النقد السياسي وأمن العراق..
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
إن التفجير الرهيب في سوق الصدرية أمس، والذي ذهب بسببه مئات من القتلى والجرحى العراقيين، يبرهن مجددا على أن المشكلة الأمنية يجب أن تتصدر اليوم جميع المهمات الأخرى، ومن ثم يجب العمل لحشد كل الوطنيين المخلصين، وبصرف النظر عنالاتجاهات والمذاهب والعروق والأديان، وحشد كل المواطنات والمواطنين الشاعرين بمسؤولية المواطنة وواجباتها، للسعي معا لإنجاح هذه المهمة العاجلة جدا.
إن مصير الوطن أكبر واهم من كل انتماء حزبي أو فئوي، ومن أجل الشعب يجب العمل بنكران ذات، دون أن يعني ذلك تجاهلا للحقوق والمطالب المشروعة للقوميات والفئات المختلفة.
إن أداء المهمة الأمنية يتطلب، فيما يتطلب، ترك كل مطلب أو شعار من شأنه زيادة البلبلة وتدهور الأمن، ومن ذلك الدعوة لقيام فيدراليات جديدة في الوسط والجنوب، لمجرد غلبة المذهب الواحد على أكثرية السكان هناك.
يقول أحد الفلاسفة :" كل الحقائق يجب أن تقال ولكن ليس الجميع على استعداد لسماعها."
إن العمل السياسي داخل كل بلد ليس كالعمل الدبلوماسي بين الحكومات، حيث يتطلب هذا قدرا كبيرا من اللباقة الدبلوماسية، وحيث لا يمكن قول كل شئلا يدخل في المشاكل بين دولتين معينتين. كما أن هذه المقولة لا تنطبق في المجالات الحساسة التي تثير المشاعر المذهبية والدينية وتهيجها، كالكلام الصريح عن بعض الطقوس مثلا.
ما دامت المشكلة الأمنية هي اليوم رأس المشاكل وأكثرها إلحاحا، فإن الحديث الصريح عن الخطط والإجراءات والمواقف الحكومية في معالجة المشكلة ليست ضرورة وحسب بل هو واجب وطني من الدرجة الأولى.
إننا ، مع الأسف، نفتقد لأية تقاليد في النقاش والحوار الديمقراطيين المتحضرين. إن الرائج هو رفض النقد، والامتعاض منه، والرد باتهامات أو تجريح للأشخاص؛ ولو تفحصنا معظم الردود على مقالات كتابنا العراقيين من ذوي الولاء الوطني والجرأة والصراحة النقدية من منطلق الحرص الوطني، لوجدنا مصداقا لما نقول. هناك مثلا من لا يناقشون الأفكار بل يتهجمون على الكاتب، مبرهنين بذلك على عدم استعداد تام لقبول النقد وعلى عجز عن الرد على الرأي بالرأي. إننا أبعد ما نكون عن قول فولتير:
" أخالفك في الرأي ولكنني أدافع عن حقك في إبداء الرأي." أجل، بعيدون بعد السماء عن الأرض، رغم أن العراق الحديث شهد في بعض الفترات نقاشات صريحة ودية حتى داخل البرلمان، الذي كانت انتخاباته مزورة. ومن الأساليب الرائجة للعديد من المثقفين المسيسين، نبش "دفاتر عتيقة" عن الأشخاص "أكل الزمن عليها وشرب". ولو كانت بعض المواقف القديمة لهذا السياسي أو الكاتب هي معيار صواب الكلمة أو الموقف السياسي، إذن لشطبنا على قيادات وشخصيات عراقية كثيرة، كان منهم من سبق أن انضم للحرس القومي عام 1963، ومنهم من كانوا يحتلون مراكز أمنية خطيرة زمن صدام، أو من تفاوضوا معه حتى بعد سحق انتفاضة 1991؛ غير أن هؤلاء سبق أن غيروا مواقفهم السياسية، معتبرين بتجارب أمس، وأصبحوا أهلا للثقة والاحترام. إن المتعنتين وحدهم لا يعترفون بالخطأ ولا يستفيدون منه للتصحيح ما دام الغرض هو خدمة شعب ووطن. ومن جهة أخرى، فإن أي ماض سياسي لا غبار عليه لا يبيح لأي سياسي، خصوصا إن كان في الحكم، اقتراف أخطاء سياسية جسيمة تلحق الضرر بالعراق ومستقبله، ولا يعفيه من النقد السياسي الصريح، لان العبرة هي في الأداء الراهن والمواقف الراهنة.
من هذه المنطلقات، تعبر مقالات كما تعبر مقالات العديد من كتابنا عن انتقادات نعتقد بصحتها في قضايا الساعة، من دون مزايدة ما، إذ لا هدف لنا غير الخدمة الوطنية وممارسة واجب وطني من الدرجة الأولى، مع ترك الباب مفتوحا لتبادل الآراء لتبيان ما هو صحيح وما هو خاطئ في انتقاداتنا.
إننا لسنا من المعتقدين بامتلاك الحقيقة المطلقة وما يترتب على ذلك من اعتبار كل نقد من باب المس بالمقدسات. إن الحقائق السياسية، كغيرها نسبية، ولا نتردد عن الاعتراف بالخطأ إذا كان الانتقاد خاطئا من سوء الفهم أو اللبس.
لقد وضعت الحكومات العراقية المتوالية منذ سقوط نظام البعث خططا أمنية عديدة لم تستطع تحقيق المطلوب، بل الإرهاب يتفاقم ويتسع ويزداد وحشية، والتدخل الإقليمي متواصل، دون أن تتخذ الحكومات العراقية تدابير فعالة لوقف هذا التدخل، بل إنها المجاملة مع بعض هذه الدول وخصوصا إيران، والسماح لها بالتغلغل المتعدد الميادين، وبدلا من النقد الحازم يجري الثناء على مواقفها وتزكيتها من كل مسؤولية عن التدهور الأمني وانتشار الطائفية.
لقد كان من رأينا ولا يزال أن أمن العراقيات والعراقيين لا يمكن ضمانه إن كان جزء من القوات والأجهزة الحكومية نفسها طرفا فاعلا في انتشار العنف والفوضى الأمنية، وإن ظلت المليشيات الحزبية التابعة لأحزاب هي في السلطة والبرلمان تواصل انفلاتها وممارساتها التي تجعل الوضع الأمني أكثر تدهورا وتفاقما. إن إرهابا تمارسه أطراف في الحكومة يجب وقفه ومحاسبة القائمين به، ولا يمكن التستر على هذا الواجب بالتذكير بجرائم القاعديين والصداميين، الذين يشكلون الخطر الأكبر على العراق، والذين يجب حشد كل القوى والوطنيين لضربها ضربات موجعة ومتلاحقة بمساعدة القوات متعددة الجنسيات، التي يتفق غالبية العراقيين على وجوب بقائها فترة أخرى قبل أن يتمزق العراق وتنشب الحروب المحلية الدامية بين "كانتونات" ما بعد التقسيم والتمزيق!
إن واجب جميع أطراف الحكم والأجهزة الرسمية تعبئة القوى لضرب الإرهاب وفق خطط ناجعة ومحايدة، بعيدة عن الانحياز الطائفي، أما استمرار خرق بعض الأجهزة والأحزاب والمليشيات التابعة لها بانتهاك الأمن وتحدي بنود الدستور، الذي يحظر وجود مليشيات، فإن أية خطة أمنية لا يكتب لها النجاح.
مما مر، يزداد اتضاحا لكل من يتحرى الحقيقة والموضوعية مغزى ومبررات نقدنا المتكرر للمليشيات والدعوة لقيام فيدراليات جديدة ستثير البلبلة والتوتر، فضلا عن أن هذا ليس وقت طرح قضية ساخنة كهذه يمكن مناقشتها بحرية في جو سياسي قادم يتميز بالاستقرار بعد ضرب الإرهابيين وبعد معالجة مشاكل الخدمات، لا أعتقد شخصيا أن المواطنين الذين يفقدون كل يوم عشرات ومئات منهم في عمليات التفخيخ والتفجير، أو تتعرض عائلاتهم للتهجير قسرا ونهب ممتلكاتهم، والمعرضين للخطف وقطع الرؤوس، تهمهم حاليا قضية الفدراليات الجديدة بقدر ما تشغلهم أولا وعاشرا القضية الأمنية، وبعدها تصليح معالجة الخدمات.
إن رفض النقد السياسي الصريح، والتشهير بممارسيه، لا يخدمان أية قضية وطنية، إن لم يبرهنا على صواب النقد، والعجز عن النقاش المتحضر وبروح الحرص على الحقيقة لخدمة الشعب والوطن المستباحين!