تركيا: خطر الدولة الخفيّة يهدد المنطقة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
وأخيراً اعترف رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان بوجود دولة خفيّة تعمل على حبك المؤامرات وضرب المعارضين لإيديولوجية الدولة الرسمية. وهو اعتراف متأخر كثيراً فضلاً على انه يأتي من شخص تخلى عن "مشروع الإصلاح والتغيير" الذي بدأه وإستكان لقواد ورجالات الدولة الخفيّة آثراً السلامة وطول البقاء.
كلام أردوغان جاء على خلفية النقاش الحامي الدائر حالياً في تركيا حول وجود دولة متجذرّة أخطبوطية تعمل على تصفية كل رموز التغيير ودعاة الحقوق المدنية، وخصوصاً أولئك الذين يتخطون "الخطوط الحمراء" في البلاد، مثل القضية الكردية ومذبحة الأرمن والمجاهرة بإنتقاد العقلية التركية المتطرفة. ورغم أن توصيف "الدولة الخفيّة" هوالدارج حين التعرض لأجنحة التصفية وفرق الإغتيالات ومنظمات العنف الخاصة في البلاد، الاّ أن شيوع ثقافة التعصب والإستعلاء القومي ودعم أجهزة ومؤسسات الدولة وتبنيها لتلك الثقافة، يشير إلى السطوة والقوة والعلانيّة التي تتمتع بها الدولة الخفيّة أو المتجذرّة تلك.
والحال، إن هذه الدولة تتشكل من جناحين قوييّن، هما مؤسسة الجيش التركي وحزب الحركة الوطنية المتطرف. الجيش وحزب الحركة الوطنية هما من يمدان مفاصل الدولة السرية بأسباب البقاء. الأول يحميها ويمدها بالخطط والمعلومات الإستخباراتية، ويلجم مؤسسات الحكومة(المنتخبة!) عن ملاحقة رجالاتها( كمثال اعلان براءة رئيس هيئة أركان الجيش التركي يشار بويكانيت من تهمة الوقوف وراء محاولة إغتيال ناشط مقرب من حزب العمال الكردستاني في مدينة شمزينان الكردية في 9/11/2005، رغم إدانته بالوثائق بادئ الأمر)، والثاني يؤمن لها الكوادر المدربة ويؤسس لها القاعدة الواسعة لتقبل الأفكار وتجنيد المزيد من الشبان الصغار لتنفيذ عمليات تصفية بحق الشخصيات المعارضة في البلاد. وما إغتيال شاب تركي صغير للصحفي الأرمني هيرانت دينك في 19/1/2007 بسبب "اهانة دينك للعرق التركي" كما قال، سوى تطبيق عملي دموي لأفكار وآراء تعمل ماكينة الدولة الخفيّة على نشرها في طول وعرض البلاد، وترصد لها كل الأمكانات والسبل.
وقد اثبتت التحقيقات تورط عدة أشخاص من مدينة طرابزون، وهي أحد معاقل الفاشيين الأتراك أنصار حزب الحركة الوطنية القومي بقيادة دولت بغجلي، في مقتل الصحفي الأرمني المغدور. وحتى بعد القاء القبض عليه لم يخف الشاب اوغون ساماست افتخاره بإرتكابه الجريمة، وقال بإنه غير نادم على التخلص من دينك، فيما كان المخطط الثاني للجريمة ياسين هايار يصيح أمام كاميرات التلفزة وهو يساق إلى السجن، مهدداً الروائي التركي اورهان باموك بالقتل لمجرد إدانة باموك لقتلة دينك وقوله "بأن هناك منهجاً وراء قتل دينك وما الشاب ساماست سوى اداة تنفيذ صغيرة في مخطط تصفوي كبير يراد له تصفية كل الديمقراطيين والأحرار في البلاد". باموك وقبل يومين من الآن أجلّ زيارة كان من المزمع أن يقوم بها لجامعة برلين الحرة لإستلام شهادة الدكتوراه الفخرية، بسبب تلقيه تهديدات بالموت.
المد العنصري في تركيا يزداد بشكل مضطرد بين شريحة الشبان الصغار بشكل خاص. وتعمل الدولة التركية وأجهزتها المختلفة، وبشكل خاص تلك المسؤولة عن التربية والتعليم والنشر على تقوية هذا المد وشحن الجماهير بالأفكار القومية الإستعلائية، مع التركيز كثيراً على تصوير الأمر وكأن هناك مؤامرة كونية تستهدف تركيا ووحدة أراضيها. ولعل التصريحات الأخيرة التي أطلقها المسؤولون الأتراك ضد اقليم كردستان الجنوبية( كردستان العراق) والتلويح بالغزو العسكري والتدخل في كركوك( ومنع الأستفتاء الذي سوف يجيز إلحاقها باقليم كردستان، وبالتالي اضطهاد التركمان، كما يردد الإعلام التركي ليل نهار) والسيطرة على ولاية الموصل( التي هي في عرف الأتراك ولاية تركية الحقت بالعراق عنوةً) ألا دليل على قولنا هذا. ولا ننسى هنا الحجج التركية التي سوقهّا وزير الخارجية التركي السابق يشار ياكيش، حين تحضير واشنطن لإسقاط نظام صدام، والأستعادة المتكررة لإتفاقية 5 حزيران 1926 وحصة ال10% في نفط الموصل.
ولم يكن من المستغرب، والحال هذه، ان يتهم الكثير من الصحفيين والكتاب الأتراك الحكومة والجيش بخلق جو مشحون بالتهديد والوعيد بالحرب، وتأثير كل ذلك في دفع الشباب التركي للبحث عن عدو ما للنيل منه في محاولة لعمل شيء من شأنه أن يثأر من "العدو" الذي يٌهدد البلاد، أو "إبن البلد الخائن" الذي يهدد بقتويض البلاد من الداخل لتسهيل مرور الأعداء. والتهديد المتواصل وحشد القوات على الحدود لضرب الكرد في العراق ومقاتلي حزب العمال الكردستاني، دون القدرة على ذلك، إنما يولد إحباطاً وعجزاً كبيراً وغضباً في نفوس الأتراك. ويكون القسط الكير من الغضب موجهاً ضد المواطنين الكرد والسياسيين منهم على وجه الخصوص وضد الولايات المتحدة الأميركية التي تقف بوجه اي إجتياح تركي لكردستان العراق وكذلك ترفض السماح للقوات التركية بمهاجمة مواقع المقاتلين الكرد في (قوات حماية الشعب) التابعين لحزب العمال الكردستاني. ولعل ذلك هو التفسير الوحيد لمستوى العداء والكره اللافت للنظر الذي يكنه الأتراك للولايات المتحدة الأميركية، حيث تبين في استطلاع نشر مؤخراً أن أكثر من 70% من الأتراك يكنون الكره للولايات المتحدة الأميركية،. ولايحتاج المرء لمزيد من الذكاء ليعلم بأن السبب الرئيسي هو الدعم الأميركي للكرد في كردستان الجنوبية ووقوف واشنطن في وجه التدخل العسكري التركي.
وإنعكس هذا الكره على المزاج العام في البلاد، فظهرت أفلام ومسلسلات تركية تتضمن مغامرات خارقة لأبطال ومحاربين اتراك في العراق( كما في حال الكوماندوس التركي الذي لايهاب الموت بولات في سلسلة وادي الذئاب التلفزيونية المشهورة تلك)، وهي كلها تتكلم عن البطولة التركية المفقودة أمام الآلة العسكرية الأميركية.
وكانت ما تسمى "بكتائب الإنتقام التركية" هي التي أعلنت مسؤوليتها عن مقتل الصحفي الأرمني هيرانت دينك، وهددت هذه الجهة الروائي أورهان باموك بالمصير نفسه. وللعلم فإن هذه الجهة المجهولة هي تلك ادعت مسؤولية قتل 11 مديناً كردياً، بينهم 7 اطفال، في حديقة في مدينة ديار بكر في 12/9/2006، رداً على هجمات مقاتلي حزب العمال الكردستاني التي أودت بعشرات الجنود الأتراك أثناء المواجهات في اقاليم كردستان الشمالية.
الحكومة التركية التي يسيطر عليها (حزب العدالة والتنمية) من جهتها تساهم في تفاقم الشعور القومي المتطّير فاشيةّ لدى الأتراك، وذلك عندما تصر على صمتها إزاء مشاكل وقضايا البلاد العالقة، وتؤجل المواجهة مع الجيش والقوى القومية المتشددة. ومازالت الحكومة، حتى بعد حادثة مقتل الصحفي هيرانت دينك، تصر على الأبقاء على المادة 301 من قانون العقوبات التركي. و"كانت المادة 301 قد حظيت بصيت سيئ دولياً عندما استُنجد بها ضد الروائي أورهان باموك بسبب تعليقات أدلى بها في مقابلة مع صحيفة سويسرية في شباط 2005. وقال في المقابلة إنه "تم قتل ثلاثين ألف كردي ومليون أرمني" وأضاف "يكاد لا يتجرأ أحد على ذكر ذلك، لذا أنا أفعل. ولهذا السبب يكرهونني." ووُجهت تهم إلى أورهان باموك بموجب المادة 159 السابقة التي استُبدلت بها المادة 301 في حزيران 2005. حيث اتهم باحتقار العنصر التركي والطعن في هوية الأمة"( في ذلك أنظر: منظمة العفو الدولية). والمادة 301 التي صدرت عام 2005 تجعل من "إهانة الحكومة والهيئات القضائية أو الشرطة أو الأنظمة العسكرية" جريمة يعاقب عليها بالسجن لفترة تتراوح ما بين ستة أشهر وثلاث سنوات. وكان دينك قد تعرض للمسائلة بحسب هذه المادة في فترة سابقة نتيجة مقالات كتبها عن مذابح الأرمن والعلاقات الأرمنية ـ التركية.
ثمّة إذن شرعّنة حكومية واضحة لحالة الأستلاب الحاصلة لدى قطاعات الشباب التركي. هناك من يصمت وهو يرى إنحدار الشباب في البلاد لدرك العنصرية المقيتة تلك، لدرجة أن اشتباكات يومية تحصل بين الأتراك وبعض المقيمين الكرد في مدن الداخل التركي، على خلفية انتماء هؤلاء للعرق الكردي فقط، وإتهامهم بموالاة حزب العمال الكردستاني المسيطر في ولايات شمالي كردستان.
الدولة الخفيّة تستفحل في البلاد، وهناك تخاذل حكومي، وربما تواطئ في بعض الأوجه، إزاء المنهجيّة الناهضة في تسعير الأتراك ضد الجيران، والأميركان وعموم الغرب. ومع إصرار هذه الدولة و القائمين على شبكاتها على سياسة القتل والتصفية والتصعّيد فإن هناك خطراً كبيراً وحقيقياً في أن يتطور شر هذه الدولة ليجتاز الداخل ويطال الجيران في حرب أقليمية فادحة، وأزمة جديدة مٌصدرّة، كما حصل في قبرص ويحصل في كردستان الشمالية منذ أكثر من ثلاثين عاماً....