كتَّاب إيلاف

ما الحاجة إلى الإنصاف في ظل الاحتكام إلى القانون؟

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

"إن العدالة الصارمة غالبا ما تكون ظالمة"

كل ما ضاق الأمر بالناس وعجزوا عن استرداد حقوقهم عن طريق عدالة القانون droit يظل رغم ذلك أملهم معلقا على مبدأ الإنصاف eacute;quiteacute; لعله يقدم لهم معجزة تنقذهم من ورطتهم لذلك يستنجد الناس به وكأنه مفهوما سحريا يتجاوز سقف كل الحدود والتشريعات الوضعية ويحترم الحقوق الطبيعية ويضمن الحريات ولذلك يسمى الإنصاف العدالة الحقيقية justice veacute;ritable لأنه يحكم بروح القانون وليس بنصه ويتعامل بشكل عادل مع الأفراد ويحاول أن يتفادى النقائص والمفارقات التي تظهر على العدالة عند تطبيق القانون على جميع الناس دون تمييز ودون مراعاة الظروف والوضعيات الخاصة ولذلك فهو يتدخل إما لإكمال compleacute;ter القانون أو لإصلاحه corriger أو لأنسنته humaniser لكن ما المقصود بالإنصاف أولا؟ ولماذا صعد على سطح الفكر السياسي والحقوقي المعاصر؟ ألم تعرف الفلسفة اليونانية والعربية هذا المفهوم وألم تستخدمه في تشريعاتها؟

1- حد الإنصاف:
جاء في لسان العرب أن الإنصاف هو إعطاء الحق وأنصف الرجل صاحبه إنصافا وقد أعطاه النصفة وأنصف إذا أخذ الحق وأعطى الحق وتفسيره أن تعطيه من نفسك النصف أي تعطيه من الحق كالذي تستحق لنفسك ويقال انتصفت من فلان أخذت حقي كملا حتى صرت أنا وهو على النصف سواء وتنصفت السلطان أي سألته أن ينصفني وأنصف الرجل أي عدل وتنصفته بمعنى خدمته وأطعته وانقدت له وتنصفه أي طلب معروفه.[1]
نستخلص إذن أن الإنصاف هو الشعور التلقائي الصادق بماهو عدل أو جور ويطلق على ما يعتاده الإنسان من التوفيق بين سلوكه وشعوره بالعدل فكل من جعل سلوكه مطابقا للمثل الأعلى للعدل كان منصفا ولذلك قيل أنصف الشيء أي أخذ نصفه وأنصف بين الخصمين أي سوى بينهما وعاملهما بالمثل.أما في العلوم القانونية فان الإنصاف يقابل التقيد بنص القانون لأنه عدل طبيعي وليس عدلا شرعيا وهو أسمى من القانون الوضعي وأكثر مرونة منه وفي ذلك قال كوندياك:" الفرق بين الإنصاف والعدل أن الإنصاف يوجب الحكم على الأشياء بحسب روح القانون في حين أن العدل يوجب الحكم عليها بحسب نص القانون".

2- الإنصاف مكمل للقانون:
"إذا كان القانون غامضا لابد من إتباعه وإذا كان متناقضا لابد من التعمق في أحكامه ونصوصه وإذا كان ناقصا لابد من استشارة تجارب الإنصاف".

إذا عدنا إلى التاريخ البشري نجد أمثلة واقعية وتجارب حضارية كان فيها الإنصاف مكملا للقانون ففي روما مثلا وجدت سلسلة كاملة من الإجراءات والتدابير استكمل فيها الإنصاف الحق المتعلق بالحاكم الشرعي وفي بريطانيا تتصرف هيئة المحلفين بنفس الكيفية إزاء القضاء لتخضع النسق الحقوقي حتى تجعله متلائما مع الإنصاف.
عندئذ نتحدث اليوم عن عدالة طبيعية عندما نكون إزاء معضلة قانونية أو فراغ تشريعي فيأتي الإنصاف ليكمل الوضعيات التي لا يبت فيها أي نص قانوني فمثلا يبرئ القاضي إنسانا فاقدا لوعيه اقترف جرما ما لأن التكليف سقط عنه ولا يتحمل المسؤولية في ما فعل والمجموعة هي التي ينبغي أن تتكفل برعايته.المثال الثاني هو مهاجر بطريقة شرعية يطلب اللجوء السياسي ويستجيب له القاضي نظرا لحالته الإنسانية الحرجة وتعرضه إلى الاضطهاد في بلده الأصلي احتراما لمبدأ الإنصاف.
نستخلص إذن أن الإنصاف هو العودة إلى القانون الطبيعي نظرا لصمت القانون الوضعي ومحدوديته أمام تنوع الحالات وتشعب الوضعيات.

3- الإنصاف يصلح القانون:
" إن الاحتكام إلى الإنصاف اليوم سيكون القاعدة القانونية غدا"
إن تلافي المشرع لبعض الحالات والثغرات والنقائص التي يعاني منها القانون الوضعي هو إجراء غير كاف لاحترام قيمة الإنصاف وتثبيته على أرض الواقع ولذلك يطلب من المشرع أن يقوم بمهمة الاستكمال والإصلاح والتجديد للمدونة الحقوقية حتى تكون في اتفاق مع حاجيات المجتمع وتستجيب لتحديات العصر.
هكذا يكون الإحساس بالإنصاف هو الذي يطور القانون ويدفع الدول إلى تعديل دساتيرها وتطوير نصوصها التشريعية فإذا ظلت القوانين على حالها وتبدل الزمان سهل التحايل عليها واختراقها وتوظيفها لتحقيق بعض المآرب دون الوقوع في الممنوع وارتكاب المخالفات فإذا كان القاضي لا يعاقب بالسجن إلا من يسرق متاعا يفوق قيمته أو يعادل دينارا مثلا فان السارق يكتفي باختلاس تسعة وثلاثون دينارا حتى لا يقع تتبعه ومعاقبته ولذلك ينبغي أن يطمر القانون ليعاقب من يسرق أي شيء بشكل متعمد رغم عدم حاجته الأكيدة إليه وإمكانية عدم القيام بذلك.

4- الإنصاف يؤنسن القانون:
" الإنصاف هو العدل ملطفا بالحب" أرسطو يسمح الإنصاف بتطبيق إنساني للقواعد القانونية حتى لا تتحول هذه القوانين إلى سيف مسلط على الرقاب يحمي الأقوياء من تمرد الضعفاء عوض أن يحمي الضعفاء من جبروت الأقوياء. إن رجوع القاضي إلى مبدأ الإنصاف قبل إصدار الأحكام يجعله يرحم الضعيف ويعطف على المحتاج ويعطي فرصة للناشئ المبتدأ ويغفر للمخطئ بغير ذنب ودون عمد أما العدل المؤسساتي فانه يضع عصابة على عينيه تجعله لا يرى الناس الذين يحتاجون إلى العدل الحقيقي. قد ينصف القاضي تلك السيدة التي باعت أحد ولديها لتجد ما تأكل هي والولد المتبقي لأنه حاول أن يؤنسن القانون ويجعله متفقا مع مبدأ الإنصاف دون أن يطبق القواعد التشريعية بحذافيرها لأن في تطبيقها الميكانيكي ظلم وقسوة وحيف.
خلاصة القول أن الإنصاف يكمل ويصلح ويؤنسن القانون فنحن لا نقدر إلا أن نحب الإنصاف لأنه استنجاد بالأحاسيس الأكثر نبلا للإنسان ومراعاة لصوت الضمير المنبعث فيه من الداخل لكن يجب علينا أن نحترس من المبالغة في الاستنجاد بمبدأ الإنصاف ونهمل القانون لأننا إذا اعتمدتاه دون مبرر قد نجعل عمارة القانون تتهدم.
لكن ما قيمة قانون لا ينطبق إلا بمساعدة الإنصاف؟ وما قيمة إنصاف لا يظهر إلا ظلا تابعا للقانون؟ ألا يستوجب الإنصاف نوع من التعقل في تطبيق القانون؟ فماهي علاقة الإنصاف بالتعقل؟

أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
من يحق له
لينا -

السؤال الاهم هومن يحق له بالانصاف وعلى اي اساسهل يحق مثلا للقاضي بعدم الحكم بالسجن والاكتفاء بالتانيب كان يخل احد المشهورين بالقانون ثم ينبري محبيه ومؤيديه للمطالبة بمسامحته نظرا لمكانتهالايتوجب وجود نصوص تحدد هذا الانصافمع الشكر