الديمقراطية ومعوقات تطبيقها في العراق
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
محاولة لمعرفة الذات ونقدها
في آيار 1999 شاركت في ندوة "الخيار الديمقراطي للعراق واشكالية التطبيق " التي اقامتها حركة قوى التيار الديمقراطي في بريطانيا، وكانت ورقتي حول " اشكالية الثقافة والديمقراطية" التي نشرت في العدد الخاص حول الاسلام والديمقراطية في مجلة معهد الدراسات العربية والاسلامية، العدد الثاني، لندن كانون الثاني 2000.
لقد أثار الموضوع سجالا حادا عندما تحدثت عن الصعوبات والمعوقات التي تقف عائقا امام تطبيق الديمقراطية في العراق وذلك لعدم وجود قيم وتقاليد و ثقافة ديمقراطية راسخة فيه. كما ان صعوبة تطبيق الديمقراطية لا يعود الى النظام الاستبدادي القمعي فحسب، بل الى مجمل البنية الفكرية والمجتمعية المتخلفة والى شبكة العلاقات الأبوية التقليدية وكذلك الى انقسام المجتمع الى اثنيات وقبائل وطوائف ومناطق ومحلات واحزاب متعارضة في قيمها وعاداتها واعرافها. واذا كان من المفروض ان يكون هذا التعدد و التنوع عامل غنى واثراء لثقافة الديمقراطية، غير ان الواقع غير ذلك، فالبنية الفكرية والمجتمعية والاقتصادية والسياسية التقليدية انتجت ثقافة قمعية متخلفة وتقاليد لا ديمقراطية وتناشزا اجتماعيا في طرائق التفكير والعمل والسلوك، تطورت في ظل بنية ابوية - بطريركية تقليدية، ساعدت على ترسيخ السلطة الاستبدادية والحكم الفردي والاستلاب الاجتماعي وولدت ذهنية انقسامية تعارضية جعلت الفرد العراقي منقسما على ذاته، متسلطا حينا وخاضعا حينا آخر. وهي نتيجة من نتائج هاجس الخوف المركب من الاستبداد والتسلط والقمع والتخلف المجتمعي، الذي هيمن على تاريخنا الاجتماعي منذ قرون عديدة وما زال مستمرا بالرغم من حصول العراق على الاستقلال الشكلي و دخول معالم التمدن والتحديث النسبي اليه. كل ذلك جعل العراقي متذبذبا غير مستقر على حال وفي صراع مستمر بين قيم البداوة و قيم الحضارة، وهو ما يتناقض مع قيم التعددية والديمقراطية والمجتمع المدني واحترام حقوق الانسان. كما يفسر ايضا المزاج الانفعالي، العاطفي، المتقلب، السريع التأثر والتأثير، المرتهن بتعارضات وتناقضات آنية تجعل شخصيته مزدوجة ومتناشزة وضعيفة غير قادرة على معرفة ذاتها ونقدها وتحديد موقعها من الاخر المختلف والوعي بالهوية وبالعلاقة بين الأنا والاخر و مواجهة التحديات التي تجابهها. وهو ما اوصلنا الى هذه الردة الحضارية التي اعادتنا الى الوراء قرونا عديدة.
فبعد التخلص من النظام الدكتاتوري المخلوع الذي خلف وراءه تركة ثقيلة من التخلف والقهر والبؤس والاحتراب، وقع العراق في حالة من الفوضى وانعدام الامن والتمزق الاجتماعي والانهيار التدريجي، محاصرا بين قوات الاحتلال الغاشمة، التي لها مصالحها الاستراتيجية التي تتخطى العراق واجندتها التكتيكية التي أدخلت العراق في نفق مظلم طويل ومغلق وهو محاصر بين منظمات ارهابية وعصابات اجرامية مرتزقة وميليشيات طائفية ذات مصالح خاصة ومجموعات من المهمشين والعاطلين عن العمل وغيرهم من جهة، وبين حكومة محاصصة ضعيفة لا حول لها ولا قوة، يستشري بين مفاصلها الفساد وتنخر في جسدها الرشوة والمحسوبية والمنسوبية من جهة ثانية، وبين شعب ممزق ومنقسم على ذاته وفيه من الصراع الاثني والقبلي والطائفي والطبقي اكثر من اي بلد عربي آخر، والاتصال بين الريف والمدينة هو اتصال قبلي وطائفي يزيد من تخلفه الاجتماعي والثقافي وتطاحنه السياسي، مع ضغوط وتدخلات دينية وقومية وطائفية وسياسية من قبل دول الجوار لتشابك العلاقات والمصالح والادوار معها من جهة ثالثة.
كل هذه العوامل مجتمعة تؤثر على طبيعة الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وعلى العقل والسلوك وتحدث خللا وتناشزا وصراعا يزيد من حدة الاحتراب السياسي والطائفي والطبقي، وكذلك من وتيرة العنف والارهاب. وهو لذلك بامس الحاجة الى تغيير وعيه الاجتماعي والسياسي وعقليته وسلوكه ونظرته الى الاخر وبذل الجهود لتعلم قيم التسامح والديمقراطية والتمرن على ممارستها التي تتيح له فسحة من الامل والحرية والاستقلالية في ابداء الرأي واحترام الرأي الآخر والتواصل والتفاهم والحوار.
والواقع ان طريق الديمقراطية طويل ومعقد وغير معبد وفيه معوقات عديدة ويحتاج الى إعداد وتربية وتعليم ووعي بها وممارسة لقيمها ومعاييرها، اذ ليس من السهل تحويل الشعب العراقي بين ليلة وضحاها الى شعب يحترم ويطبق ويمارس مبادئ الديمقراطية وقيمها ومعاييرها بعد عقود طويلة من الاستبداد والظلم والقهر والحرمان، واستعادة وعيه المستلب وتجاوز العقبات العديدة التي تقف امامه، وتعيق وحدته الوطنية، وتعيد هويته الممزقة وتجعله ينظر الى الامور نظرة موضوعية ليست ذات بعد واحد.
واذا كانت الديمقراطية اليوم خيار ضروري لا بديل له، فينبغي خلق المناخ الفكري والاجتماعي والثقافي والسياسي لها والسعي الى تشكيل بنية ذهنية متحررة من ثنائية التسلط والخضوع وتستلزم ثقافة متسامحة ومنفتحة على الاخرالمختلف ووعيا بقيم الديمقراطية والتعددية واحتراما لحقوق الانسان. ولا يتم ذلك الا ببناء وتطوير وتنمية منظمات المجتمع المدني وآلياتها بشكل صحيح، التي تكون جماعات مراقبة وضغط حتى تستطيع القيام بواجباتها وان تكون مستقلة عن الدولة ومتحررة من آيديولوجيتها.
ان الديمقراطية عقد اجتماعي بين المواطنين تقوم على الحرية والعدالة والمساواة في اطار الدولة الحديثة التي تقوم على الدستور وسيادة القانون ويكون الشعب هو مصدر السلطات وشرعيتها، مثلما تقوم على منظومات المجتمع المدني التي تعمل على التحكم بقدرة المجتمع الذاتية وتوجيهها، وكذلك امكانية افراد المجتمع وقدرتهم على ممارستها وفق قواعدها ومعاييرها وشروطها. فالديمقراطية تتطلب قبل كل شيء قناعات مسبقة بحق المواطنة وثقة متبادلة بين المواطنين واعتراف بآليات تطبيقها ومشاركة جميع الاثنيات والطوائف والاقليات الاخرى فيها.
واذا كانت الديمقراطية عقد اجتماعي يهدف الى بناء مجتمع مدني تعددي في اطار الدولة الحديثة القادرة على التفاعل مع المجتمع عن طريق المؤسسات المدنية، فان التعاقد الاجتماعي محكوم بقدرة المجتمع الذاتية على الوعي بقيم الديمقراطية وعلى امكانيات افراد المجتمع على احترام هذا العقد الاجتماعي وقبوله طوعا من قبل افراد المجتمع وممارسته في الواقع الاجتماعي. فالديمقراطية هي عقد عدالة ومساواة بين المواطنين باعتبارهم بشر. وكذلك اقرار مبدأ المواطنة الذي هو اساس الديمقراطية، التي هي مصدر الحق في المساواة السياسية وكذلك في ممارستها وفق قواعدها وشروطها ودفعها الى ايجاد صيغ جديدة للتعاقد والتعاون تؤلف بين الاثنيات والفئات والطوائف والاقليات وحمايتها من الذوبان واعطاءها حقوقها للمساهمة الجماعية في اطار وطني واحد وموحد يحول الصراعات الداخلية الى تنافس والاختلافات الى تعايش، ما دامت محكومة بوعي وطني واحد ومشترك يساعدها على تنمية قدراتها الذاتية وحمايتها من التدمير الذاتي. ان مبدأ المساواة هو في الواقع القوة المحركة التي تقوم عليها الديمقراطية، ونقطة البداية في عملية التحول التدريجي نحو الديمقراطية.
ان هذا التحول يتطلب في الواقع قناعات مسبقة بالمساواة مع الآخرين وثقة متبادلة بينهم، وعلى اقل تقدير، ثقة متقاربة بين الافراد والجماعات والاحزاب، بكونهم جميعا مواطنين متساويين في الحقوق، مثلما هم متساوون في الواجبات، وانهم شركاء في هذا الوطن ومتساوون في هذه الشراكة، وان لا نستثني الاقليات الاثنية والدينية والطائفية منها.
والحقيقة ان كل شعب من الشعوب قادر على انتاج واعادة انتاج وعيه الذاتي، ولكن الخطوة الاولى التي ينبغي ان يخطوها هي التعرف على مواطن الضعف والخلل في البنية الفكرية والمجتمعية والبدء بمعرفة الذات ونقدها قبل الدفاع عنها وجلدها، وان يسبق آليات الديمقراطية الوعي بمبادئها وخلق المناخ الفكري والاجتماعي والسياسي المتحرر لها. ان أية ثقافة ديمقراطية لا يكون لها معنى اذا لم تتوفر لها فضاءات واسعة لثقافة الديمقراطية وحضورها وممارستها، ليس في الاوساط الرسمية فحسب، بل وفي الاوساط الشعبية وفي هياكلها وبناءاتها المؤسسية، وكذلك في الاحزاب والمنظومات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكذلك في قوى المجتمع ونسيجه الداخلي، ولا يكون للديمقراطية معنى اذا افتقرت الى الحضور المجتمعي المؤسسي، أي الى مؤسسات مدنية قانونية مستقلة ترى في تعزيز ثقافة الديمقراطية شرطا اساسيا من شروط عملية التنمية وديمومتها واستمرارها كممارسة عملية وكأساس في الحكم وفي المجتمع المدني.
ان نظاما ديمقراطيا تعدديا واقعيا وليس شكليا ينبغي ان يتم وفق استفتاء مباشر وحقيقي وشفاف وتحت عيون منظمات مجتمع مدني متطورة ومتحررة من سلطات الاحتلال المباشرة وغير المباشرة تستطيع ارساء قواعد متينة لدولة مدنية حديثة بشروطها وآليات حركتها واستمرارها عبر تشريعات دستورية ديمقراطية تقوم على أولوية المواطنة ووحدة الهوية والثقة المتبادلة وفصل السلطات حتى تستطيع تخطي المعوقات التقليدية والمستجدة التي تقف عائقا امام ممارسة الديمقراطية.
لقد اثبتت التجارب ان حصر العملية الديمقراطية في تنظيم الانتخابات فقط هي عملية عبثية في دول ما زالت في مرحلة لم تكتمل فيها أسس بناء الديمقراطية، كما حدث في الكويت والجزائر والعراق وغيرها، حيث وقعت الدولة رهينة قوى لا ديمقراطية عرقلت مسيرة تقدمها لسنوات أخرى.
والحال اننا نتكلم عن الديمقراطية وحرية الرأي والعقيدة ولكننا لانطبق ما نقول في الواقع العملي، واذا فعلنا ذلك فاننا نستغله لمصالحنا الخاصة. فمن الملاحظ ان البعض منا يتشدق بمفاهيم الديمقراطية ويدعو الى تطبيقها، ولكنه لا يمارسها في بيته وعمله وفي علاقاته الاجتماعية والاقتصادة والسياسية. ان ممارسة الديمقراطية كثقافة وسلوك اجتماعي ينبغي ان تبدأ من البيت اولا ثم المدرسة والشارع والعمل وتنتهي بالمؤسسة السياسية والامنية والعسكرية. فالديمقراطية ليست مجرد افكار واقوال وشعارات نتغنى بها، وانما هي طريقة حياة وتفكير وعمل وسلوك وممارسة للحرية والتعددية وحقوق الانسان وفق قناعات الفرد الفكرية.
وباختصار، فالديمقراطية تبدأ حين نتعلم ان نقول: " أنت وانا" وليس "انا وأنت"، ذلك ان الديمقراطية ليست وهما وانما خيارا ضروريا صعبا، وفي ذات الوقت، ليست حلا سحريا ينزل علينا من السماء، وانما هي سيرورة ثقافية من الممكن ان نعيها وان نتعلمها ومن ثم نمارسها اذا ما توفرت الظروف والشروط والآليات المناسبة لتطبيقها.
استاذ وباحث في علم الاجتماع