير في تحريم الكتابة. وهكذا فإن ldquo;صيدلية أفلاطونrdquo; تأسست على مبدأ ldquo;الكتابةrdquo; بوصفها الفارماكون، الذي يقتل ويعالج في آن واحد.
يقول دريدا: ldquo;الفارماكون - Pharmakon هو في الوقت نفسه سم ودواء، خير وشر، ناقص وزايد hellip; الخ. لا هذا ولا ذاك، يعدي الواحد بالآخر بدون تصالح ولا إشباع ممكن. يسم في الآن نفسه كل مقابلة ثنائية للدلالات أو للقيم، وهما تكملان بعضهما بعضًا. وتضافان الواحدة للأخرى بلا نهايةrdquo;
الكتابة عند أفلاطون إذًا هي الفارماكون (السم والترياق معًا) وهي حسب دريدا تقوم ldquo;بتغطيةrdquo; المعنى بالشيء نفسه الذي تؤسسه كشفافية. فأي ثنائية يغيب أحد طرفيها بظهور الثاني. كلاهما سم ودواء، غياب وحضور، وجود وعدم، كلاهما يخشاه ldquo;الأبrdquo;. يقول دريدا: ldquo;هكذا يتصرف الإله - الملك الذي يتكلم كأب. هنا يتم تقديم الفارماكون [السم - الدواء = الكتابة] الأب يقوم برفضه واحتقاره وهجره والحط من قيمته. إن الأب يشتبه في الكتابة ويراقبها باستمرارrdquo;.
أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
dressamabdalla@yahoo.com
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية
التعليقات
الكلام والكتابة
علي بابا -عزيزي الدكتور عصام تتحفنا دائما بأفكار جديدة وطريفة ومن هذا الباب أتصور اننا في العالم العربي نمقت الكلام والكتابة والفعل أيضا إلا إذا كان ; مدحا ; وتفخيما و; تأليها للحكم فقط ... عندئذ يسمح به !
ملك وكتابة
سهير فاضل -يمتلك المصريون حسا فلسفيا بالفطرة ، ومن أشهر ألعابهم لعبة ملك وكتابة ; وهي الرسم المنقوش علي وجهي العملة المعدنية .. فأما أن تختار الملك أو تختار الكتابة ؟ ومن المستحيل الجمع بينهما أبدا .
سؤال ؟؟؟؟
عبدالرحمن الشيخ -أفيدوني يرحمكم الله ، تذكر الميتافيزيقيا مقرونة بكلمة الغربية ... لماذا توجد الحرية الآن في الغرب ؟ حرية الكتابة والتعبير بينما لازلنا نرزح في ثقافة التخلف والاستبداد والاستعباد ؟
والعراق أيضا
شاهي رزكار -وفي العراق أيضا يمتك كثير من العراقيين هذا الحس الفلسفي فالحضارات البابلية والأشورية والمسمارية كانت لها مساهمات في الكتابة وليس الأله المصري تحوت فقط . وسبب التخلف في رأيي الدوجما التي صاحبت الكتابة وجعلتها مقدسة ، وعلي سبيل المثال يزعم العرب أن لغتهم مقدسة وزعمت الكنيسة أن اللغة اللاتينية مقدسة ويزعم اليهود أن اللغة العبرية مقدسة ... تحياتي لك من هولندا
الفارماكون
سيد خليل -يبدو أن كلام دريدا عن فارمكون أفلاطون ينسحب علي الديموقراطية في العالم العربي . فالديموقراطية هي السم والترياق ، الداء والدواء ... فقد جاءت لنا بحماس في فلسطين والإخوان المسلمين في مصر ، ومع ذلك هي الدواء الشافي لأمراضنا السياسية المزمنة .
نحن شعب..
فرافيرو -نحن شعب لا نقرأ وإذا قرأنا لا نفهم، وإذا فهمنا لا نعمل، وإذا عملنا لا ننجز، وإذا أنجزنا، وكيف ننجز ونحن لا نقرأ، إننا شعب خطابي، نحب أن نتكلم ولا نسمع، وإذا سمعنا لا نفهم، وإذا فهمنا لا نعمل، وإذا عملنا لا ننجز، وكيف ننجز ونحن لا نسمع، نحن شعب نشاهد ما حولنا، وإذا شاهدنا لا نرى، وإذا رأينا لا نعمل، وإذا عملنا، لا ننجز، وإذا أنجزنا، وكيف ننجز ونحن لا نرى,,, عجبي،،،