التاريخ الحديث للشرق الاوسط: المنهج.. البنية.. المجتمع
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
الجولة الثالثة : المجتمع : كيف نفهم مجتمعاتنا؟ الجواب عند التاريخ الاجتماعي
التاريخ الحديث للشرق الاوسط: 1
التاريخ الحديث للشرق الاوسط: 2
بعد هذه المقدمة، اود ان اطرح بعض النقاط حول رأيي في التاريخ الاجتماعي لمجتمعات منطقة الشرق الاوسط، وهو خلاصة عمل استمر اكثر من 25 سنة في هذا الميدان.
اولا: المعاني والتأصيل
ان التاريخ الاجتماعي للشرق الأوسط وشمال افريقيا هو على درجة من التعقيد والتشابك، ولكن دراسته لها متعة ولذة وعمق ثقافة. ان مصادر معلوماته مختلفة جدا، عديدة، وثقيلة، وبعضها نادر الحصول، وبجد من أجل استخدامها. لقد تناولت مع ثلاث فئات : المصادر الاولية القديمة والمراجع الثانوية الجديدة.. ان اغلب الكتابات في التاريخ الاجتماعي للشرق الاوسط لم تستخدم المصادر الاولى كالوثائق والمخطوطات باستثناء بعض الاطروحات والرسائل والبحوث الجامعية الاصيلة. وكثيرا ما وجدنا دراسات ومنشورات يكتبها علماء اجتماع ولا يعرفون كيف يكتبون التاريخ الاجتماعي.. والعكس صحيح ان ثمة مؤرخين يدورون في حلقة مفرغة من الاحداث والوقائع من دون بناء اية علاقة بين ما يكتب وبين الواقع اليوم. واود ان اقول ان من يجازف في الكتابة عن مجتمعات الشرق الاوسط بحاجة الى فهم مسبق للمصادر والاوليات، ثم الاعتماد على الموارد الاجتماعية وكذلك الى اعادة التفكير في تشكيل الحياة الاجتماعية للشرق الاوسط وشمال افريقيا، وهذا ما نجح فيه المؤرخ البريطاني الشهير البرت حوراني في كتابته عن شعوب الشرق الاوسط. ان نقصانا كبيرا في المحليات، وكل ما كتب في المحليات لا يفي بالغرض العلمي، ولا يزيد من معرفتنا شيئا.. فان كان هناك من نقص فاضح في المحليات بالمنطقة ودراساتها المركزة، فكيف يمكن لأي شخص، حتى وان كان متخصصا ان يكتب شيئا عن مجتمعات واسعة في منطقتنا؟
لقد اعتنى الجيل القديم من المؤرخين بالمحليات، وكان على الجيل اللاحق ان يواصل طريقه باتمام المهمة التي بدأت ولكن هذا لم يحدث مع الاسف.. ثمة دراسات ممتازة في كل من تركيا ولبنان وتونس في هذا الجانب، ولكن تبقى بقية البلدان تجهل نفسها.. فانت تسأل في ايران عن اي منطقة فيها، ستجد انها مجهولة تماما عندهم، وهكذا بالنسبة الى العراق الذي يكاد نموذجه قد فضح بعد العام 2003، اذ بدأ العراقيون يسمعون لأول مرة باسماء واساليب عراقية لم تكن ترد لا في ذاكرتهم الجمعية ولا في اعلامياتهم الضخمة.. لقد كتب عن التاريخ الاجتماعي من وجهة نظر احادية وهذا ما لمسته شخصيا في الجزائر، اذ يكاد شرق البلاد لا يعرف سيرورة غربها.. وان شمالها هو غير جنوبها.. اما اليمن فحدث ولا حرج عن مبلغ التهميش في المجتمع واوضاعه المغلقة.. الخ
ثانيا: الرؤية الواسعة
وعندما نلقي نظرة على الشرق الاوسط فان أول ما يتبادر الى أذهاننا انه متجانس المنطقة. ومع ذلك. ان الشرق الاوسط اليوم يشمل مساحة شاسعه تمتد من البلقان نزولا الى شمال افريقيا. ان المساله المهمة في التاريخ الاجتماعي للشرق الأوسط هو اعطاء بعض المعرفه ليس عن الاكثريات التركية والايرانية والعربية، بل التعّرف على الأقليات الاجتماعية، خصوصا وان بعضها غير معروف حتى يومنا هذا بسبب انغلاقه التاريخي والجغرافي لازمان طويلة. ان هناك حتى يومنا هذا من لا يعرف شيئا يذكر ـ مثلا ـ عن الدروز او المتاولة او اليزيدية او الكاكائية.. الخ
ان مجتمعات الشرق الاوسط خليط من اقليات سكانية قديمة وحديثة قد تكون مدمجة بالمجتمعات الكبرى للاكثريات، او انها باقية منعزلة حتى يومنا هذا سواء في بيئاتها الجغرافية الصعبة، او في بيئاتها المحلية المشتركة مع الاكثريات السكانية : ان فسيفساء المجتمعات في الشرق الاوسط يتطلب منا معرفة القوميات والطوائف والاديان والملل الاجتماعية كالارمن والاثوريين والاكراد والامازيغ البربر تامزغا مع الشلوح المغاربة والقبائل والشاوية في الجزائر وبقايا الموريسكيين الاندلسيين في تونس والتركمان والدروز والكلدان واليعاقبة السريان والكاثوليك والارثودكس والبروتستانت المسيحيين والبهائيين والنصيرية العلويين والعلي الهيين والمتاولة واليزيديين والصابئة المندائيين واليهود الشرقيين والمارونيين اللبنانيين واللور الفويليين العراقيين والاقباط المصريين.. وهناك البدو والسودانيين والمالطيين والشبك والشروك العراقيين واليونانيين والبلوشيين والهنود والافغانيين والقزوينيين والجركس والشيشانيين والبهائيين والبختياريين والخواجات الطليان والزنوج والافارقة والاحباش.. الخ
انهم بحاجة ماسة الى ان تعطيهم حقوقهم التاريخية والاجتماعية والانسانية في مثل هذا " العصر " الذي اختلف كثيرا عن شموليات الماضي وهيمنة الاغلبيات على الاقليات.. انهم بحاجة الى اعتبارهم قوى حيوية وفاعلة ونشيطة في المجتمعات التي عاشوا فيها.. انهم جزء لا يتجزأ من حركة التاريخ وهم ايضا سيكونوا جزءا لا يتجزأ من رسم صورة المستقبل، فهم شركاء في الجغرافية والتاريخ معا
ثمة مسألة استنتجتها من خلال قراءاتي وعملي في التاريخ الاجتماعي ان ثمة كتب متخصصة عن هذه الاقليات والقوميات والديانات.. وقليلا بل ونادرا ما اجد دمجا في دراسة مجتمعات التاريخ الوسط بشكل هيئة اجتماعية.. فمثلا ان درس المجتمع العراقي وتاريخه يكاد يكون معظم المضمون ينّصب على العرب العراقيين.. وهذا صحيح كونهم الاغلبية، ولكن من طرف آخر فان الدراسة لن تكتمل الا بمعرفة طبيعة العلاقات السائدة والتاريخ المتوارث من بقايا العادات والتقاليد المشتركة وطبيعة الحياة المشتركة في مجتمع محلي او وطني واحد.
ان مفهوم الشرق الاوسط يصبح غير ذي صلة لكم عندما يفكر جديا في الاختلافات فى الثقافة والاقتصاد والتاريخ وبين كل من هذه البلدان، ولكن عقد ذات الصلة يتمثل بتعدد الاعراق والثقافات والتقاليد. انني اسجل هنا نقطة اعتقد انها جديرة بالدرس ذلك ان مفهوم الاقليات لا يمكنه ان ينحصر في الفئات السكانية والاجتماعية الدينية والقومية والطائفية حسب، بل ان ثمة احاسيسا بالرفض من قبل النخب المفكرة والجماعات المثقفة وهي بالفعل اقليات في وسط اغلبيات من الناس العاديين المهيمنين على مقاليد المجتمع وعاداته.. وينشط هؤلاء من الاكثرية ليكونوا ضد الجماعات المثقفة والنخب المتمدنة اذا ما وقفت الدولة ومؤسساتها الى جانب الجماهير، وساوت حقوقها مع الجميع.. عند ذاك يحس المثقف بالمهانة ويشعر بالتباين ويتطور الى احساس بالشقاء والتهميش، فيهاجر الى مكان آخر من هذا العالم. وعليه، فان شعوره كأقلية في اي مجتمع اوروبي او امريكي او استرالي ينتفي عندما يحس بأن حقوقه هي اكبر مما كانت عليه في وطنه.. وليس عليه الا دفع ضريبة الاغتراب القاتل.. ولكن؟ اذا كانت الجاليات حتى نهاية القرن العشرين في الغرب قد ميزّت نفسها كمتخصصين ومثقفين ومبدعين واطباء ومهندسين.. فلقد غدت الهجرة بابا مفتوحا للجميع، فانك تجد اليوم مجتمعات شرق اوسطية مغلقة في كل من اوروبا وكندا وامريكا.
ثالثا: المشكلة الاساسية
لماذا التاريخ الاجتماعي مهم جدا في الشرق الاوسط؟
استطيع القول انه لا يمكنك ان تطلب من مجتمعات الشرق الاوسط فصل انفسهم عن تاريخها، فهي تعيش الماضي في اعماق اعماقها، وليس الحاضر في نظرها اي شيئ يذكر امام ذلك الماضي الذي تربت ليس على احترامه، بل تقديسه.. وقد اجد ذهنية متباينة بعض الشئ في الرؤية الى المستقبل، بل وتصل حدود الرؤية ليس القطيعة، بل العداء لكل الماضي الذي فات، اذ تتحول الامجاد عند الاكثريات والاغلبيات الاجتماعية الى انكار مطلق عند الاقليات الاجتماعية، وقد يكون الانكار مكبوتا في السر، او يصل الى حد العلن.
لقد تخلصت اوروبا ومجتمعاتها الغربية خصوصا من اي التصاق بالماضي، اذ بقي الماضي يشكل ذاكرة تاريخية تثير الاعتزاز وتفرض الاحترام ولكن بعد نقد التاريخ وتشخيص المواقف واعتراف بالاخطاء والتركيز على المحليات التاريخية، لكشف سمة كل هيئة اجتماعية سواء كانت عمالية ام فلاحية ام سياحية ام جامعية.. الخ ان مجتمعاتنا في الشرق الاوسط لا تعرف القطيعة مع التاريخ في حين تخلصت المجتمعات الغربية وخصوصا الاوربية من ذلك منذ نهاية القرن الثامن عشر، اذ ولدت وتبلورت مفاهيم جديدة استطاعت ان تحل بدائل لما كانت تفرضه المؤسسات الدينية الكنسية وما تريده الدول والعروش وما يتطلع اليه الاقطاع القديم.. ان مفاهيم القطيعة مع الماضي لم تلد من فراغ، بل كانت من ورائها حركات وافكار وفلسفات.. جعلت الانسان يفكر في حاضره ومستقبله وكيف يصارع الاضداد بدل الجلوس مع البكائيات او ترديد النصوص والاشعار او تبادل الروايات عن الماضي والتفاخر به او صرف الزمن في الطقوس الكنسية..
لقد تبلورت المفاهيم الانسانيه والدستورية، وظهرت الحاجة الى العلمانية بعدم تدخل رجال الدين في آليات الحكم والسياسة والتشريع، وكان لابد من الحريات والقوانين المدنية التي تلبي ضرورات الحياة الحديثة، والتفكير في المثاليات الطوباويه والحركات القومية، والوصول الى الاشتراكيه التعاونية وتطورت المجتمعات الغربية على حساب تفاقم الاستعمار وتبلور صراع الطبقات اثر الثورة الصناعية وصولا الى الحرب العالمية الثانية مع تبلور المفاهيم الشوفينية العنصرية.. وصولا الى الحرب الباردة التي انهت الصراع لصالح الرأسمالية الكابيتالية والعولمة.. لقد اصبحت المجتمعات في العالم تخطط لمستقبل ايامها قبل ان يشغلها ماضيها.. ان ذكرياتها التاريخية لا تفيدها الا بجعلها مجموعة دروس وعبر من اجل معالجة الحاضر وبناء المستقبل، اما ان تبقى تلوك روايات الماضي وتراجيدياته ومآسيه وتبكي وتولول عليه..او ان تتحرك من خلال رواياته لذبح الناس بناء على ما قيل في الماضي.. او انها تحتفل وتمجد في حوادثه وتجعل من ابطاله شخوصا يعيشون معنا.. يأكلون ويشربون برفقتنا وليس مجرد بضعة رموز من الماضي.. فهذا هو اس الداء الذي كان ولم يزل يفني مجتمعاتنا، ويأكل زمننا، ويهيمن على مشاعرنا ويضيق على تفكيرنا ويجعلنا اسرى في شرانق لا يمكن التحرر منها او الخروج من نسيجها وخيوطها اللزجة المدمرة أبدا.
وعليه، ففي المجتمعات غير الشرق اوسطية يمكنك ان تقول ما تريد. ولكنك محروم من ذلك في مجتمعاتنا، وان الناس لم تزل تعاني من بقايا التاريخ وترسباته القوية التي تعيش في الضمائر. نعم، انهم يعيشون في القرن الحادي والعشرين، ولكن لا تزال وجداناتهم مشحونة بما قال فلان وما فعله علان في الماضي.. ان التقاليد والعادات والاحساسات بالانتماءات العرقية والقبلية والمذهبية والدينية مغروسة في الاعماق، وغدت راسخة حتى لدى متعصبين وعصابيين في الجيل الجديد.. انها موجودة في اللامنتمي لهذا العصر ولكن الانتماء للماضي مفرط للغاية. وعليه، فنحن بحاجة ماسة للقطيعة التاريخية، واتمنى ان لا يتهمني البعض من المتعصبين والمتطرفين اتهامات باطلة، بل انها دعوة مخلصة من اجل ان نحترم الماضي ونفهمه ولكن علينا ان نبعده كي لا يكون سببا في انقساماتنا اليوم وتشرذمنا وصراعاتنا الدموية مستقبلا. انها دعوة من اجل معرفة الاخطاء وتشخيصها والاعتراف بما سجّل من اخطاء وخطايا لا دخل لنا فيها نحن ابناء هذا العصر، فاما ان نكون معاصرين حقيقة وننتمي لهذا العصر الذي اصبحنا جزءا منه، او نرفضه رفضا قاطعا ونبقى في اطر الماضي وشرانقه وهذا يستحيل حدوثه ابدا.
رابعا: وجهان لعملة واحدة
ماهية التاريخ الاجتماعي والاقتصادي للشرق الاوسط وشمال افريقيا؟
عندما نفلسف التاريخ الاجتماعي لمجتمعاتنا قاطبة نشعر بالقلق والالم على اولئك الناس الذين عاشوا حياتهم الصعبة في الماضي.. وكيف كانت افكارهم وتجاربهم وممارساتهم؟ ولماذا لم تبق تصرفاتهم على ما كانت عليه؟ لماذا تغيرت الاساليب مع مرور الزمن؟ وهنا يستوجب الاجابة على مجموعة واسعة من الاسئله حول السلوك الاجتماعي، والمنظمات والطرقيات واساليب العيش والهويات في الماضي. دعونا نضرب امثلة تاريخية مستلة من دراسات علمية عن تاريخية الاقتصادات التي عاشتها مجتمعاتنا بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر كي نجد اربعة قرون زمنية عانت مجتمعاتنا من اهوال وكوارث طبيعية وسياسية وادارية واجتماعية، فلقد عانت من آثار الفيضانات، وارتفاع الأسعار، والمجاعات، والاوبئه، والكوارث، والزلازل.. وايضا من صرامة العهود العسكرية واساليب الجندرمة وقسوة الولاة وضرائب السوق، وغيبوبة المجتمع وتفاهة ثقافته، وانتشار الطرقيات، والايمان بالخرافات، والتشبث بالاضرحة.. الخ سيجد كم كانت وساوس الناس شديدة وتعلقها بالاوهام..
ولكن من يدرس التطورات التجارية، وحركة السوق، والعلاقات الانتاجية للارض واقطاعاتها العسكرية.. الخ سيخلص الى ان مجتمعاتنا كانت سلبياتها اكبر بكثير من ايجابياتها في اغلب المناطق الحيوية والمدن المهمة في الشرق الأوسط، وفيها ثلاثة انواع من التجارة : المحلية او الداخلية والاقليمية والدولية. اما الطرق التجارية القاريه، فقد استخدمت الطرق والمسالك البرية والنهريه والبحرية.. ولعل ابرز طبقة قديمة عرفها تاريخنا الاجتماعي هي طبقة التجار وتباينت قوتها حسب تفاعلها مع سوق البازار الشرقي ومنافستها سوق العالم الذي كان يسيطر عليه الاوربيون، ثم تأتي الصناعات والحرف في المدن المهمة التي وجدنا كم تطورت حتى خلقت لها مشيخات حرفية ( = بمثابة نقابات له) ناهيكم عن مواريث الزراعة التي وجدت في الريف، وكانت المدن تعتمد عليها اعتمادا كبيرا.. اما البدو، فكثيرا ما كان يقف في الضد من الحضر ويشتهر بالسلب والنهب على المسالك التي تمر بها القوافل. لقد نجح العالم العراقي الاستاذ علي الوردي في تفكيك العلاقة الثنائية بين البدو والحضر كتلك التي ميّزها العلامة ابن خلدون قبل قرون، وقد اطلقت ثلاثية جديدة متواضعة في التاريخ الاجتماعي من خلال دراسة علاقات الصراع بين الحضر والريف والبادية.
خامسا: الثلاثية بديلا
كيف تطور التاريخ الاجتماعي في الثلاثية التي ناديت بها؟
هنا اقترح لمعالجة تاريخنا الاجتماعي ضمن منظور التنمية الاجتماعية في تاريخ الشرق الأوسط في مسألتين اساسيتين، هما :
(1) معالجة القضايا الاجتماعية من خلال التاريخ المحلي في ثلاثة أبعاد هي : المدن والقرى (= الريف) والبادية (= الصحراء).
2) المساله الثانية تتمثّل بتاريخ المركز واحتياجاته وارتباطاته باللواحق والاطراف، او ما عبّرت عنه بـ " الدواخل والاطراف " (على سبيل المثال، لدينا اثنين من المجتمعات ببغداد نفسها، وهما مجتمع حضري قديم ينتمي الى دواخل بغداد القديمة وآخر يتمثل بمجتمع لواحق عاش خارج الاسوار القديمة.. ولكن وجدت بغداد نفسها خلال القرن العشرين بهيئة مختلطه واحدة ( يعّبر البغداديون القدماء عنه بمصطلح " لملوم ") وهذا ما نجده في اغلب المدن الحيوية في مجتمعات الشرق الاوسط.. كما وجدت مصطلحا جزائريا يسمي الطارئين على المدن بـ " اولاد الاعروبية " ومن يتأمل في مصطلحات اغلب المدن سيجد سمات يطلقها ابناء الدواخل على ابناء الاطراف المختلفين الذين وجدوا انفسهم في قلب المجتمع في النصف الثاني من القرن العشرين، ولم تستطع كل الانظمة السياسية الحاكمة من ايجاد حلول عملية لهذا التداخل وآثاره على مجتمعاتنا، بحكم وصول ابناء الاطراف الى المواقع المتقدمة في الحكم وقيادات البلاد ابان النصف الثاني من القرن العشرين، بكل ما يحملونه من ارث اجتماعي وسايكلوجي مضاد..
سادسا: تشخيص البنى الاجتماعية القديمة وتفكيكها
بحلول القرن السادس عشر، ووصول الامبراطوريه العثمانيه ذروتها من القوة في نظام الشرق. كانت الاراضي باجمعها مقسمة الى اقطاعات عسكرية ( تيمارات وزعامت وخواص) اتسمت العلاقات الانتاجية بوقوع مظالم لا حدود لها على الفلاحين الذين يعيشون على مساحة واسعة من الشرق الاوسط تمتد من قلب اوروبا حتى الصحارى العربية. وبالرغم من ان الامبراطوريه العثمانيه كانت قوية وجيدة التنظيم، الا ان المجتمعات في كل من شرقي اوروبا والشرق الاوسط كانت تعاني من هول كوارث لا حصر لها، وخصوصا عندما لا تنتج الارض شيئا لانحباس المطر مثلا، فتنتقل المشكلة الى غلاء فاحش ومن تنتقل المشكلة الى مجاعة عارمة وهنا تنتقل الى تفشي الاوبئة والطواعين التي تنتقل بالعدوى.. لم تكن المجتمعات لها وعيها بالعدوى.. فكثيرا ما ينتقل الوباء بعد تشرد الناس في البراري فتنتقل الطواعين من مدينة الى اخرى. ان رصدا دقيقا للتاريخ الاجتماعي، سيعلمنا ان انهيار الاقتصادات المحلية كانت سببا في حدوث مشاكل اجتماعية لا تعد ولا تحصى.
من الواضح ان المجتمع كان ينقسم ابان اربعة قرون مضت الى الطبقات الاجتماعية التالية، ( مثلا دراستي عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية خلال القرن الثامن عشر، نشرت في عام 1985)، اذ وجدت ان هناك خمس طبقات اجتماعية :
1)طبقة الاعيان وملاك الاراضي (2) الطبقة العسكرية : الانكشاريون والسباهيون. 3) طبقة العلما والادبا من المثقفين وعلماء الدين الكبار. 4) طبقة التجار : السلطة والمال لدى التجار الجلبية او التجار الصغار العاديين. 5) طبقة الحرفيين والصناعيين (العمال والفلاحين والكادحين والفقراء والمعدمين.
كان نظام الممل هو السائد على مدى العهود العثمانية، ويشبه بعض المؤرخين الامبراطوريه العثمانية سابقا بالولايات المتحدة الامريكية اليوم ؛ اذ كانت دولة قوية اتخذت من اللامركزية اسلوبا في حكم الايالات (- الولايات / الاقاليم) ورافقتها مشكلات لا تعد ولا تحصى في علاقتها بالمجتمعات التي حكمتها. ان أهمية نظام " الملل " millets هو الذي جعلها فوق الجميع باستخدام مفهوم ( الملة العثمانية)، وخلق المزيد من التعايشات الاجتماعية على الرغم من اهتزاز الصلات بين مجتمعاتنا والسلطات المركزية.
سابعا: المرأة المختفية من التاريخ
منذ جيل مضى، تساءلت المؤرخة البريطانية شيلا روبوثام عن سبب اختفاء النساء من التاريخ! اما في الشرق الاوسط، فبالرغم من العجز الكبير في تاريخ المرأة في عدة مجالات، الا ان المرأة في المجالات الاجتماعية، لا سيما خلال العصر العثماني، فقد كانت تتمتع بمساحة من الحرية. وتدل وثائق المحاكم الشرعية عن حرية العمل الاجتماعي للمرأة والحرية في امتلاك الارض. ويقر العديد من المؤرخين الاجتماعيين في العالم ان المرأة كانت في التاريخ الحديث للشرق الاوسط تتمتع بحقوق افضل بكثير من حقوق المرأة في جميع انحاء اوروبا وامريكا وخلال الفترة الزمنية نفسها.. ربما اتفق بعض الشيئ في ما يخص حالات معينة، ولكن اجد ان اوضاع المرأة كانت مزرية ومهضومة في حقوقها وواجباتها.. ولقد تعّرضت لمشكلات لا حدود لها، ولم نشهد اية ادوار تاريخية لنسوة في الشرق الاوسط وصولا الى القرن التاسع عشر. لقد بقيت المرأة مهمشة لتاريخ طويل بالرغم من كل خدماتها التي قدمتها للمجتمع.
ثامنا: الاستنتاجات
1)اود ان اشدد على اهمية فهم مجتمعاتنا بالتركيز على التاريخ الاجتماعي، وخصوصا ايلاء الاهتمام بتواريخ محلية لمدننا العريقة وللارياف والقرى ثم للبوادي.. وتحليل العلاقات الانتاجية التي كانت سائدة مع كل تحولاتها، ثم المرأة والاسرة والتماسك الاجتماعي مقارنة مع مجتمعات اخرى في العالم.
2) وإذا فهمنا هذا التاريخ الاجتماعي، فان مشروعات تبني التحديث في مجتمعات الشرق الاوسط تصبح سهلة في مجالات مفيدة، مثل : النمو الحضري، ودور المرأة، والعمل وتنمية الامكانات ورعاية الابداعات وتوفير الضمانات التي تطور الحياة الاجتماعية والاعتناء بحقوق الانسان والتمتع شيئا فشيئا بالحريات ومن ثم بناء الديمقراطية.
3) اعتقد ان هذا النوع من التأريخ الاجتماعي يعطي كل المجتمعات في العالم اليوم الكثير من الخبرات للتعامل مع سكان تلك المنطقة المعنية، وخصوصا اذا علمنا بأن التنوع والتعدد من سمات مجتمعاتنا. من هنا يتم التأكيد على احترام كل التنوعات الاجتماعية للاغلبيات والاقليات وربطهم بنسيج واحد.
4) اود ان اترك انطباعا نهائيا لدى جميع المهتمين بهذا الموضوع، يقول بأن لا فهم لمجتمعاتنا الا بمنهج، ولا تاريخ لها من دون وثائق.. ولا اطلاق اية احكام مطلقة من دون دراسة وبحث دقيقين..
5)واخيرا اقول ان مجتمعاتنا كانت ولم تزل في خدمة الدول والانظمة الحاكمة.. في حين ان الدول والانظمة الحاكمة ينبغي ان تكون في خدمة مجتمعاتها. لقد دفعت مجتمعاتنا اثمانا باهضة من اجل تحررها وتطورها.
اشكركم على حسن اصغائكم وانا مسرور جدا لتقديم هذا العرض، وساكون سعيدا لسماع اسئلتكم حول ما قدمت.
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية
التعليقات
تصفيق حاد ؟!!
رشاد القبطي -تصفيق تصفيق حاد ؟!! هل يخاطب الكاتب الغربيون الذين يهزون رؤوسهم طربا لمثل هذا الفلكلور الشعبي اذا كان في الغرب حرية ولدينا حرية اي فرق بيننا وبينهم هذا لايجلب السياحة الى بلادنا يجب ان نقدم شيئا مختلفا يثير دهشتهم ويجعلهم يتآوهون ؟!! لا تنس ان الغرب الديمقراطي هو الذي يحمي الاستبداد في بلادنا ، اعترض على مصطلح الشرق الاوسط انه مصطلح استعماري كونيالي عنصري فاشي صكه الاستعماريون الغربيون الديمقراطيون الحداثيون الانسانيون ؟!!
اولاد اعروبيه
ابو خالد -اقتباس: "وجدت مصطلحا جزائريا يسمي الطارئين على المدن اولاد اعروبية".انتهى الاقتباس. الان فهمت قصد الكاتب في القطيعة مع التاريخ.