متى نشرب هذه الكأس؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
-1-
يبدو أنه من المؤكد - حسب هابرماس Habermas - أن كلمة "حديث Modern" استُعملت لأول مرة في القرن الخامس الميلادي للتمييز بين عنصرين: أولهما الروماني الوثني وثانيهما الحاضر المسيحي المعترف به رسمياً. في حين يقول جان ماري دوميناك أن كلمة "حديث" ظهرت لأول مرة في التاريخ الأوروبي في القرن الرابع عشر. وأن مفهوم "الحداثة" لم يبرز إلا في العام 1850على يد شارل بودلير وجيرار دونرفال. إلا أن بعض الباحثين يؤكدون أن مصطلح "الحداثة" ظهر لأول مـرة في أوروبا في إحدى المجلات اللاهوتية في العام 1892. وأن أول ظهـور لهذا المصطلـح كان في وثيقة كنسية، في العام 1905 في "رسالة الأساقفة الوعظية المسيحية الجامعة لشمال إيطاليا".
-2-
الحداثة دعوة شمولية، لا تقتصر على جانب معين من جوانب الحياة. وهي دعوة شمولية كذلك لاكتشاف المجهول. وبالتالي فإنهـا ليست قراراً سياسياً، يؤخذ من أعلى، كمكرُمة ملكية، أو عطيّة أميرية، أو هبة شيخية، أو منحة رئاسية، بل هي رد فعل، لا يأتي من الداخل بقدر ما يأتي نتيجـة صدام الداخل مع الخارج، ونتيجة للتفاعل الحضاري. كما أن الحداثة وصف لحالة وتركيب المجتمع، بل هي حركة صراع داخل هذا المجتمع. ومن هنا يمكن وصفها على أنها موقـف من الإنسان، وأنها منطق جديد لرؤية العالم. وأن الحداثة رؤيا ثورية تقتحم السائـد في عقر داره.
-3-
الحداثة ليست قراراً سياسياً وليست قراراً فكرياً يتخذه السياسيون أو المفكرون. فهم اليوم وفي الأمس كانوا يتحدثون عن مشروع أسلمة الحداثـة أو تحديث الإسلام. المسألة لا تأتي هكذا ضمن مشروع ما، بقـدر ما تأتي استجابة للحاجة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. إن الحداثة استجابة للحياة ومتطلباتها وضرورات العيش فيها. قد يكون هناك شعب يعيش في العصر الحاضر ولكنه ليس بحاجة إلى الحداثة. أي أن طبيعة الحياة والفترة التاريخية والاجتماعية التي يحياها لا تتطلب ثورة حداثية في الاجتماع والاقتصاد والتعليم والسياسة. وأن دعوات الحداثـة التي تنشـأ بين صفوف مثل هذه الشعوب لا تتعدى أن تكون حركات فردية تقـوم بهـا مجموعة محدودة من الشعراء والكتاب. وتأتي هذه الحداثة مخالفة لتيار الحياة العامة التقليدي المحافظ. وتظهر كالرقعة الغريبة الناشزة Heteronomy في الثوب، غير متداخلة في نسيج الحياة العامـة، ذات خيوط نافرة وألوان فاقعـة.
-4-
وقد عبَّر عن هذه الحالة البرت حوراني، الذي دعا مثل هذه الحالة بالتشرقيّة Levantine . ودعـا الفرد بالتشرّقي، وهـو الفـرد الذي يعيش في الوقت نفسه في عالمين أو أكثر، دون أن ينتمي إلى أي منهما. وهـو الذي يتمكن من تلبُّس الأشكال الخارجية للعوالم دون أن يملكها بالفعل. وليس لهـذا الفرد قيمة ولا هو قادر على الخلق، وإنما هو مقلد ومُحاكٍ فقط. فلا هو بالسلفي الذي "فكر في الإصلاح والتحرير بعقل ينتمي إلى الماضي العربي الإسلامي ويتحرك ضمن إشكاليته. ولا هو بالليبرالي الذي بشَّر بالنهضة والتقدم بواسطة مركبات ذهنية، واستطاع تخريج الرجل العربي العصري".
ولنا من بعض الشعوب العربية خير مثال على ذلك.
فالحداثة لا قرار فيها لأحد.
إنها قرار الحياة الشامل.
والحداثة، يجب أن تؤخذ بحلوها ومرّها. وهي مريرة جداً بالنسبة لنا نحن العرب. إنها ككأس العلقم، مرٌ شديد المرارة، ولكن لا بد منه للشفاء من هذه الأمراض التي تفتك كل يوم بالجسم العربي.